(وهناك أمر هام جداً وهو: قد يختلف أهل العلم في الصور العملية للكفر المخرج من الملة مثل:
1- الاستهانة بالمصحف، كيف يكون؟
2- الاستهزاء بالدين أو بالسنة؟
3- الاستكبار علي أمر الله، فمتى يكون الرجل مستكبراً على أمر الله، فهذا المثال الذي ذكره الشيخ يندرج تحت هذا القسم – وإن كنا نخالفه في ذلك –
4 – تكذيب الله ورسوله، فقد يختلف أهل العلم في أمر هل هذا تكذيب أو لا يعد تكذيباً ؟) اهـ
أقول: فماذا كان -يا أبا حفص- من ذكرك لذلك؟! هلا رجحت الراجح بدليله، وأحققت الحق بدليله، ورددت المرجوح، وأبطلت الباطل – إن كنت من أهل العلم والترجيح؟ وإلا فأعط القوس باريها، وبخاصة في مثل هذه الأمور الخطيرة المتعلقة بالتكفير. وهلا نصصت لنا على أهل العلم هؤلاء الذين يختلفون فيما ذكرت؟!
أقول: وها هنا أمور أنبه عليها:
الأول: لابد أن يكون المختلف من أهل العلم حتى يعتد بخلافه ووفاقه، لا من أهل الجهل، ومعلوم أن المقلد جاهل، وقد ذكر ابن عبد البر -رحمه الله- في كتابه “جامع بيان العلم وفضله” أنه قد أجمع العلماء على أن المقلد ليس معدوداً من أهل العلم، أو كما قال -رحمه الله- وإذا كان إجماع الجهال والمقلدة غير معتد به وغير معتبر، فإن خلافهم غير معتد به وغير معتبر، وغير خارق لإجماع أهل العلم من باب أولى.
الثاني: لابد أن يكون الخلاف معتبراً
قال الناظم:
وليس كل خلاف جاء معتبراً
إلا خلافاً له حظ من النظر
وإلا فقد خالف بعض العلماء المعروفين والحفاظ المشهورين والأئمة السابقين في بعض صفات الله عز وجل، كالاستواء وغيره ولم يكن ذاك الخلاف معتبراً أبداً، لمخالفته الكتاب والسنة والإجماع وكان ذاك الخلاف مطروحاً مردوداً على صاحبه كائناً من كان إذ لم يكن خلافه بشيء.
الثالث: وجوب بيان الحق في المسائل الخلافية عموماً وفى المسائل المنهجية والأصولية خصوصاً، ووجوب إحقاق الحق وإبطال الباطل خاصة إذا كانت المخالفة تتعلق بتكفير من أصله وظاهره الإسلام.
لما يترتب على الحكم بكفره وردته من أحكام أخري كثيرة وعظيمة وخطيرة كقتله، وفسخ عقد نكاحه، والتفريق بينه وبين زوجه، وعدم تغسيله وعدم تكفينه، وترك الدعاء له والاستغفار له والصلاة عليه، وعدم دفنه في مقابر المسلمين وعدم توريث ورثته المسلمين من تركته وإرثه، ورد ماله إلى بيت مال المسلمين.
الرابع: إذا كان يجب ترك ورد الكلام الموهم للباطل، فرد وترك الكلام الباطل عموماً واجب من باب أولى، وتركه ورده إن كان متعلقاً بمنهج أهل السنة والجماعة أو أصل من أصولهم واجب من باب أولى وأولى. والعود إلى الحق أحمد، والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، قال تعالى :((وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذاً لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا)) وقال تعالى ((وَالصُّلْحُ خَيْرٌ))
الخامس: لأن يحكم المرء بإسلام مسلم مختلف في ردته أسلم له وأبرأ لذمته من الخطأ في الحكم بردته، ذلك لأن الحاكم بإسلامه مستصحب لأصل الإسلام، والحاكم بردته خارج عن هذا الأصل، وفي ذلك مخاطرة عظيمة، وذلك بالتعرض للوعيد الشديد الأكيد لمن كفر أحداً من أهل الإسلام والتوحيد، أضف إلى ذلك ما قد علمته مما يترتب علي تكفيره في الأمر الثالث مع أن الأصل في المسلم حرمة دمه وماله وعرضه.
السادس: ذكر ابن القيم -رحمه الله تعالى- في القصيدة النونية المسماة بـ “الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية” ما ملخصه أن المخالفين علي أربعة أصناف أو أقسام:
وعلى كل حال فإنه يجب رد الباطل على صاحبه من أي قسم كان. وقد خاطب الله -عز وجل- المؤمنين بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)
وقوله تعالى (شيء) نكرة في سياق الشرط تفيد العموم، فيجب الرد حال التنازع في أي شيء مهما كان إلى الله والرسول، والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول هو الرد إليه في حياته وإلى سنته بعد موته -صلى الله عليه وعلي آله وسلم- هذا كلام أهل العلم.
السابع: الإعلام بأن أنواع الاختلاف ثلاثة: اختلاف تنوع، واختلاف أفهام، واختلاف تضاد
فأما ما كان من باب اختلاف التنوع: فقد وجب قبوله كله إذ جاءت الشريعة بكل صوره ووجوهه، ورد شيء منه يعتبر رداً لجزء من الشريعة، والسنة فيما كان من هذا الباب هي الإتيان بهذا تارة وبذاك تارة أخري، ومن لم يستطع الإتيان بجميع تلك الصور والوجوه للعبارة الواحدة فليختر أصحها، وليعمل به.
مثال ذلك: صيغ التشهد، وصيغ الصلاة على النبي -صلي الله عليه وعلى آله وسلم- ونحو ذلك.
وأما ما كان من باب اختلاف الأفهام: فقد وجب على المجتهد فيه ترجيح الراجح بدليله ورد المرجوح، ووجب على من لم يعلم أن يسأل العلماء في هذا، قال تعالى: ((فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)).
والأصل في هذا النوع من أنواع الخلاف أنه لا يعنف فيه المخالف المجتهد، فمن أمثلة ذلك الاختلاف في تحريك الإصبع في التشهد أو الاكتفاء بالإشارة بلا تحريك، ووضع اليد اليمنى على اليد اليسرى في الصلاة بعد الركوع أو إرسالهما، وغير ذلك من المسائل الفقهية التي يسوغ في مثلها اختلاف المجتهدين بحيث يكون فيها احتمالات بعضها أقوى من بعض، ويسعنا في مثل هذه الاختلافات ما وسع السلف، وما أكثر أمثلة هذا النوع من أنواع الاختلاف في كتب الفقة، وأسباب هذا النوع من الاختلاف كثيرة، منها اختلاف العلماء في توثيق راو وتضعيفه مما يؤدي إلى اختلافهم في تصحيح حديث وتضعيفه, وهذا يؤدي بدوره إلى إثبات بعض الأحكام أو نفيها، إلى غير ذلك مما هو مدون ومبثوث ومبسوط في مظانه.
وأما ما كان من باب اختلاف التضاد: فهو مخالفة الرأي العاري عن الدليل والبرهان للدليل والبرهان من الكتاب والسنة ومعارضته ومصادمته ومضادته ومناقضته لهما، فمثل هذا الخلاف مذموم وغير سائغ، ويجب رده على صاحبه كائناً من كان وبخاصة إن كان مجادلاً بالباطل أو معانداً أو داعيًا إلى ضلالة أو صاحب تبليس، وبخاصة إن كان مثله ممن يقتدى به ويتأثر به ويغتر به ويتبعه على رأيه وهواه أتباع أو كان يحزب الناس على باطله، فالإنكار والتشنيع على أمثال هؤلاء المخالفين يتفاوتان بتفاوت حال كل مخالف، قال تعالى: ((اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ))
وقال تعالى: ((قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ)) فالمسلم المخالف للكتاب والسنة أو المخالف لله والرسول له نصيب من هذه الآية بقدر توليه عن طاعة الله والرسول وإن لم يكفر بمخالفته.
وقال تعالى: ((ومَن يُشَاقِقِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ))
قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- في تفسير سورة الأحزاب:
(ثم قال: ((يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا)) أي: يسحبون في النار على وجوههم وتلوى وجوههم على جهنم يقولون وهم كذلك يتمنون أن لو كانوا في الدار الدنيا ممن أطاع الله وأطاع الرسول كما أخبر الله عنهم في حال العرصات بقوله: ((وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا)) [الفرقان :27 -29]، وقال تعالى: ((رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ)) وهكذا أخبر عنهم في حالتهم هذه أنهم يودون أن لو كانوا أطاعوا الله وأطاعوا الرسول في الدنيا: ((وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا)) وقال طاووس: “سادتنا: يعني الأشراف، وكبراءنا: يعني العلماء” رواه ابن أبي حاتم، أي: اتبعنا السادة وهم الأمراء والكبراء من المشيخة وخالفنا الرسل واعتقدنا أن عندهم شيئاً وأنهم على شيء فإذا هم ليسوا على شيء) اهـ [تفسير ابن كثير المجلد الثالث، ج6 ص 300، ط المكتبة التوفيقية]
قلت: والمقصود في كلام طاووس هو طاعة العلماء المخالفين للشرع كما قال تعالى عن اليهود والنصارى: ((اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ))
والآيات القرآنية التي تذم المخالفين لله والرسول والتي فيها التهديد والوعيد لمن لم يطع الله ورسوله واتبع هواه أو هوى غيره كثيرة، منها قوله تعالى: ((فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ))
هذا ما تلخص لي من كلام أهل العلم مع ما أضفته، والله أسأل أن يهديني لما اختلف فيه من الحق بإذنه إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
الثامن: لا يجوز التهوين من شأن المخالفة للشريعة، وبخاصة إذا كانت متعلقة بمنهج أهل السنة والجماعة أو بأصل من أصولهم، وقد قال تعالى: ((قد جعل الله لكل شيء قدراً))
وفي صحيح البخاري عن أنس -رضي الله عنه- قال: “إنكم لتعملون أعمالاً هي في أعينكم أدق من الشعر إن كنا لنعدها على عهد رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- من الموبقات” أو كما قال -رضي الله عنه- واعلم أن وضع الشيء في غير موضعه ظلم، وأنه لا ينبغي إنعاش البدع والأهواء والأخطاء بطريق التذرع للمبتدعين والمخطئين بالاتكاء على أخطاء الأئمة المجتهدين، كأن يقال: قد أخطأ فلان من العلماء، أو زل فلان من الأئمة، ونحو ذلك، فهذا سبيل إقرار البدع والأخطاء وليس بسبيل إنكارها وردها، وما بمثل هذا التذرع والتشبث تنصر السنن وتدفع الأخطاء والبدع.
أوردها سعد وسعد مشتمل
ما هكذا تورد يا سعد الإبل
إذ إننا بصدد رد الباطل على صاحبه كائناً من كان بغض النظر عن كونه معذوراً أم لا.
ثم إننا نقول لمن يتذرع ويتشبث بالعلماء، إما أن يكون هؤلاء العلماء معذورين في أخطائهم، وإما أن يكونوا غير معذورين، فلا ينفعك التشبث بهم والاتكاء عليهم، وإن كانوا معذورين فليس لك أن تعتذر لغيرهم ممن ليس مثلهم بأعذار غير مقبولة أو بانتحال أعذار واهية أو أعذار هي أقبح مما وقعوا فيه من المخالفات بحيث لا يعذرون بها، وليس الثرى كالثريا ولا العرش كالفرش، وقد قال تعالى: ((قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ)) وقال تعالى: ((قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ))
ومن ألحق الشيء بنقيضه كان إلحاقه وقياسه فاسد الاعتبار لوجود الفارق بل هو من أفسد أنواع الأقيسة وهل يستقيم الظل والعود معوج؟!
التاسع: معلوم أن الحي لا تؤمن عليه الفتنة بخلاف الميت، فقد عُلم إلى أي شيء آل أمر الميت في ظاهر الأمر، وإلى أي حد صار شأنه، أما الحي فلا نعلم إلى أي شيء يؤول أمره، ويصير حاله، ولما كان السكوت عن أخطاء الحي ومخالفاته لا يؤمن معه تماديه في الأخطاء أو الزلات أو الأهواء والبدع كان الواجب -والشأن ما ذكر- هو بيان تلك الأخطاء أو الزلات أو الأهواء والبدع التي وقع فيها صاحبها حتى لا يتمادى به الأمر إلى الوقوع في أمثالها وأضعافها فيزداد الطين بلة، ويتسع الخرق على الراقع، والفتق على الراتق، وليس معنى ذلك هو السكوت عن بيان خطأ الحي -إن فُرِضَ الأمن من تماديه في الخطأ- وليس معنى هذا أيضًا السكوت عن بيان خطأ الميت الذي قد عرف مآل أمره الظاهر، وإنما المقصود هو أن الحي لا يؤمن عليه الوقوع في الفتنة، وإن وقع فيها فلا يؤمن عليه الإسراع فيها، والتمادي فيها، والاغترار به فيها, والاقتداء به فيها.
وليعلم أنه يجب رد خطأ المخطئ وضلال الضال حياً كان أو ميتاً، وقد تعظم البلية والفتنة بالميت لما خلفه من باطل منشور مقروء أو مسموع وقد تموت فتنته بموته أما الفتنة بالأحياء فهذا أمر ذائع مشهور وقد ذكره الله عز وجل عن المشركين حيث قال سبحانه وتعالى: ((وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ))
إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على عظم فتنة الناس بالأحياء وبخاصة فتنتهم بالآباء، فاجعل إنكارك على قدر مخالفة المخالف وعلى قدر الاغترار به والاقتداء به والفتنة به في ذلك والله المستعان.
العاشر: اعلم أن التهوين من أمر بيان الحق في المسائل الخلافية يغلق باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وباب إحقاق الحق وإبطال الباطل ويفتح أبواب المنكرات والأخطاء والأهواء على مصاريعها ويفتح باب الجرأة على تلك الأخطاء والمنكرات والأهواء ولا يخفى ما في هذا من الشر المستطير كما أن في هذا تعطيلاً للآيات القرآنية والأحاديث النبوية الحاثة على اتباع الحق وترك الباطل والحاثة والآمرة بالرد حال التنازع إلى الله ورسوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فما أكثر المسائل الخلافية وما أقل الإجماعات النظرية فضلاً عن الإجماعات القطعية.
وبهذا تعلم أن الذين ينكرون على أهل العلم الذين يبينون أخطاء المخطئين وضلال الضالين المضلين هم أصحاب الفتنة حقاً، لأنهم تركوا ما كان عليه أمر رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- من إحقاق الحق وإبطال الباطل وبيان ما عليه أهل الضلال والكفر من مخالفات للحق، وقد قال الله تعالى: ((فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ))
فجزى الله الشيخ ربيع بن هادي المدخلي خيراً على ما قام به من بيان مخالفات أهل البدع والأهواء في هذا العصر, وعلى ولوجه هذا الباب -أعني باب التحذير من الأهواء والأخطاء- بقوة امتاز بها في هذا العصر وخصوصاً في هذا الوقت الذي تكالب فيه على السنة وأهلها أهل الأهواء -أرغم الله أنوفاً هم حاملوها- وقد قال الله تعالى لنبيه يحيى ((يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ)) وقال تعالى عن نبيه وكليمه موسي: ((وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا)) فما أقل هذا الصنف من العلماء في هذا العصر، وصدق النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إذ قال فيما صح عنه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: “تجدون الناس كإبل مائه لا يجد الرجل فيها راحلة” الحديث رواه مسلم في صحيحه آخر كتاب فضائل الصحابة (برقم 232-[2547]) ط. دار ابن رجب، الطبعة الأولى لسنة 1422هـ.
إن هذا الرجل المدخلي هو عندي يعدل أمة كما أنه عندي يُشبه بابن تيميه -رحمه الله- أحسبه كذلك، والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحداً.
ولقد كذب من سمى السلفيين بالمداخلة ومع ذلك فإني أقول:
إن مدخلياً كان ناصرُ ديننا
فليشهد الثقلان أني مدخلي
فجزاه الله خيراً وجزى الله إخوانه العلماء الذين شاركوه في التحذير من أهل البدع والأهواء وبيان مخالفات المخالفين خيراً.
قال أبو حفص:
(إن الشيخ الحويني -حفظه الله وبارك في عمره- عندنا في مصر يعتبر من أشد الناس محاربة لفكر (الخوارج والتكفير) وأيضاً قضى على فكر (التوقف والتبين) في بلدته كفر الشيخ فبدلاً من أن نشنع عليه لأنه أخطأ -من وجهة نظرنا في ضرب المثال- فنقوم بتنبيهه لكي يختار مثال (كذا) أوضح لا إشكال فيه) اهـ
أقول: سيأتي الكلام على هذا في محل آخر -إن شاء الله- إن علمت هذا
يا أبا حفص فلا تعجل علينا
وأنظرنا نخبرك اليقينا.
قال أبو حفص:
(وللفائدة: كثير من الطلاب يدرسون شروط لا إله إلا الله ومنها (القبول المنافي للرد) ونظراً لأن هذا الأمر لم يأخذ العناية الكافية من الشراح، فإذا سألت أحد الطلاب أن يضرب لك مثلاً لهذا الأمر فسوف تري عجباً عجاب) اهـ
أقول: لا أدري لماذا ساق هذا الكلام إلا أن يكون من باب التشويش على الحق، ذلك لأنه يخالف الحويني فيما حمل مثاله عليه كما مر، فلا يصح أن يقول أو يقال إنه يعتذر عن الحويني بأن الحويني قد مثل بمثال صحيح لشرط (القبول المنافى للرد) لما قد علمت من مخالفته للحويني فيما حمل مثاله عليه والإ وقع في التناقض بحيث يكون ما نفاه في موضع أثبته في آخر.
ثانياً: إما أن يكون هو من الطلاب أو الشراح الذين قال فيهم مقالته أنفة الذكر وإما أن لا يكون منهم، فإن لم يكن من هؤلاء الطلاب ولا الشراح الذين ذكرهم بالوصف المذكور في كلامه, فلابد أن يكون إما من الطلاب الذين إذا سألت أحدهم أن يضرب لك مثلاً لشرط (القبول المنافي للرد)، أجابك بحيث لا ترى منه خطأً ولا عجباً عجاباً!!
وإما أن يكون من الشراح الذين أولوا هذا الأمر -ألا وهو الشرط المذكور- العناية الكافية، فإن كان من هؤلاء الطلاب الألباء النجباء، أو من هؤلاء الشراح الفقهاء الفهماء، فلابد أن يكون على دراية -بمثال صحيح واحدٍ على الأقل لهذا الشرط المذكور- خاصةً أنه خالف الحويني فيما حمل مثاله عليه، فكان المقام مقتضياً لأن يذكر مثالاً واحداً على الأقل لمسيس الحاجة إلى هذا المثال في هذا المقام، خاصة أن كثيراً من الطلاب الذين يدرسون شروط لا إله إلا الله ومنها (القبول المنافي للرد) وكذلك الشراح -على حد زعمه- بالوصف الذي ذكر.
أم الشأن أن يقال: إن فاقد الشيء لا يعطيه؟! وهو أيضا حينما ذكر ما ذكره وادعاه من أنه قد يختلف أهل العلم في الصور العملية للكفر المخرج من الملة، لم يبين لنا الراجح الذي يذهب إليه في هذه المسائل الخطيرة كما سبق!!
وتذكر أنه خالف الحويني في الصورة الثالثة -التي هي الاستكبار على أمر الله- !! فها هو هنا وهناك يذكر كلاماً ولا يذكر جواباً ولا إزالة لإشكال، فما قيمة الإخبار بوجود خلاف في تلك الصور العملية للكفر المخرج من الملة دون أن يذكر الحق والصواب في ذلك؟! هذا إذا كان لهذا الخلاف في تلك الصور وجود بين أهل العلم، أليس هذا تهويشاً على الحق، خاصة أنه خالف الحويني فى الصورة الثالثة كما سبق؟!
وما قيمة إخباره هنا بما أخبر به عن هؤلاء الطلاب والشراح؟
أقول: ما فائدة هذا الإخبار خاصة إذا علم أنه يخالف الحويني فيما حمل مثاله عليه؟! أليس هذا تهويشًا على الحق؟!
أقول: وبنحو تلك القرائن يتهم أهل العلم أصحابها باتباع الهوى وكلما كثرت وقويت القرائن قويت التهمة، وليس هذا من باب الحكم على البواطن والسرائر العارية عن القرائن التي يتهم صاحبها بسببها، ذلك لأن القرائن من الأمور الظاهرة التي يستدل بها على الباطن، فتفطن لمكر وتشبيه وتلبيس أهل المكر والتشبيه والتلبيس أو الجهل الذين يتهمون أهل العلم بأنهم يحكمون على النوايا أو البواطن، فإن أهل العلم أدرى بالتهمة وأسبابها وأدرى بحكم تهمة الباطن، وأتقى لله وأورع من هؤلاء الذين يطعنون في العلماء بغير وجه حق ويظنون السوء بهم، فكن على حذرٍ من أولئكم.
أقول: فإن لم يكن هو من هؤلاء الطلاب ولا الشراح الذين ذكرهم في كلامه وطعن فيهم بما ذكره فقد سبق لك الجواب عن ذلك والكلام فيه. وإن كان منهم، فقد نادى على نفسه بالجهل، فما له إذًا وللدخول في تلك المسالك والولوج في تلك المضائق، وكل إناء بما فيه ينضح، وفاقد الشيء لا يعطيه.
وبعد هذا أقول: في هذا الكلام من أبي حفص طعن في أهل العلم وتهمة لهم بالتفريط والإهمال والتقصير في شرح وبيان شرط قبول كلمة التوحيد المنافي لردها والتمثيل له، حيث إن هذا الأمر لم يأخد العناية الكافية من الشراح -على حد زعمه- وهذا جهل بحال أهل العلم وبشرحهم وبكلامهم، أو سوء ظن بهم، وإذا كان العلماء أو الشراح لم يولوا هذا الأمرالعناية الكافية -على حد زعمه- فمن الذي يولي هذا الأمر العناية الكافيه إذًا؟! وما الظن بالطلبة إذًا إذا كان العلماء أو الشيوخ أو الشراح لم يولوا هذا الأمر العناية الكافية؟! إنهم لابد أن يكونوا في عماية عن هذا الأمر وفي جهل مطبق، بحيث إذا سألت أحد الطلاب أن يضرب لك مثلاً لهذا الأمر -ألا وهو شرط (القبول المنافي للرد) فسوف ترى عجباً عجاباً على حد زعمه، والعجب العجاب في كلامه يحمل هنا على أن هؤلاء الطلبة إما أن يسكتوا واجمين أمام هذا السؤال بحيث لا يحيرون جواباً وإما أنهم إذا نطقوا بأي جواب فإنه لا يكون صواباً. هذا حال كثير من الطلاب الذين يدرسون شروط لا إله إلا الله ومنها (القبول المنافى للرد) عند أبي حفص وهذا حال الشراح عنده أيضاً فلم يسلم منه هؤلاء ولا أولئك!! ولله في خلقه شئون.
وأقول: كان على أبي حفص أن يمثل بشرط القبول المنافي للرد، إن كان من أهل العناية الكافية بهذا الأمر دون سائر الناس، بحيث يكون قد قام بالفرض الكفائي الذي فرط وقصر فيه الأولون من الشراح!! وحتى يسقط الإثم والحرج عن الشراح من أهل العصر!! وحتى يرفع الجهل عن كثير من الطلاب الذين يدرسون شروط لا إله إلا الله ومنها (القبول المنافي للرد)!! وحتى لا يتركهم حيارى في بيداء من الأرض!! بحيث إذا سألنا أحد الطلاب أن يمثل لهذا الأمر لا نري عجبًا عُجابًا!!
أما إن كان -هو الآخر- لم يول هذا الأمر عناية كافية بحيث كان شأنه في ذلك شأن الشراح، فيالها من خيبة للشراح ما أعظمها إذ فرطوا في بيان هذا الأمر العظيم!! ولم يقوموا بما أوجبه الله عليهم من القيام بالفرض الكفائي من الشرح والبيان لمثل هذا الشرط الذي هو أحد شروط هذه الكلمة العظيمة، كلمة التوحيد!! التي هي أولى وأحق بالبيان الواجب من غيرها!! ويا لها من خيبة لهؤلاء الطلاب ما أشنعها إذ جهلوا مثل هذا الأمر العظيم المتعلق بالركن الأول من أركان الإسلام!!
أقول: وإن تعجب فعجب قوله: (وللفائدة: كثير من الطلاب …) إلى أخره
أقول: ما الفائدة في قولك هذا إذا كان هذا الأمر لم يأخذ العناية الكافية من الشراح، وكان كثير من الطلاب يجهلونه على حد زعمك؟! مع أنك لم ترفع حرجًا عن الشراح ولم ترفع جهلاً عن هؤلاء الطلاب!! إذا عُلم ذلك فليُعلم أن كلامه هذا مجرد دعوة كاذبة مخالفة للواقع، بحيث يصح أن يقال: إنها فاقرة لا فائدة، وإليك التدليل على كذب هذه الدعوى العارية عن البرهان والدليل وذلك بالنقل من بعض كتب أحد العلماء الأفذاذ الذين أولوا التوحيد عناية فائقة وكبيرة ألا وهو الشيخ العلامة حافظ بن أحمد حكمي -رحمه الله تعالى- إذ قال رحمه الله تعالى -وهو يتكلم عن شروط شهادة أن لا إله إلا الله-:
وبشروطٍ سبعةٍ قد قيدت
وفي نصوص الوحي حقًا وردت
فإن لم ينتفع قائلها
بالنطق إلا حيث يستكملها
العلم واليقين والقبول
والانقياد فادر ما أقول
والصدق والإخلاص والمحبة
وفقك الله لما أحبه
ثم أخذ -رحمه الله- في شرح هذه الشروط إلى أن قال عن الشرط الثالث وهو القبول:
“(و) الثالث (القبول) لما اقتضته هذه الكلمة بقلبه ولسانه، وقد قص الله -عز وجل- علينا من أنباء ما قد سبق من أنباء من قَبِِِِلَهَا، وانتقامه ممن ردها وأباها كما قال تعالى: ((وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ * فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ))
وكذلك أخبرنا بما وعد به القابلين لها من الثواب وما أعده لمن ردها من العذاب كما قال تعالى: ((احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ) إلى قوله: ((إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ))
فجعل الله تعالى علةَ تكذيبهم وسبَبَه هو استكبارهم عن قول لا إله إلا الله، وتكذيبهم من جاء بها، فلم ينفوا ما نفته، ولم يثبتوا ما أثبتته، بل قالوا إنكارًا واستكبارًا ((أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ))
فكذبهم الله -عز وجل- ورد ذلك عليهم عن رسوله -صلى الله عليه وعلي آله وسلم- فقال: ((بَلْ جَاء بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ)) إلى آخر الآيات.
ثم قال في شأن من قبلها: ((إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ)) إلى آخر الآيات.
وفي الصحيح عن أبي موسى -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله وعلى آله وسلم- قال: “مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ, فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلَم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به)) اهـ كلام الشيخ حافظ بن أحمد حكمي -رحمه الله-
[المرجع معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى الأصول (فى التوحيد) ج1 ص 418 إلى ص 421، ط: دار ابن القيم، دار ابن عفان، الطبعة الأولى، لسنة 1423 هـ]
تنبيه: قد وقعت (واو) زائدة قبل البيت الثالث هنا، وقد جاء البيت في المتن المذكور في أول الكتاب ص 32 بحذفها وهو الصواب.
أقول: قارن بين كلام الشيخ حافظ رحمه الله، وبين صورة المثال في كلام الحويني تجد الفرق واسعاً والبون شاسعاً، ثم أقول لأبي حفص: هل ما ذكره الشيخ حافظ رحمه الله -في شرحه لشرط (القبول المنافي للرد) حق وكافٍ وشافٍ ووافٍ بالمقصود، أم كان الشيخ هو الآخر من جملة الشراح الذين لم يولوا هذا الأمر العناية الكافية على حد ما زعمته عن الشراح وظلمتهم بذلك خاصة أنك أوهمت القراء أنك أوليت هذا الأمر عناية كافية وأن عندك ما ليس عند غيرك مع أنك لم تَجُدْ علي القراء بمثال واحد!!
ثم أقول: إما أن تكون قد اطلعت على كلام الشيخ حافظ هذا وإما أن لا تكون قد أطلعت عليه فإن كنت لم تطلع عليه فكيف اتهمت الشراح بقولك: (ونظراً لأن هذا الأمر لم يأخذ العناية الكافية من الشراح …)
وإن كنت قد اطلعت عليه فإما أن يكون الشيخ حافظ عندك من جملة هؤلاء الشراح الذين لم يولوا هذا الأمر عناية كافية ولم يكن كلامه مقنعاً ولا كافياً لك للتمثيل لهذا الشرط ألا وهو (القبول المنافي للرد) المتعلق بهذه الكلمة العظيمة التي هي أصل الأصول!!
وإما أن يكون كلام الشيخ حافظ -رحمه الله- مقنعاً وكافياً لك، ويكون الشيخ حافظ -رحمه الله- ممن أولى هذا الأمر عناية كافية، فلماذا كتمت علم ذلك ولم تصرح به و لم تستثنه من عموم كلامك؟!
حيث قلت (… لم يأخذ العناية الكافية من الشراح) فلم تستثنه من العموم، هذا على فرض التسليم الجدلي بصدق كلامك فيمن سواه وإلا فقد مر أن كلامك هذا مجرد دعوى عارية عن البرهان بل البرهان على خلافها ونقيضها وأنك بهذه الإلزامات تدور بين أمور أحلاها مر والله المستعان.
وبناءً علي دعواك يقال ما أشد فقر المكتبات اليوم في طول بلاد الإسلام وعرضها إلى من يسد هذه الثغرة وتلك الخلة وذاك الفقر وذلك بتأليف مؤلف أو مصنف يمثل لشرط (القبول المنافي للرد) المتعلق بكلمة التوحيد، لأن هذا الأمر العظيم لم يأخذ العناية الكافية من الشراح!! وكان هذا واجباً في حق أبى حفص لأنه هو الذي أدرك هذه الحقيقة واكتشفها وعاجلنا وأسعفنا بهذه الفائدة!!
أقول: وهل أجريت بحثاً جاداً وإحصاءً دقيقاً حقاً بحيث خرجت بهذا الحكم وبهذه النتيجة التي ذكرتها عن هؤلاء الطلاب والشراح؟! أم هي مجازفة منك دفعك إليها التعصب للحويني والتهويش على الحق؟!
وهل هذه النتيجة التي توصلت إليها في صورة “فائدة”!!
هل كنت تعلمها من قبل شريطي الذي فيه انتقاد على الحويني أم إنها جدت فوراً عقب نزول الشريط دفعك إليها ما سبق ذكره؟! وإن كنت قد علمتها قبل شريطي فهل أفدت إخوانك بهذه الفائدة أم كتمتها عنهم؟!
وهل من البحث العلمي أن يعرض الباحث المشكلة ولا يضع أو لا يقترح لها -على الأقل- حلاً؟! وعلامَ يدل ذلك؟! وإذا كان هذا هو حال الشراح وحال كثير من الطلاب الدارسين لشروط لا إله إلا الله ومنها (القبول المنافي للرد) بحيث (إذا سألت أحد الطلاب أن يضرب لك مثلاً لهذا الأمر فسوف تري عجباً عجاباً) على حد تعبيرك فماذا سيرى من غير هؤلاء الدارسين؟!
ثم أقول لك: وهل المفسرون السلفيون كالطبري وابن كثير والسعدي لم يولوا هذا الأمر عناية كافية حينما يفسرون نحو تلك الآيات التي ذكرها الشيخ حافظ بن أحمد حكمي -رحمه الله-؟!
وهل شيوخ الإسلام كأمثال ابن تيمية وابن القيم وابن عبد الوهاب ومن سار على نهج السلف قبلهم وبعدهم لم يولوا هذا الأمر عناية كافية، حتى جاء زمن أبي حفص لكي يوقفنا على غور هذه المشكلة التي ساقها باعتبارها فائدة، ولم يضع مع ذلك لها حلاً ولا اقتراحاً لحل؟!
وهل كُتُب التوحيد قديماً وحديثاً خالية فعلاً من بيان هذا الأمر وأصحابها لم يولوا هذا الأمر عناية كافية يا هذا؟!
وإن سلمنا بدعواك -على سبيل الفرض الجدلي- نقول:
أليس الله عز وجل قد ذكر في كتابه قصص الأنبياء مع أقوامهم، وكيف كان رد أقوامهم -الذين لم يؤمنوا- عليهم، وكيف كان موقف المؤمنين مما جاء به أنبياؤهم حيث لم يقبل الكفار ما جاء به أنبياؤهم وقبل المؤمنون ما جاءوا به؟
أليس هذا الأمر في غاية الوضوح في كتاب الله عز وجل الذي قال الله عز وجل عنه: ((وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ))
فمن تدبر كتاب الله عز وجل -وبخاصة السور المكية- وجد هذا الأمر في غاية الوضوح بحيث لا يحتاج معه إلى مزيد بيان، وقد قال الله تعالى: ((شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ))
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة البينة في أن كتاب الله مبين، هذا على سبيل العموم وفي باب التوحيد وقصص الأنبياء مع أقوامهم على سبيل الخصوص.
أقول: أليس الواجب -والشأن ما ذكر- أن يظن بأهل العلم الخير -وأنهم ما سكتوا عن بيان هذا الأمر المذكور إلا لأنه في غاية الوضوح والبيان وأنه لا يحتاج معه إلى مزيد بيان؟! بدلاً من إساءة الظن بهم أو التقول عليهم بما ليس من حالهم؟! هذا إن سلمنا جدلاً بصحة دعوى أبي حفص، فكيف إذا كانت دعواه كاذبة مردودة وتهمته للشراح ولكثير من الطلاب الذين يدرسون شروط لا إله إلا الله … تهمة جائرة ظالمة؟!
وأقول: إن جعبتك العلمية قد شحت عن أن تجود بمثال واحد، فإما أن تكون جعبتك خاليةً من ذلك، وإما أن يكون فيها شيء وقفت عليه وظفرت به دون غيرك!! وكتمته مع مسيس الحاجة إلى معرفة ذلك، وهل يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة؟! على كلٍ فإنك تدور بين أمرين أحلاهما مر.
وأقول: أليس قوله: (ونظراً لأن هذا الأمر لم يأخذ العناية الكافية من الشراح) جرحاً لهؤلاء الشراح إذ قصروا وفرطوا في بيان هذا الأمر العظيم وأنه (لم يأخذ العناية الكافية) منهم على حد زعمه مع أنه زعمٌ عارٍ عن البرهان ودعوى عارية عن الدليل؟!
وليعلم أن تهمته للشراح بذلك تهمة باطلة وطعن فيهم بغير وجه حق وجرح بدون بينة فطعنه مردود عليه، وجرحه مردود عليه، بل هو أولى بالاتهام والطعن والجرح من هؤلاء الشراح الذين تكلم فيهم وظلمهم.
وإن تعجب فعجب قوله في رده على بعض الإخوة الذين ردوا عليه في شبكة سحاب السلفية:
(وأسئل الله أن يهديكم إلى الإنصاف والحكم بالعدل)
أقول: فأين أنت من الإنصاف والحكم بالعدل في كلامك على الشراح وهؤلاء الطلاب خاصة إذا علم أن الأمة لا تجتمع على ضلالة وأنه لا تزال طائفة منها ظاهرين على الحق؟!
وتذكر أنك قلت:
(هل إذا تكلم عالم سلفي في آخر كلاماً مجملاً -دون تفصيل- نقبل الكلام بدون حجة ولا برهان؟)
وبناءً على كلامك أقول: إما أن تكون عالماً سلفياً وإما ألا تكون:
فإن كنت عالماً سلفياً -فهل يجوز أن تتكلم في آخر، بل آخرين كثيرين، بدعاوى ظالمة مجردة وعارية عن الدليل ومفتقرة إلى البرهان؟! وهل نقبل كلامك فيهم بلا حجة ولا برهان؟! بل كيف نقبل كلامك فيهم إذا كانت الحجة قائمة والبرهان منصوباً على فساد قولك وبطلان دعواك؟!
وإن لم تكن عالماً سلفياً، فهل يجوز أن تتكلم في آخر، بل آخرين كثيرين من السلفيين بدعاوى ظالمة مجردة وعارية عن الدليل ومفتقرة إلى البرهان؟! وهل نقبل كلامك فيهم بلا حجة ولا برهان؟! بل كيف نقبل كلامك فيهم إذا كانت الحجة قائمة والبرهان منصوباً على فساد قولك وبطلان دعواك؟!
أقول: وليُتَذكر أنه قال في بعض ردوده علي بعض من رد عليه في الشبكة:
(إن إساءة الظن في الناس خاصة العلماء المحدثين -أمثال الشيخ الحويني- من أخطر ما يكون) اهـ
أقول: وهل إساءة الظن والطعن في هؤلاء الطلاب والشراح بما فيهم العلماء الكبار والأئمة الأجلاء هل هذا من أخطر ما يكون أم لا؟!
قال أبو حفص:
(من يطعن في الحويني دون التثبت ومعرفة منهج الشيخ، أسأل الله أن يرده إلى الحق) اهـ
أقول: أليس من يطعن في شراح شروط الكلمة العظيمة كلمة التوحيد التي هي أصل الأصول، أليس من يطعن فيهم وفى طلابهم دون التثبت ومعرفة منهج هؤلاء الشراح وما هم عليه ، أليس أولي بأن يدعو الله لنفسه بأن يرده إلى الحق؟! إذ الإحسان إلى النفس بعبادة الله وحده مقدم علي الإحسان إلى الوالدين وغيرهما، ووقاية الإنسان نفسه النار مقدمة على وقاية الأهلين.
قال تعالى: ((وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا))