“أي عم: قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله”.
الشيخ/ سالم بن سعدالطويل
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فقد روى البخاري في صحيحه (4772) ومسلم (24) عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال: أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: أترغب عن ملة عبد المطلب، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه، ويعيدانه بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك، فأنزل الله (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين)، وأنزل الله في أبي طالب فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم” (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء).
هذا الحديث الصحيح فيه فوائد كثيرة يحتاجها طالب العلم فأحببت أن أذكر منها ما تيسر لعل الله أن ينفع بها الكاتب والقارئ فاقول وبالله أستعين، وعليهأتوكل وإليه أنيب:
ـ1 إن الهداية فضل من الله تعالى يتفضل بها على من يشاء من عباده وهو أعلم بالمهتدين فيهدي برحمته من هو أهل للهداية.
ـ2 وفيه بيان فضل الله عليك يا مسلم يا من تشهد أن لا إله إلا الله بمحض إرادتك ومن غير إكراه، فإن أبا طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم أبى أن يقول “لا إله إلا الله” ومات على ملة عبد المطلبـ على عبادة الأصنامـ بينما أنت تقولها بانشراح صدر والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
ـ3 وفيه أن النسب ولو اتصل بالرسول صلى الله عليه وسلم لا ينفع صاحبه عند الله تعالى ما لم يعمل العبد صالحا، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “…. من بطأ به عمله لم يسرع بهنسبه” [رواه مسلم] (2699) فأبو طالب لم يدخل الجنة مع أنه عم النبي صلى الله عليه وسلم وكان شقيقا لوالده “عبد الله” وهو الذي تولى النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة جده عبد المطلب.
ـ4 أن أبا طالب مات مشركاً وأبى أن يقول لا إله إلا الله وأنه في النار، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله العباس رضي الله عنه: يا رسول الله هل نفعت أبا طالب بشيء فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: «نعم، هو في ضحضاح من نار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار”.
ومن العجائب ـوالعجائب كثيرةـ أن أهل الأهواء يقولون بإسلام أبي طالب وأنه في الجنة!! بينما يقولون بكفر أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه وأنه قد ارتدَّ بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه في النار!! *كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا* [الكهفـ 5]، لا أجد تعليقا على هؤلاء إلا قول الله تعالى *ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور* [النورـ 40].
ـ5 ومنها أن تصديق ابي طالب للنبي صلى الله عليه وسلم ودفاعه عنه لم ينجه من الكفر ولم يدخله في الإسلام لأنه لم يقل لا إله إلا الله ولو أقر بها في قلبه.
ومما أثر عنه كما في كتب السيرة أنه قال:
ولقد علمت بأن دين محمدي
من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو مخافة سبة
لوجدتني سمحا بذاك مبينا
والله لن يصلوا إليك بجمعهم
حتى أوسد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة
ابشر وقر بذاك منك عيونا
ـ6 أن هداية التوفيق لا يملكها إلا الله وحده ولم يجعلها حتى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم قال تعالى *إًنَّكَ لَا تَهْدًي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكًنَّ اللَّهَ يَهْدًي مَن يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بًالْمُهْتَدًينَ* [القصصـ 56] أما هداية الدلالة والإرشاد فقد جعلها الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم كما في قوله *وَإًنَّكَ لَتَهْدًي إًلَى صًرَاطيمُّسْتَقًيمي* [الشورىـ 52).
ـ7 وفيه بيان اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله تعالى وحرصه على دعوة عمه إلى آخر لحظة من حياته.
ـ8 وفيه تلطف الرسول صلى الله عليه وسلم في الدعوة واختيار الألفاظ والألقاب الراقية فكان يقول لأبي طالب “يا عم” “يا عم” ويخبره أنه إذا قال كلمة التوحيد “لا إله إلا الله” فإنه سيحاج له بها عند الله تعالى!!
ـ9 فضل كلمة التوحيد “لا إله إلا الله” وأن أبا طالب لو قالها في آخر لحظة من حياته لنفعته عند الله تعالى.
ـ10 خطورة الصحبة السيئة فإن أبا جهل صدَّ أبا طالب عن قول ” لا إله إلا الله” حتى كلفه ذلك أن خسر آخرته وفي الحديث “الرجل على دين خليله فلينظر احدكم من يخالل” [رواه ابو داود (4833) والترمذي (2378) وحسنه الألباني في الصحيحة (927) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه].
فائدة: عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة صهر النبي صلى الله عليه وسلم وابن عمته عاتكة وأخو أم سلمة وهو المذكور في الحديث اسلم رضي الله عنه يوم الفتح واستشهد في تلك السنة في غزة حنين، وقد ذكر الحافظ ابن حجر في الإصابة (4546) أن له صحبة مع النبي صلى الله عليه وسلم.
ـ11 في الحديث بيان معنى قوله صلى الله عليه وسلم “لقنوا موتاكم لا إله إلا الله” [رواه مسلم (916) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه]، فإن المراد “بموتاكم” أي من حضرته الوفاة لا من مات وخرجت روحه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل لعمه أبي طالب بعدما مات قل: “لا إله إلا الله” وإنما عرضها عليه قبل وفاته فلما مات قال: “لأستغفرن لك”. وهذا بخلاف أهل البدع الذين يقولون للميت قل لا إله إلا الله، وإذا سألك الملكان فقل ربي الله وديني الإسلام ورسولي محمد عليه الصلاة والسلام!!
ومن المعلوم أن الميت لا يسمع كما قال تعالى *وَمَا أَنتَ بًمُسْمًع مَّن فًي الْقُبُورً* [فاطرـ 22]، وقال (إنك لا تسمع الموتى) [النملـ 80].
ـ12 وفيه بيان سبب نزول قوله تعالى *إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء* [القصصـ 56]، وأنها نزلت في أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم وهذا بإجماع أهل التفسير.
ـ13 أن سبب ضلال وكفر كثير من الناس هو التمسك بما كان عليه الآباء والأجداد كما في قوله تعالى *وَكَذَلًكَ مَا أَرْسَلْنَا مًن قَبْلًكَ فًي قَرْيَة مًّن نَّذًير إًلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إًنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّة وَإًنَّا عَلَى آثَارًهًم مُّقْتَدُونَ* [الزخرفـ 23].
ـ14 ليس بالضرورة أن يستجيب المدعو للداعي، فها هو رسول الله صلى اللهعليه وسلم قد استكمل جميع صفات الكمال البشري من العلم والحلم والصبر والحرص والاستقامة والبلاغة وحسن البيان وبشاشة الوجه وطيب الرائحة وحسن المنظر والشفقة على المدعو والصدق والنصح وغير ذلك ويأتي لأبي طالب وجها لوجه ومع ذلك لم يستجب له!!
ـ15 الصبر في الدعوة إلى الله تعالى وتحمل الأذى في سبيل الله تعالى، فإن النبي صلى الله عليه وسلم استمر في دعوة عمه أبي طالب نحو عشر سنين منذ أن بعثه الله إلى آخر لحظة من حياته حيث مات في آخر السنة العاشرة من المبعث ولم يتوقف عن دعوته لما حضرته الوفاة، بل أخذ يكرر عليه: يا عم يا عم قل “لا إله إلا الله” كلمة أحاج لك بها عند الله!!
ـ16 وفيه بر النبي صلى الله عليه وسلم بعمه الذي هو صنو أبيه، إذ لم يتخل عن دعوته ونصحه إلى آخر لحظة من حياته.
ـ17 وفيه أن أبا طالب لو قال لا إله إلا الله لنفعته ولو لم يصل ويصم ولم يعمل شيئا من الأعمال لعدم تمكنه من العمل في مثل هذه الحال.
ـ18 إنما عرض النبي صلى الله عليه وسلم على عمه أن يقول “لا إله إلا الله” قبل أن يدخل في الغرغرة التي لا تنفع بعدها التوبة.
ـ19 هذا الحديث الصحيح يعارض كل الأحاديث الواهية والموضوعة الدالة على إسلام أبي طالب التي لا يثبت منها شيء البتة.
ـ20 ذكر الحافظ ابن حجر في الفتح أن نزول قوله تعالى *ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين….* [الآية] فيه نظر ويظهر أن المراد أن الآية المتعلقة بالاستغفار نزلت بعد أبي طالب بمدة وهي عامة في حقه وفي حق غيره.
ـ21 وذكر الحافظ أيضا (تكملة) فقال: من عجائب الاتفاق أن الذين أدركهم الإسلام من أعمام النبي صلى الله عليه وسلم أربعة: لم يسلم منهم اثنان، وأسلم اثنان، وكان اسم من لم يسلم ينافي أسامي المسلمين، وهما أبو طالب واسمه عبد مناف وأبو لهب واسمه عبد العزى، بخلاف من أسلم وهما حمزة والعباس.
ـ22 قال النووي في شرح الحديث «24»: وقوله (أما والله لاستغفرن لك) فيه جواز الحلف من غير استحلاف وكان الحلف هنا لتوكيد العزم على الاستغفار وتطييباً لنفس أبي طالب.
ـ23 وقال النووي أيضا: مات أبو طالب ولرسول الله تسع وأربعون سنة وثمانية أشهر وأحد عشر يوماً وتوفيت خديجةـ رضي الله عنهاـ بعد موت أبي طالببثلاثة أيام.
والحمد لله أولا وآخرا، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
تاريخ النشر: الاثنين 28/7/2008
الإبانة – جريدة الوطن الكويتية