أهمية الرجوع للعلماء وأثره في الوقاية من الفتن
إن من حكمةِ الله تعالى ورحمتِه أن يصطفي من الناسِ أئمةَ هدى وعلمٍ وصلاحٍ وحكمة يهتدي بهم الناسُ في ظلمات الجهل والشبه والضلال {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} ، فإذا فقدَ الناسُ هؤلاءِ الأئمة ضلَّوا الطريقَ المستقيم ، وببقاءهم بقاءُ العلم والخير والصلاح للناس أجمعين ، فإذا ذهبوا وقع الناس في الضلال كما في الصحيحين من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص t عن النبي r قال : إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا ؛ فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا”. وفي المسند عن أنس t عن النبي r قال :” إن مثَلَ العلماءِ في الأرضِ كمثلِ النجومِ في السماءِ يُهتدى بها في ظُلماتِ البرِّ والبحرِ ، فإذا طُمِستِ النجومُ أوشك أن تَضِلَّ الهُداة “.فالعلماء كالنجوم في السماء فهم زينة الأرض وبهم يهتدي الناسُ في الظلمات ، وهم رجومٌ للشياطين الذين يخلطون الحقَّ بالباطل ويدخلون في الدين ماليس منه من أهل الأهواء . ولما كان العلماءُ بهذه المنزلةِ كان ولابدَّ من معرفةِ قدرِهم ومكانتِهم في الشريعةِ وفي المجتمعِ ، وعِظم شأنهم في الخلق نفعاً ونصحاً وتوجيهاً خاصة أيام الفتن والمحن. وما ذلك إلا أنهم ورثةُ الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظٍ وافر “. متفق عليه من حديث أبي الدرداء .العلماء هم أهل الخشية لله { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ }. جعلهم اللهُ مرجعَ الأمةِ في السؤالِ وعند وقوع الفتن والمحن ، فقال تعالى {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً }. قال الحسن: الفتنة إذا أقبلت عرفها كل عالم، وإذا أدبرت عرفها كل جاهل (خ تاريخ 4/322). وإنما أمر الله تعالى بالرجوع لأهل العلم والفقه أيام الفتن والمحن لأن من أعظمِ مكائد الشيطان لأهل الهوى والغاليين والخوارج أنَّه يُزيِّن لهم اتِّباعَ الهوى وركوبَ رؤوسِهم وسوءَ الفهم في الدِّين، ويُزهِّدهم في الرجوع إلى أهل العلم؛ لئلاَّ يُبصِّروهم ويُرشدوهم إلى الصواب، وليبقوا في غيِّهم وضلالهم، والله تعالى يقول {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ }, وقال:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ }, وقال { أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ } ، وقال:(( هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ ))، وعند البخاري ومسلم من حديث عن عائشة رضي الله عنها: أنَّ النَّبيَّ r تلا هذه الآية، فقال: (( إذا رأيتم الذين يتَّبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمَّى الله فاحذروهم )).
ولبيان فضل الرجوع للعلماء وأثره في الوقاية من الفتن ، وخطر الزهد والوقيعة فيهم . نذكر ما حصل للخوارج الذين خرجوا على عليٍّ t وقاتلوه، فإنَّهم فهموا النصوصَ الشرعية فهماً خاطئاً مخالفاً لفهم الصحابة ، ولهذا لَمَّا ناظرهم ابن عباس t بيَّن لهم الفهمَ الصحيح للنصوص ، فرجع مَن رجع منهم، وبقي من لم يرجع على ضلاله . وتأملوا في وصف ابن عباس t لهم بقوله : وأتيتُ قوماً لم أرَ قوماً قطُّ أشدَّ اجتهاداً منهم ، مسهمة وجوههم من السَّهر ، كأنَّ أيديهم وركبهم تثنى عليهم . وهذا مصداقٌ لحديث الصادق المصدوق r بقوله في حديث أبي سعيد الخدري عند مسلم : يَخْرُجُ فِى هَذِهِ الأُمَّةِ قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلاَتَكُمْ مَعَ صَلاَتِهِمْ فَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ. لاَ يُجَاوِزُ حُلُوقَهُمْ أَوْ حَنَاجِرَهُمْ يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ “. وذلك أن ابن عباس t قال لهم : أتيتُكم من عند صحابة النَّبيِّ r من المهاجرين والأنصار، لأبلِّغكم ما يقولون، المخبرون بما يقولون، فعليهم نزل القرآن، وهم أعلمُ بالوحي منكم، وفيهم أنزل، وليس فيكم منهم أحد . فكان ردّهم أن قال بعضُهم : لا تخاصموا قريشاً، فإنَّ الله يقول:(( بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ )). قال ابن عباس: فرجع من القوم ألفان وقُتل سائرُهم على ضلالة . ففي هذه القصة أنَّ ألفين من الخوارج رجعوا عن باطلهم؛ للإيضاح والبيان الذي حصل من ابن عباس t ، وفي ذلك دليلٌ على أنَّ الرجوعَ إلى أهل العلم فيه السلامة من الشرور والفتن ، وقد قال الله عزَّ وجلَّ:(( فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ )). ومِمَّا يدلُّ على أنَّ الرجوع إلى أهل العلم خيرٌ للمسلمين في أمور دينهم ودنياهم ما رواه مسلم في صحيحه عن يزيد الفقير قَالَ : كُنْتُ قَدْ شَغَفَنِى رَأْىٌ مِنْ رَأْىِ الْخَوَارِجِ يعني أنهم يرون أن أصحاب الكبائر يخلدون في النار ولا يخرج منها من دخلها ، قال : فَخَرَجْنَا فِى عِصَابَةٍ ذَوِى عَدَدٍ نُرِيدُ أَنْ نَحُجَّ ثُمَّ نَخْرُجَ عَلَى النَّاسِ ، قَالَ : فَمَرَرْنَا عَلَى الْمَدِينَةِ فَإِذَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
t يُحَدِّثُ الْقَوْمَ ، جَالِسٌ إِلَى سَارِيَةٍ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ r ، قَالَ : فَإِذَا هُوَ قَدْ ذَكَرَ الْجَهَنَّمِيِّينَ – يعني أهل النار – قَالَ : فَقُلْتُ لَهُ يَا صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ : مَا هَذَا الَّذِى تُحَدِّثُونَ ، وَاللَّهُ يَقُولُ (إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) وَ (كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا) ، فَمَا هَذَا الَّذِى تَقُولُونَ ؟ قَالَ فَقَالَ : أَتَقْرَأُ الْقُرْآنَ : قُلْتُ نَعَمْ. قَالَ فَهَلْ سَمِعْتَ بِمَقَامِ مُحَمَّدٍ r يَعْنِى الَّذِى يَبْعَثُهُ اللَّهُ فِيهِ؟ قُلْتُ : نَعَمْ. قَالَ فَإِنَّهُ مَقَامُ مُحَمَّدٍ r الْمَحْمُودُ الَّذِى يُخْرِجُ اللَّهُ بِهِ مَنْ يُخْرِجُ. قَالَ : ثُمَّ نَعَتَ وَضْعَ الصِّرَاطِ وَمَرَّ النَّاسِ عَلَيْهِ وذكر أَنَّ قَوْمًا يَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ بَعْدَ أَنْ يَكُونُوا فِيهَا، قَالَ : يَعْنِى فَيَخْرُجُونَ كَأَنَّهُمْ عِيدَانُ السَّمَاسِمِ . قَالَ : فَيَدْخُلُونَ نَهْرًا مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ فَيَغْتَسِلُونَ فِيهِ فَيَخْرُجُونَ كَأَنَّهُمُ الْقَرَاطِيسُ . فَرَجَعْنَا ، قُلْنَا وَيْحَكُمْ ، أَتُرَوْنَ الشَّيْخَ يَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ r فَرَجَعْنَا ، فَلاَ وَاللَّهِ مَا خَرَجَ مِنَّا غَيْرُ رَجُلٍ وَاحِدٍ . فهذا الحديث يدلُّ على أنَّ هذه العصابةَ ابتُليت بالإعجاب برأي الخوارج في تكفير مرتكب الكبيرة وتخليده في النار، وأنَّهم بلقائهم جابراً t وبيانه لهم صاروا إلى ما أرشدهم إليه، وتركوا الباطلَ الذي فهموه، وأنَّهم عدلوا عن الخروج الذي همُّوا به بعد الحجِّ . وهذا مما يبين أعظم البيان الأثر العظيم في أهمية الرجوع للعلماء وأثره في الوقاية من الفتن . وأعظم مدخل للشيطان أن يدخل إلى أهل العبادة لإفساد دينهم من باب الإفراط والغلوِّ في الدِّين، كما حصل من الخوارج والعصابة التي شغفت برأيهم، وأنَّ طريق السلامة والوقاية من الفتن الرجوع إلى أهل العلم ، كما حصل رجوع ألفين من الخوارج بعد مناظرة ابن عباس رضي الله عنهما، وعدول العصابة عمَّا همَّت به من الباطل برجوعها إلى جابر بن عبد الله t . وما تقدم يبين أعظم البيان عظمِ وأهمية الرجوع إلى العلماء الراسخين خاصة زمن الفتن والمحن ، فقد جعلهم اللهُ مرجعَ الأمةِ في السؤالِ وعند وقوع الفتن والمحن ، فقال تعالى {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ }. وما حدث خلال السنوات الماضية من خوض كثير من شباب هذه البلاد المباركة ووقعهم في الفتن إنما هو بسبب تجاهلهم لأهل العلم الراسخين من العلماء الربانين ، الموثق بعلمهم ودينهم ، والذي أناط ولي الأمر المسؤوليةَ عليهم في إفتاء الناس وتعليمهم خاصة أيام الفتن . ولاشك أن هذا أمر خطير ينذر بشرٍّ عظيم ، لأن الشباب إذا لم يصدروا عن أقوال العلماء الراسخين فسوف يصدرون عن أقوال المتعالمين وأصحاب الأهواء وحدثاء الأسنان ، ولا يخفى خطر ذلك على البلاد والعباد . وتزهيد الناسِ بالعلماء الراسخين ينتج عنه الوقيعةَ بهم والنيلَ من أعراضهم واتهامهم في دينهم وأمانتهم . ومن المعلوم أن من تعرض للعلماء بالسوء والتنقيص وعادهم فقد حارب ربَّ العالمين ، والله يقول في الحديث القدسي: “من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب”. ومن المتقرر أن لحوم العلماء مسومةٌ وعادة الله في هتك أستار متنقصيهم معلومة . وقد قال الإمام الطحاوي رحمه الله : وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين أهل الخير والأثر ، وأهل الفقه والنظر لا يذكرون إلا بالجميل ، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل . وذلك أن القدح في العلماء يرجع عند العامة إلى الشريعة وحملتها ، فالقدح فيهم قدحُ في الشريعة وتشكيكٌ للناسِ بحملة الشريعة وبالشريعة السمحاء ، فيضعف عند ذلك حبُّ الناسِ للدين وأهله ، فالطعن في العلماء الربانيين هو طعن في الدين . قال ابن أبي العز الحنفي : يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ بَعْدَ مُوَالَاةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مُوَالَاةُ الْمُؤْمِنِينَ ، كَمَا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ ، خُصُوصًا العلماء الَّذِينَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ ، الَّذِينَ جَعَلَهُمُ اللَّهُ بِمَنْزِلَةِ النُّجُومِ ، يُهْدَى بِهِمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ . وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هِدَايَتِهِمْ وَدِرَايَتِهِمْ ، إِذْ كُلُّ أُمَّةٍ قَبْلَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ rعُلَمَاؤُهَا شِرَارُهَا ، إِلَّا الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنَّ عُلَمَاءَهُمْ خِيَارُهُمْ ، فَإِنَّهُمْ خُلَفَاءُ الرَّسُولِ مِنْ أُمَّتِهِ ، وَالْمُحْيُونَ لِمَا مَاتَ مِنْ سُنَّتِهِ ، فَبِهِمْ قَامَ الْكِتَابُ وَبِهِ قَامُوا ، وَبِهِمْ نَطَقَ الْكِتَابُ وَبِهِ نَطَقُوا ، وَكُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ اتِّفَاقًا يَقِينًا عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ الرَّسُولِ r .اهـ
فعلى المرء أن يتقى الله تعالى خاصة في زمن الفتن والمحن والتي تعج ببلاد المسلمين في هذا الزمن ، فلا يصدر إلا عن قول العلماء الراسخين الربانيين . ومن المعلوم أن من أعظم أسباب النجاة في زمن الفتن لزوم جماعة المسلمين ، وإمامهم والسمع والطاعة لهم بالمعروف ، كما بيّن ذلك النبي r في حديث حذيفة t . ومن المعلوم أن الإسلام لا يقوم إلا بجماعة ولا جماعة إلا بإمامة ولا إمامة إلا بسمع وطاعة . فعلى الجميع السمع والطاعة لإمام المسلمين ، ولزوم الجماعة في أيام الفتن . حمانا الله وإياكم الفتن ما ظهر منها وما بطن .