الحمد لله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين ، ولا عدوان إلا على الظالمين ، وصلى اللهُ وسلم على أشرف المرسلين ، وخير خلْق الله أجمعين ، وعلى آله وصحبه والتابعين .. أما بعد : فقد قال أمير المؤمنين عليٌّ رضي الله عنه : ‹ إن هذه القلوبَ أوعيةٌ ، وخيرُها أوعاها للعلم ، احفظ عنِّي ما أقولُ لك : الناسُ ثلاثةٌ : عالم ربَّاني ، ومتعلِّم على سبيل نجاة ، وهَمجٌ رِعاع أتباع كلِّ ناعقٍ ، يميلون معَ كلِّ رِيح ، لم يستضيئوا بنور العلم ، ولم يلجؤوا إلى رُكن وثيق ›
[ تاريخ دمشق (50/252) ]
وإن من جملة الهمج الذين يتَّبعون من يَنعقُ فيُنكرُ على أهل السُّنة والجماعة تقسيمَ التوحيدِ إلى ثلاثة أقسام ؛ فضلًا عمن كان أكثر غُلوًّا فشبَّههم بالنصارى أصحاب عقيدة التثليث !
وهذه مقالة مختصرة في بيان فساد ووهاء هذا الإنكار ، وقد اقتصرتُ فيها على ثلاثة أوجه ؛ وإن كنتُ أرى أنَّ وجهًا واحدًا يكفي مَن كان واعيًا مُنصفًا .. والله حسيبُ مَن كان بخلاف ذلك !
١) الوجه الأول : أن هذا التقسيم هو تفسير وبيان لهذا التوحيد ؛ فما هو إلا حقيقة شرعية ناتجة عن استقراء تامٍّ لنصوص الكتاب والسنة .
ومن باب التَّنزُّل في القول على أنه اصطلاح اصطلح عليه بعض العلماء ؛ فأين وجه الإنكار على ما يصطلحه أهل العلم من تقسيمات وتعاريف ؟!
فقد اصطلح علماء التفسير على تقسيم القرآن إلى مكِّي ومدَني ، واصطلح أهل الحديث على تقسيم السُّنة إلى قولية وفعلية وتقريريَّــة وخَلْقية وخُلُقية ، واصطلح أهل العربية على تقسيم الكلام إلى اسم وفعل وحرف …
💡 وإنكار هذه الاصطلاحات تضييع للشريعة بإجماع العقلاء !
يقول الشاطبي رحمه الله : ‹ فإنَّ العباراتِ لا مشاحَّة فيها ، ولا يَنبني على الخلاف فيها حكمٌ ؛ فلا اعتبار بالخلاف فيها ›
[ الموافقات (5/218) ]
فالتوحيد عند أهل السنة والجماعة : هو إفرادُ اللهِ بما يختصُّ به .
وأقسامُه الثلاثة هي :
١- إفراد الله بأفعاله ( الخلق والمـُلك والتدبير )
٢- وإفراد الله بأفعال المكلَّفين ( العبادة )
٣- وإفراد الله بأسمائه وصفاته .
فهل ينكرون تفسير التوحيد ؟! أو ينكرون شيئًا من هذا الأقسام ؟!
قال أبو حامد الغزالي رحمه الله : ‹ لا مشاحة في الألفاظ بعد معرفة المعاني ›
[ المستصفى (23) ]
٢) الوجه الثاني : أن تقسيم التوحيد ليس من اختراع شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما يزعم ذلك الجهلة والرِّعاع ! فمعَ كون هذا التقسيم اشتُهر عن شيخ الإسلام لكثرة العلماء الذين نقلوا ذلك عنه ؛ إلا أنه مسبوق بمئات السِّنين من أسلافه من أهل العلم ، ولكن الجاهلين لا يعلمون !
قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله ( توفِّي 150هــ ) : ‹ مَن قال : “لا اعرف ربي في السماء أو في الأرض” فقد كفر ، وكذا مَن قال : “إنه على العرش ولا أدري العرش أفي السماء أو في الأرض” واللهُ تعالى يُدعى من أعلى لا من أسفل ، ليس من وصف الربوبية والألوهية في شيء ، وعليه ما رُوي في الحديث : أن رجلًا أتى إلى النبي ﷺ بأمَةٍ سوداء ؛ فقال : وجبَ عليَّ عتق رقبة أفتُجزىءُ هذه ؟ فقال لها النبيُّ ﷺ أمؤمنة أنتِ ؟ فقالت : نعم ؛ فقال : أين اللهُ ؟ فأشارت إلى السماء ؛ فقال : أعتقها فإنها مُؤمنة .
[ الفقه الأبسط (35) والحديث تجده في صحيح مسلم (573) ]
وقال الإمام ابن بطة العكبري رحمه الله ( توفي 387هــ ) : ‹ .. وذلك أن أصل الإيمان بالله الذي يجبُ على الخلق اعتقادُه في إثبات الإيمان به ثلاثة أشياء :
١- أحدُها : أن يعتقدَ العبدُ آنيَّتهُ ؛ ليكون بذلك مباينًا لمذهب أهل التعطيل الذين لا يُثبتون صانعًا .
٢- الثاني : أن يعتقدَ وحدانيَّتهُ ، ليكون مباينًا بذلك مذاهبَ أهل الشرك ؛ الذين أقروا بالصانع ، وأشركوا معه في العبادة غيرَه .
٣- والثالث : أن يعتقدهُ مَوصوفًا بالصفات التي لا يَجوز إلا أن يكون موصوفًا بها ، من العلم والقدرة والحكمة .. وسائر ما وصف به نفسَه في كتابه ›
إلى أن قال رحمه االله : ‹ ولأنَّا نَجدُ اللهَ تعالى قد خاطبَ عبادَهُ بدُعائهم إلى اعتقاد كلِّ واحدةٍ في هذه الثلاث والإيمان بها ›
[ الإبانة الكبرى (6/149) ]
٣) الوجه الثالث : أن تقسيم التوحيد معروف عند غير أهل السنة والجماعة ؛ بل قال به أئمة مَن يُنكرون التقسيم ؛ فليس إنكارهم إلا من باب : رَمتني بداءِها وانسلَّتْ !
يقول الشهرَستاني الأشعري في تعريف التوحيد : ‹ هو الاعتقاد بأن الله :
١- واحدٌ في ذاته ، لا قَسيم له .
٢- وواحدٌ في صفاته الأزلية ، لا نَظير له .
٣- وواحدٌ في أفعاله ›
[ الملل والنِّحل (١/٤٢) ]
وقال البَيجوري الأشعري : ‹ ويجبٌ في حقِّه تعالى :
١- الوحدانية في الذَّات .
٢- وفي الصِّفات .
٣- وفي الأفعال ›
[ رسالة في علم التوحيد (٢٧) ]
وقال أكمل الدِّين البابرتي الماتريدي : ‹ فالله تعالى :
١- واحد في أفعاله ، لا يُشاركه أحدٌ في إيجاد المصنوعات .
٢- وواحد في ذاته ، لا قَسيم له ، ولا تركيب فيه .
٣- وواحدٌ في صفاته ، لا يُشبهُ الخلقَ فيها ›
[ شرح الطحاوية للبابرتي (٢٩) ]
وقال الكمال المقدسي الماتريدي عن التوحيد : ‹ هو اعتقاد الوحدانية في :
١- الذَّات .
٢- والصِّفات .
٣- والأفعال ›
[ كتاب المسامرة في شرح المسايرة (47) ]
وقال ابو إسماعيل الهروي الصُّوفي : ‹ والتوحيد على ثلاثة وجوه :
١- الوجه الأول : توحيد العامة ؛ الَّذي يصحُّ بالشَّواهد .
٢) والوجه الثاني : توحيد الخاصَّة ، وهو الَّذي يَثبتُ بالحقائق .
٣- والوجه الثالث : توحيدٌ قائمٌ بالقِدَم ، وهو تَوحيدُ خاصَّة الخاصة ›
[ منازل السَّائرين (١٣٥) ]
فلماذا يُعاب على أهل السُّنة والجماعة هذا التقسيم ولا يُعاب على غيرهم ؟!
أحرامٌ على بلابِله الدَّوحُ
حلالٌ للطَّيرِ من كل جنسِ ؟!
اللهمَّ أعزِّ المسلمين بهذا الدِّين ، وانصُرِ الأولياء والصالحين ، واهدِ الغافلينَ والضالين … وصلِّ وسلِّم وباركْ على المبعوثِ رحمة للناس أجمعين ، والحمدُ لله ربِّ العالَمين .
أخوكم فراس الرفاعي
30 ذو الحجة 1443هــ