أما ترى أن كثرة الحديث عن الحزبيين والانشغال بهم عن المقصود؛ أعني طلب العلم، فلو بينّا الخطأ وتجاهلنا المخطئ، لكان مثل الإعراض عن الكلام في أبي حنيفة.
يقال أولاً: إن الكلام في المبطلين من أهل البدع سواء كانوا من الحزبيين أو غيرهم هذا واجبٌ شرعي، وهو من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن العلم لا يطلب لذاته فحسب، بل من مقاصد طلب العلم أن يُعمل به، ومن العمل بالعلم: بيان خطأ المخطئين، سواء كان في الشبهات أو الشهوات.
ومن ذلك الرد على المخالفين من أهل البدع من الحزبيين وغيرهم، أو كل من أخطأ ولو كان من أهل السنة.
وليس هذا انشغالاً إلا بما جاءت به الشريعة، وليس صادًا عن العلم، بل هو مُعِينٌ، فإن العمل بالعلم سبب لثبات العلم وزيادته، لكن لمن أحسن النية، واحتسب الأجر في مثل ذلك.
ثانيًا: فإنك تعجب من أمثال هذه الأسئلة، وسبب العجب أنك ترى أمثال هؤلاء في الغالب يشكرون لرجال الحسبة والهيئة اجتهادهم في إنكار المعاصي الشهوانية في المجتمع، وتتبعهم ذلك… إلى غير ذلك، ويشكرون لمن يقوم بالجمعيات الخيرية من القيام على الضعفاء والمساكين… إلى غير ذلك، ولا يعدون هذا انشغالاً عن العلم، بل يعدون هذا عملاً للخير، وفيه أجرٌ وثواب.
فيقال: إن لازم ما ذكرت من السؤال أن يقال لمن يعمل في الحسبة: دع عنك العمل في الحسبة، فإنه يشغل عن العلم …إلى غير ذلك، أو يقال لمن يقوم بالأمور الخيرية، وكلا هذين اللازمين باطلان، وإنما المطلوب شرعًا أن نسعى في أعمال الخير كلها، في إغاثة المسلمين، وإنكار المنكرات الشهوانية، وكذلك المنكرات الشبهاتية التي هي أدق، ومن ذلك الرد على المخالف، فإن هذا مطلب شرعي، ينبغي أن نسعى إليه، وليس انشغالاً عن العلم كما تقدم.
ثالثًا: فإنه ينبغي أن يُعلم أن أمثال هذه الأمور يبدو لي في الغالب، أن من يسأل هذه الأسئلة، في نفسه شيء من أصل الإنكار على الحزبيين؛ لذا تراه لا يورِد هذا الإيراد نفسه في الإنكار على الليبراليين، أو الإنكار على الصوفية، أو الإنكار على الشيعة، وغير ذلك.
فالمشكلة عند كثير ممن يسأل أمثال هذه الأسئلة فيما أظن- والله أعلم- أن عنده مشكلة، وترددًا، وعدم وضوح في ضلال الحزبيين وخطئهم، ووجوب الإنكار عليهم.
فلذا ينبغي لأخينا أن يسترشد في أمثال هذه الأمور حتى يتضح له الأمر بدلائل الكتاب والسنة.
وكثير ممن يكون عنده ضعف في هذا إما أن يرجع إلى ضعف العلم الشرعي عنده، أو إلى عدم معرفة ما عليه الحزبيون.
أتدرون ؟! أن من الحزبيين اليوم من يقول إن الحرية مقدمة على الشريعة! أتدرون أن كثيرًا من الحزبيين اليوم دعوا للثورات، فسفكت الدماء، وانتهكت الأعراض في سوريا، وليبيا، واليمن، وغيرها بسبب دعوتهم إلى الثورة وغير ذلك، فالوقوف تجاه هؤلاء من أوجب الواجبات لمن كان عالمًا، وقادرًا.
رابعًا: الأمر الأخير، أذكِّر أخي وغيره بأن خير الهدي، هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، والشريعة جاءت بإنكار البدعة، والإنكار على صاحب البدعة، وجاءت بالإنكار عمومًا على كلِّ معصية، ومن ذلك: البدع، قال سبحانه: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَر﴾ [آل عمران:110].
فيجب علينا أن ننكر كل منكر.
وأخرج مسلم من حديث أبي سعيد، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ‹‹مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ››، … الحديث.
فيجب علينا أن ننكر كل منكر، ومنكرات الشبهات أشد من منكرات الشهوات بالإجماع، كما حكى الإجماع شيخ الإسلام ابن تيمية، كما في “مجموع الفتاوى”، والنبي -صلى الله عليه وسلم- حذَّر من البدعة، ومن أصحاب البدعة، أخرج مسلم من حديث جابر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول كلَّ جمعة على المنبر: ‹‹أَحْسَنُ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ››، هذا تحذير من كل بدعة.
وأخرج الشيخان من حديث عائشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ‹‹إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّاهُمُ اللَّهُ، فَاحْذَرُوهُمْ››، أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن نحذرهم لضلالهم.
ولازم هذا ومقتضاه: أن نحذِّر الناس من ضلالهم، فإذن الشريعة جاءت للإنكار على البدعة، وعلى صاحب البدعة، وكلام السلف في هذا كثير، في التحذير من البدع، ومن أصحابها، وتسميتهم إلى غير ذلك.
ولو رجعت إلى كتاب “مناقب الإمام أحمد” لابن الجوزي لرأيت أسماءً كثيرةً حذَّر منها الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-؛ لأنهم وقعوا في بدعٍ، فقد حذر الإمام أحمد من الحسن بن صالح بن حي، ومن حسين الكرابيسي الشافعي المعروف، وحذَّر من خلق كثيرٍ؛ لأنهم وقعوا في بدعٍ.
فإذن، اللهَ اللهَ أن نكون بالكتاب والسنة متمسكين، وعلى طريقة السلف سائرين، حتى ننجو، لمن أراد النجاة.
أسأل الله الذي لا إلا هو أن يعلّمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وجزاكم الله خيرًا