إفادة الصُّوام بما على المكلف يدركه رمضان وعليه صيام لم يقضه من رمضان قديم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للناس أجمعين، وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد:
فإن من أخر صيام قضاء ما فاته من شهر رمضان حتى دخل عليه رمضان آخر له حالان:
الحال الأول: أن يؤخره لعذر، كمرض يمتد به من رمضان إلى رمضان آخر.
وهذا لا كفارة عليه لأنه لم يفرط، ولا يجب عليه إلا قضاء الأيام التي فاتته.
وإلى هذا ذهب جماهير أهل العلم من السلف الصالح فمن بعدهم.
وعزاه ابن عبد البر – رحمه الله – في كتابه “الاستذكار”(10/ 227) إلى:
الحسن البصري وإبراهيم النخعي وطاووس وحماد بن أبي سليمان وأبي حنيفة وسفيان الثوري ومالك والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه.
وقال أبو جعفر الطحاوي – رحمه الله – في كتابه “أحكام القرآن”(1/ 416):
فأما من ترك قضاءه لعلة تبيح له ترك القضاء، فإنه لا يجب عليه مع القضاء في ذلك إطعام، وإنما عليه القضاء خاصة على مذهب ابن عباس وأبي هريرة الذي رويناه عنهما.اهـ
الحال الثاني: أن يؤخره مع تمكنه من القضاء قبل دخول رمضان الثاني عليه.
وهذا عليه القضاء بسبب الفطر، والكفارة بإطعام مسكين عن كل يوم أخره، لأجل تأخير القضاء مع القدرة.
وإلى هذا ذهب جماهير أهل العلم من السلف الصالح فمن بعدهم، نسبه إليهم ابن حجر العسقلاني في “فتح الباري”(4/ 190) وبدر الدين العيني في “عمدة القاري”(11/ 55) والشوكاني في “نيل الأوطار”(4/278) – رحمهم الله -.
ومن حجتهم على ذلك:
الآثار الواردة عن الصحابة – رضي الله عنهم – في وجوب الكفارة بالإطعام من غير خلاف يُعرف بينهم.
ومن هذه الآثار:
أولاً: أثر ابن عباس – رضي الله عنهما -.
إذ قال ابن الجعد – رحمه الله – في “مسنده”(235):
أنا شعبة عن الحكم عن ميمون بن مهران قال:
(( سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ رَجُلٍ، دَخَلَ فِي رَمَضَانَ، وَعَلَيْهِ رَمَضَانُ آخَرُ لَمْ يَصُمْهُ قَالَ: «يَصُومُ هَذَا الَّذِي أَدْرَكَهُ، وَيَصُومُ الَّذِي عَلَيْهِ، وَيُطْعِمُ لِكُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا نِصْفَ صَاعٍ» )).
وإسناده صحيح.
وقال عبد الرزاق – رحمه الله – في “مصنفه”(7628):
عن معمر عن جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران قال:
(( كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنَّ رَجُلًا تَتَابَعَ عَلَيْهِ رَمَضَانَانَ قَالَ: «تَاللَّهِ أَكَانَ هَذَا؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «إِحْدَى مِنْ سَبْعٍ يَصُومُ شَهْرَيْنِ، وَيُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا» )).
وإسناده صحيح.
وأخرج نحوه الطحاوي – رحمه الله – في كتابه “أحكام القرآن”(887 و 888) من طريقين آخرين عن ميمون بن مهران.
ونقل ابن الملقن – رحمه الله – في كتابه “البدر المنير”(5/ 734) تصحيح البيهقي لأثر ابن عباس – رضي الله عنهما -.
وصححه النووي – رحمه الله – في كتابه “المجموع”(6/364).
ثانياً: أثر أبي هريرة – رضي الله عنه -.
إذ قال الدارقطني – رحمه الله – في “سننه”(2343):
حدثنا محمد بن عبد الله ثنا معاذ – يعني: ابن المثنى – ثنا مسدد ثنا يحيا عن ابن جريج عن عطاء عن أبي هريرة: في رجل مرض في رمضان ثم صَحَّ ولم يصم حتى أدركه رمضان آخر؟ قال:
(( يَصُومُ الَّذِي أَدْرَكَهُ وَيُطْعِمُ عَنِ الْأَوَّلِ لِكُلِّ يَوْمٍ مَدًّا مِنْ حِنْطَةٍ لِكُلِّ مِسْكِينٍ, فَإِذَا فَرَغَ فِي هَذَا صَامَ الَّذِي فَرَّطَ فِيهِ )).
وقال عقبه: إسناده صحيح موقوف.اهـ
وله شاهد أخرجه عبد الرزاق – رحمه الله – في “مصنفه”(7620) فقال:
عن معمر عن أبي إسحاق عن مجاهد عن أبي هريرة قال:
(( مَنْ أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ وَهُوَ مَرِيضٌ، ثُمَّ صَحَّ، فَلَمْ يَقْضِهِ حَتَّى أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ آخَرُ صَامَ الَّذِي أَدْرَكَ، ثُمَّ صَامَ الْأَوَّلَ، وَأَطْعَمَ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ قَمْحٍ )).
قال معمر: ولا أعلم كلهم إلا يقولون هذا في هذا.اهـ
وأخرج نحوه الدارقطني – رحمه الله – في “سننه”(2344) من طريق مطرف عن أبي إسحاق عن مجاهد عن أبي هريرة.
وقال عقبه: إسناده صحيح موقوف.اهـ
وأخرج أيضاً (2348) نحوه من طريق عطاء عن أبي هريرة.
وقال عقبه: هذا إسناد صحيح.اهـ
وقال ابن الملقن – رحمه الله – في كتابه “البدر المنير”(5/ 734):
ثم رواه الدارقطني موقوفاً على أبي هريرة من طرق، ثم قال في كل منهما: هذا إسناد صحيح، وكذا قال البيهقي في “خلافياته”.اهـ
وله شاهد آخر عن عند الطحاوي – رحمه الله – في كتابه “أحكام القرآن”(892) إذ قال:
حدثنا محمد بن خزيمة قال: حدثنا حجاج قال: حدثنا حماد قال: أخبرنا قتادة عن أبي الخليل عن طاوس عن أبي هريرة مثله.
وقال أبو جعفر الطحاوي – حمه الله – كما في “مختصر اختلاف العلماء(2 / 22-23 مسألة رقم:505) :
إلا أن هذه الجماعة من الصحابة قد اتفقت على وجوب الإطعام بالتفريط إلى دخول رمضان آخر، وكان ابن أبي عمران يحكي أنه سمع يحيى بن أَكْثَم يقول:
وجدته – يعنى: وجوب الإطعام في ذلك عن ستة من الصّحابة، ولم أجد لهم من الصحابة مخالفاً.اهـ
ونقله أيضاً عن يحيى بن أكثم:
ابن عبد البر – رحمه الله – في كتابه “الاستذكار”(10/ 225-226).
وقال ابن قدامة – رحمه الله – في كتابه المغني”(4 / 401) في ترجيح هذا القول بآثار الصحابة:
ولنا ما رُوي عن ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة، أنهم قَالُوا: (( أَطْعِمْ عن كل يوم مسكيناً )) ولم يُرْوَ عن غيرهم من الصحابة خلافهم.اهـ
وقال الماوردي – رحمه الله – في كتابه “الحاوي الكبير”(3 / 451):
وإن أخره غير معذور فعليه مع القضاء الكفارة عن كل يوم بمُد من طعام، وهو إجماع الصحابة.اهـ
وقال أيضاً (3 / 452):
مع إجماع ستة من الصحابة لا يُعرف لهم خلاف.اهـ
وقال صاحب كتاب “الإنباه” – رحمه الله – كما في “الإقناع بمسائل الإجماع”(2/747 رقم:1345) في ترجيح هذا القول:
وبه قال عديد أهل العلم، وهو عندنا إجماع الصحابة.اهـ
وقال أبو جعفر الطحاوي – رحمه الله – في كتابه “أحكام القرآن”(1/ 416):
غير أنا نظرنا إلى ما رُوي عن ابن عباس وأبي هريرة فِي إيجابهما الإطعام على من وجب عليه قضاء رمضان، فلم يقضه حتى دخل عليه رمضان آخر، وقد أمكنه صومه مع القضاء الذي أوجبناه عليه في ذلك، فلم نره منصوصاً في كتاب الله عز وجل، ولا في سنة رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم، ولا وجدناه يثبت بالقياس، فعقلنا بذلك أنهما لم يقولاه رأياً، ولا استنباطاً، وإنما قالاه توقيفاً، فكان القول به حسنا عندنا، ولم نجد عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سواهما إسقاط الإطعام في هذا، فقلنا به وخالفنا أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمداً في نفيهم وجوب الإطعام في ذلك.اهـ
وذهب الحسن البصري وإبراهيم النخعي وأبو حنيفة وأصحابه والمزي وداود الظاهري – رحمهم الله – إلى أنه ليس عليه إلا القضاء فقط.
واحتُج لهم بقوله تعالى: { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ }.
وقالوا: لم يُذكر في الآية مع القضاء إطعاماً، فلا نلزم المؤخر إلا بالقضاء وحده.
وأجيب عن استدلالهم هذا بجوابين:
الأول: أن الصحابة – رضي الله عنهم – أدرى بمدلول الآيات القرآنية وأحكامها من غيرهم، ولو استقام هذا الاستدلال لكانوا أول من قال به، كيف وقد نص جماعة من العلماء – رحمهم الله – على أنه لا يعرف بينهم خلاف في لزوم الإطعام بالتأخير.
الثاني: أن متعلق الكفارة تأخير القضاء لا الفطر.
إذ قال الماوردي – رحمه الله – في كتابه “الحاوي الكبير”(2/ 452):
فأما قوله تعالى: { فَعِدَّةٌ مِنْ أيَّامٍ أُخَرٍ } فلا دليل فيه، لأن الفدية لم تجب بالفطر، وإنما وجبت بالتأخير.اهـ
وهذا وأسأل الله تعالى أن ينفع بهذه الكتابة الكاتب والقارئ والناشر، إنه سميع الدعاء.
وكتبه:
عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد.