التحذير من الإسرافِ والتبذير


 

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي دبّر عبادَه في كلِّ أمورِهم أحسنَ تدبير، ويسّر لهم أحوالَ المعيشةِ وأمرهم بالاقتصادِ ونهاهم عن ‌الإسرافِ والتقتير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أنّ محمدًا عبدُهُ ورسولُه البشيرُ النذير، اللهم صل وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وأصحابه الذين سلكوا طرقَ الاعتدالِ والتيسير. أما بعد:

أيها الناس:

اتقوا الله تعالى، ودعوا مجاوزةَ الحدِّ في كلِّ الأمور، واسلكوا طريقَ الاقتصادِ في الميسورِ والمعسور.

فقد قال تعالى آمِرًا بِالِاقْتِصَادِ فِي الْعَيْشِ ذَامًّا لِلْبُخْلِ نَاهِيًا عَنِ السَّرَف: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ‌فَتَقْعُدَ ‌مَلُومًا مَحْسُورًا}. وجعل تعالى من صفاتِ عبادِ الرحمن التي امتدحهم بها في كتابه أنهم {إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}، فشرعُ اللَّهِ تعالى عدلٌ بَيْنَ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ، لَا إِفْرَاطَ وَلَا تَفْرِيط.

وإنّ من صورِ الانحرافِ عن شرعِ اللهِ التبذيرَ والإسرافَ في الولائمِ ونحوها، فقد نهى الله -عز وجل- عن ذلك وذمّ أهلَه في غير ما آيةٍ من كتابه، منها: قولُهُ تعالى: {ولا تبذر تبذيرًا} ثم قال منفرًا عنه: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} أَيْ: أَشْبَاهَهُمْ فِي ذَلِك. وبيّن تبارك وتعالى أنّ المسرفَ معرَّضٌ لعدمِ محبةِ اللهِ له، فقال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}. وقال البخاري: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “كُلُوا وَاشْرَبُوا، وَالْبَسُوا وَتَصَدَّقُوا، فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا مَخِيلَةٍ”، وقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: “كُلْ مَا شِئْتَ وَالْبَسْ مَا شِئْتَ مَا أَخْطَأَتْكَ اثْنَتَانِ سَرَفٌ أَوْ ‌مَخِيلَةٌ”.

عباد الله:

إنّ التبذيرَ والإسرافَ له آثارٌ سيئةٌ وعواقبُ وخيمةٌ، قد يعود ضررُها على المجتمع كلِّه. فإنّ الإسرافَ والتبذيرَ من كفرانِ النعمِ وعدمِ شكرِها، وقد قال الله تعالى: {وَإِذۡ ‌تَأَذَّنَ ‌رَبُّكُمۡ لَئِن شَكَرۡتُمۡ لَأَزِيدَنَّكُمۡۖ وَلَئِن كَفَرۡتُمۡ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيد}. وذكر -جلّ وعلا- في كتابه العزيز أخبارَ أقوامٍ أهلكهم الله، وأممٍ عذبهم سبحانه بسبب كفران النعم. وذكر في القرآنِ الكريمِ أمثلةً عديدةً لحالِ هؤلاء؛ ليعتبر من أراد الاعتبار وليدَّكر من أراد الادِّكار؛ فإن السعيد من وُعظ بغيره، والشقيَّ من اتعظ به غيره. فقال تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ}، وقال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}. كما أنّ في التبذيرِ والإسرافِ في الولائمِ هدرًا للمالِ والثروةِ الحيوانية في غيرِ منفعة، وهو سببٌ لشغلِ الذممِ بالديونِ لدى كثيرٍ من الناس، كما أنّ فيه كسرًا لقلوب الفقراء والمساكين.

ويعظم خطرُ الإسرافِ والتبذير إذا صاحبها المباهاةُ بها والمجاهرة. وإنّ من الظواهرِ الخطيرةِ في مجتمعِنا تصويرَ الولائمِ ونشرَها عبر وسائلِ التواصلِ الاجتماعي؛ لما يترتب على ذلك من كسرِ قلوبِ من شاهدها من الفقراءِ والمساكين، وإيقاعِ المدعوين في حرج، وإخراجِ الولائم عن المقصود منها إلى المباهاة والرياء، وتعريضِ المصورين أنفسَهم لفتح باب الشرِّ عليهم.

فقيدوا -رحمكم اللهُ- هذه النعمَ بحفظِها وشكرِها، واحذروا كفرَها بأي صورةٍ من صورِ كفرانِ النعم؛ فإنّ النعمَ إذا شكرت قرت، وإذا كفرت فرّت.

اللهم أوزعنا جميعًا شكرَ نعمِك، اللهم إنا نعوذ بك من زوالِ نعمتِك، وتحولِ عافيتك، وفجاءةِ نقمتِك، وجميعِ سخطك.

بارك الله لي ولكم.

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانِه، والشكرُ له على توفيقِه وامتنانِه، وأشهد أن لا إله إلا الله؛ تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنّ محمدًا عبدُه ورسولُه الداعي إلى رضوانِه، صلى الله وسلم عليه ورضي عن آله وأصحابه وأعوانه. أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنكم مسؤولون يومَ القيامة عن مصدرِ أموالِكم ومورِدِها، بل لا تزول قدما أحدِكم عن موقفه الذي سيقف فيه يوم القيامة حتى يُسأل، من أين آلت إليه هذه الأموال، وفي وجوه الحلال أو في وجوه الحرام أنفقها؟

فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيما أنفناه؟ وعن شبابه فيما أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه؟ وعن علمه ماذا عمل به؟) أخرجه الترمذي، وصححه الألباني.

وصلوا وسلموا رحمكم الله… .

 

أعد الخطبة/ د. بدر بن خضير الشمري

 

 

خطبة التحذير من الإسراف والتبذير


شارك المحتوى:
0