( احذر من تلك الأحزاب أن يفتنوك)
الحمد لله والصّلاة والسّلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد
هذه الفوضى وهذه الثّورات على ولاة الأمر من المسلمين التي يُراد منّا أن نُساق لها سوقا، بدأت بطشها بالنّار، فهي في حقيقتها ومادتها ومآلاتها نارٌ تُحرقُ بلدان المسلمين وأبدانهم، فحطبُها ووقودها وزيتُها مئات الآلاف من المسلمين الأبرياء الذين لا يعرفون خطورتها، ولا يُدركون أبعادها، ولا يدرون من وراء تقحّمهم فيها.
وقد كان اليهود يُخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، وكثيرٌ من المسلمين اليوم يُخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي الكافرين، فيقوّضون اجتماعهم، ويستأصلون بُنيانهم، ويُفسدون الخير الذي ما زال فيهم، من داخل بلدانهم، لتنضمّ أيديهم وتتراصّ رغباتهم وأهواؤهم مع أيدي وحناجر وغايات أعدائهم المتربّصين بهم، والشّانئين لهم، والطّامعين في مقدّراتهم وخيراتهم وتخريب بلدانهم من الخارج.
ومن المصارحة أن نصدع بالحقّ، ونصدُق في التّعبير، ونسمّي الأشياء بأسمائها، فهذه الفتن التي يُراد إيجادها لا تُبقي مُنجزا، ولا تصنع خيرًا، ولا تحقّق مصلحة، ولا تحفظ نفساً، ولا تصون عرضا، ولا هي في الطريق إلى كلّ ذلك ترفع للإسلام راية، ولا تكسر لأعدائه غاية، إنّما هي في تخبّطها وضلال مسعاها، كمن يُريد أن يبني قصرا فيهدم مصرا، والبراهين على ذلك لا تُحصى.
ودائما ما يقوم على هذا الحراك الذي يُراد منه زلزلة الأوضاع، وخلط الأوراق، وتبديد الشّمل، وإحلال الفوضى في كلّ ناحية من النّواحي أئمّة مُضلّون، ودعاةٌ على أبواب جهنّم من أجابهم قذفوه فيها.
والسّائرون في غيّهم، والثّملون من سكرتهم، واللاهثون خلف وعودهم الكاذبة، وأحلامهم الزائفة، جموع غفيرة لا كثّرهم الله.
وكيفما قلّبت الوجوه والافتراضات التي تنبعث منها رائحة الفتن، فإنّ القائم عليها، والداعي إلى إضرامها، والمحرّك لراكدها، هو كلّ صاحب هوى يلبس لبوس النُّصح ويتدثّر بدعوى الإصلاح، ويقولُ من قول خير البريّة، يدعو إلى كتاب الله وليس منه في شيء، يدعو إلى تحكيم الشّريعة وهو يفُتُّ في عضُدها، ويناوئ أهلها، ويُفرّق جماعتها، ويخرقُ سفينتها.
وإذا رأى خيرا في مجتمعه، أو مشروعاً فيه صلاحٌ للنّاس، وقيامٌ لهم، أغضى عنه، وأزرى عليه، وحقّّّر من شأنه، واستخفّ بنتائجه، وشكّك في مرادات القائمين عليه، وإذا وقعت عينهُ على قصورٍ أو خطأ أو مخالفةٍ لا يخلو منها مجتمع، ولا يكاد أن ينفكّ عنها عمل، أعنَتَ خاطرهُ، وكدّ ذهنهُ، ليتأدّى به غلوّه المحموم الذي يتجارى به إلى جعل تلك المخالفة أو ذاك التقصير أعظم النواقض وأشدّ الموبقات التي لا يسلم معها إيمان ولا يصحُّ عند إجراء الحكم بها يقين، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ” إنما أتخوف عليكم رجلا قرأ القرآن حتى إذا رُئِيَ عليه بهجته وكان ردءًا للإسلام اعتزل ما شاء الله، وخرج على جارِه بسيفه، ورماه بالشرك “.
وفي تلك الجموع المزيّفُ للحقائق، عليم اللسان، ذو فصاحة وبيان، وهو ممن يجادل بالباطل ليُدحض به الحق، فيُصيّر الحقّ باطلا والباطل حقا، ويجعل الحسن قبيحا والقبيح حسنا، وهو رأسٌ في كلّ فتنة، وساعٍ مع كلّ تغيير، وتجدهُ في كلّ أطواره عوناً وردءا لكلّ عدوٍّ يُريد هدم بنيان هذا المجتمع، وإطفاء نور الحقّ الذي ما زال يتردّد في أرجائه.
وفيهم السّاذج المغفّل من الهمج الرعاع، أتباع كل ناعق، من الذين يميلون مع كل ريح، ويهيمون في كلّ واد، فلا دين يحجزهُ عن غيّه، ولا عقل يمنعه من الصّيال على مجتمعه، والتخريب لمصالحه ومنافعه، من أجل حقوقٍ يتوهّم بلوغَها، ومصالح جزئيّة ليست الثورة والفوضى سبيلا شرعيّا للمطالبة بها، وقد ضمن له الخارجون على حكّام المسلمين نيلها وتحقيقها.
فيصدّق الغافلون تلك الشّعارات الكاذبة، ويغترّون بالدعاوى الحزبيّة الزائفة التي حرثت له على البحر، وكتبت لهم الوعود على كثبان الرمال المتحركة، فأوعزت إليهم أنّ الفردوس الذي خبأوه لهم، والنّعيم الذي ادّخروه لإسعادهم، سيجدونه محفوظاً لهم يستمتعون بطيّباته ويهنأون بخيراته بعد تخريب مجتمعهم، ونقض بنيانه، وهدم أركانه، وإزهاقِ كل روح تبقّت فيه، وحياةٍ تسري في عروقه.
ومما يتقطّع له القلب كمداً وأسفاً أنّ هذا الصّنف من النّاس، قد صار من حيثُ لا يدري أُلعوبة بأيدي المتاجرين بالدماء، ودعاة الأحزاب وسدنة الفُرقة، ودعاة الفتنة الذين يُراهنون على انفجار الأوضاع، وإحلال الفوضى والاضطرابات في المجتمعات المسلمة.
وكُل ما أصاب المسلمين من الفتن العمياء، والحوادث الصمّاء، التي تُسفك فيها الدماء المعصومة، ويُستهتر فيها بمصالح المسلمين واجتماعهم وأمنهم، فهو مما صنعتهُ أيدي الأئمّة المضلّين والجهلة المتعالمين الذين تواطأت قلوبهم، واجتمعت كلمتهم، وانعقدت خناصرهم على عداء هذا المجتمع المسلم الذي ترعرع كثيرٌ من هؤلاء المغرضين في أكنافه، ورضعوا من لبانه.
كتبه
محمد بن علي الجوني
29/ 4 / 1435هـ |