التعقيب على حامد العلي في اعتراضه على فتوى هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية بشأن الدعوة إلى المظاهرات
الحمد لله وحده وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه ، أما بعد ؛ فقد اطلعت على ماكتبه الأستاذ حامد العلي في موقعه على النت ، والذي وجه فيه سؤالا لنفسه وأجاب عليه ، ونص السؤال : فضيلة الشيخ ما هو الرد على الفتوى الصادرة من هيئة كبار العلماء في السعودية في تحريم المظاهرات ؟!
ثم أجاب الأستاذ بجواب يغلب عليه عدم تصور المسائل ، والحيدة عن النصوص الناقضة لما يستدل به ، والنزع إلى المتشابه ، والاستدلال بالعمومات والمطلقات ، والتجافي عن المخصصات والمقيدات ، بل والتناقض فيما كتب ، والاستدلال بما ينقض عليه ، والاستدلال بمن يُستدل له ولايستدل به من أهل العلم إذا تنزلنا وقلنا : إنما نقله عنهم يدل على مطلوبه ، وليست كذلك ، والخلط في تقرير المسائل العلمية، ولهذا فقد تقحم الأستاذ مركبا صعبا ، كان الأولى به أن يدعه لغيره من أهل العلم ، فأسأل الله أن يهدي قلبه ، ويشرح صدره للحق .
ثم أقول بعد ذلك : لولا خشية الاغترار به لتركت التنبيه عليه ، ولكن لازم النصيحة ـ وقد نشر ـ بيان الحق.
وسأختصر الكلام في النقاط الآتية :
أولا : لم يتطرق الكاتب لنقض فتوى هيئة كبار العلماء بالأدلة ، وإنما أخذ في بيان حكم المظاهرات من منظوره هو فقط ؛ لأنه لن يتمكن من ذلك ؛ لقيام الفتوى على ركائز متعددة مبنية على نصوص الكتاب والسنة وعمل السلف ، سواء ورد التصريح بها في البيان أم لم يرد . فسقط الرد من أصله .
ثانيا : فتوى الهيئة في تحريم المظاهرات وماشاكلها ـ فيما ظهر لي من البيان ـ مبنية على عدة أمور منها :
1 ـ وجوب الوفاء بالبيعة ، والسمع والطاعة في غير معصية الله ، وهذه المطالبات والمظاهرات كما لايخفى يرفع سقفها حتى تطالب بتنحية ولي الأمر ـ وقد حصل ـ وهذا خروج عليه ، ونقض للبيعة . ولو فرضنا جواز المظاهرات ، ثم منع منها ولي الأمر ؛ لوجب الالتزام بذلك .
وقد يقول الكاتب ، بل قال : المظاهرات من إزالة المنكر ونصرة المظلوم واسترداد الحقوق . قلت : هذا كلام من لم يعرف منهاج السلف ، وقد بينت شيئا من ذلك في ردي على الدكتور يوسف القرضاوي ، فليرجع إليه الكاتب .
2ـ رعاية مقاصد الإمامة ، والمصالح العظمى ، مما تنعم به المملكة العربية السعودية ـ حرسها الله ـ من نشر التوحيد والسنة ، ومحاربة الشرك والبدعة ، وإقامة شعائر الدين وحدوده ، وظهور أعلامه وآثاره على المجتمع والأفراد ، في كافة المناحي : الدينية والاجتماعية والأمنية والسياسية والعلمية …. مما لايوجد له نظير في العالم أجمع من قرون طويلة ، فضلا عن الاجتماع على خادم الحرمين الشريفين ببيعة شرعية على مقتضى أصول أهل السنة والجماعة ، بايعه فيها أهل الحل والعقد في كافة أنحاء المملكة ، وفوض بموجبها بإدارة شؤون البلاد داخليا وخارجيا ، فما اجتهد فيه فأخطأ فله أجر ، وما أصاب فله أجران .
وهذه الإيجابيات وغيرها كثير جدا ، ونحن في المملكة نعيشها ، وغيرنا يدركها ، هل يجوز سلبها بسبب خطأ أوتقصير ؟ وهل هذا يتفق مع مقاصد الإمامة ؟ وهل هذا يتفق مع قواعد المصالح والمفاسد والمآلات ؟
3ـ رعاية بشرية الحاكم ، فليس معصوما من الخطأ أوالخطيئة أوالتقصير ، وعلى حد زعم الكاتب يريد حاكما سالما من هذا كله ، وأنّى له ذلك ؟!
لكن هذا الخطأ والقصور لايعالج بالخروج عليه ، أوالتجمهر ، أوحشد الناس ضده ، بل يكون بالنصيحة على وجهها الشرعي كما بينه العلماء قديما وحديثا ، وقد ذكرت طرفا من ذلك في الرد على القرضاوي. وفي المقال المنشور بعنوان منهج السلف في التعامل مع الحاكم .
4 ـ عدم حصر المسؤولية في الحاكم وحده ، بل الشعب مسؤول كذلك ، كما دلت عليه النصوص الشرعية ، وهذا يوجب على الطرفين التعاون على البر والتقوى ، والتكامل ، والتناصح ، وليس التنافر والتقاطع والتدابر .
5 ـ العدل في القول ، فقد حدد البيان الواجب تجاه ولي الأمر ، وفي الوقت نفسه لم يغفل عن تذكير ولي الأمر بما يجب عليه . وكل ذلك بأدلة شرعية .
أرجو أن لايغفل عن هذا الأستاذ حامد وفقه الله ، وشرح صدره للبر والتقوى .
ثالثا : نقل الكاتب عن العلامة ابن القيم رحمه الله أنه قال : (ولايتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى ، والحكم بالحق إلاَّ بنوعين من الفهم :أحدهما : فهم الواقع والفقه فيه ، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن ، والإمارات ، والعلامات حتى يحيط به علما . والنوع الثاني : فهم الواجب في الواقع ، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه ، أو على لسان رسوله فـي هذا الواقع ) .
وهذا كلام لا إشكال فيه ، ولكن الشأن في تنزيله ، وهنا أسأل الأستاذ فأقول :
1 ـ هل أنت أعلم من علمائنا بالواقع في المملكة ، وهم يعيشون على أرضها ، وأنت تعيش في وطنك الكويت ؟ ولوسألناك عن أشياء يسيرة مما يتداوله غلماننا لما عرفته !!! ( وإذا قلتم فاعدلوا ) .
2ـ تقديمك بهذا تجهيل لعلمائنا الذين أجمع المسلمون على الثقة بهم ، والرجوع إليهم ، إلا من حرم من متعالم ، أوغافل ، أوذي هوى .
وليت الأمر كان مقصورا على التجهيل ، بل تجاوزت فأحللت نفسك المحل الذي لست أهلا له ، فنصبت نفسك عالما ، وعرضت عليها أسئلتك في موقعك ، باسم المستفتين . وأظن هذا ـ إن كنت تريد شهرة ـ سيسقطك .
3 ـ ثم بالنظر في كلامك الذي جعلته دليلا على أحقيتك بالعلم من هيئة كبار العلماء ، يبرز عوارك في جوانب :
أحدها : ماذكرته من كلام هنا هو مأخوذ من كتاب الدكتور حاكم بن عبيسان المطيري في كتابه
( الطوفان ) ، وكان حري بك ـ أمانة ـ أن تسنده إليه .
الثاني : أن هذا الكلام الذي ذكرته قد رد عليه أحد علماء الكويت ، وهو فضيلة الدكتور المحقق حمد العثمان في كتابه ( الغوغائية هي الطوفان ) ، فلم أعرضت عن ذكر ما أجاب به عن هذه الشبهات التي تنقض عليك ما كتبت ؟ لا أجد جوابا عن ذلك إلا عجزك العلمي . والكتاب طبع عدة طبعات ؛ لنفاسته ، وثناء أهل العلم .
الثالث ـ إعراضك عن أدلة المانعين من المظاهرات ، ومحاولة أن لايرد على ماذكرته ـ مما تزعم أنه أدلة ـ ماينقضه من النصوص الصريحة الصحيحة .
الرابع ـ الخلط العجيب في المسائل وتنزيلها ؛ مما يدل على عدم استقرار منهج الاستدلال عندك أوعدم معرفته ، مع سوء فهم النصوص وكلام أهل العلم ووضعه في غير موضعه . وقد بين فساد هذا كله أخونا الشيخ حمد العثمان حفظه الله .
وأذكر هنا مثالا استشهدت به على جواز المظاهرات ، فقلت في ذلك : ( وأيضـا مما ورد في السنة من استدعاء الحشد للبلاغ ، ما في الصحيحين عن ابن عباس قال : ( لما أنزل الله عز وجـل : وأنذر عشيرتك الأقربـين ، أتى النبي _ صلى الله عليه وسلم _ الصفـا فصعـد عليه ، ثم نادى : يا صباحاه ، فاجتمع الناس إليه ، بين رجل يجيء إليه ، وبين رجل يبعث رسوله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا بني عبد المطلب ، يابني فهر ، يابني لؤي ، أرأيتم لو أخبرتكم ، أنَّ خيلاً بسفح هذا الجبل ، تريد أن تغيـر عليكم ، صدقتموني ؟ قالوا : نعم ، قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ) ، فقال أبو لهب : تبا لك سائر اليوم ، أما دعوتنا إلاّ لهذا ؟ وأنزل الله ( تبت يدا أبي لهب وتب ) .فهذا نـصٌ واضـح في أنَّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم ، صعـد ليراه الناس ، واستدعاهم ليجمعهم في مكان واحـد _ في صورة أشبه ما تكون بالمظاهـرات السلمية اليوم التي يراد منها رفع مستوى قـوّة الاحتـجاج _ وليبلّغهم ، فاحتشدوا له ، واستغـلّ هذا الحشـد ، ليوصل صوته إلى أبـعد مدى ، فيبلغ ما أمـر بتبليغـه. فليت شعري أيُّ فرق بين هذا ، وأن يدعو دعاةُ الإصلاح الناسَ لمكان محدد ، يدعون إلى حشـد كبير، ليبلّغوا السلطة مطالبهم ، وليوصلوا حقوقهم ، ليكون فعلهم أشد وطأة ، وأعظـم تأثيرا في التغييـر ؛ إذ من المعلوم أنَّ استدعاء الحشد متظاهرين ، للاحتجاج الجماعـي ، يؤدي دورا بالغ التأثيـر في التغيير، كما هو شأن كلّ ما يجتمع عليها الناس في شئونهـم العامّـة ، فيكونون أقـوى به من حال الانفـراد ، كما ذكرنـا) .
أرأيت هذا الفهم المقلوب الذي يغني ذكره عن الرد عليه ! بعث عليه الاعتقاد ثم الاستدلال ، أوتوظيف العلم للفكر ؛ فبالله كيف تستدل بفعل النبي صلى الله عليه وسلم في جمع الناس ليدعوهم إلى عبادة الله وحده ، على مشروعية جمع الناس للخروج بهم على السلطان ؟! فأين هذا من هذا ؟!!
الخامس ـ ويكفي استدلالا على أجنبيتك عن العلم أنك ذكرت أن أعظم أهداف هذه الأمـّة ، وأرفع غاياتها ، وأسمـى قِيَمِها ، هو العدل ، والإصلاح ، وتحرير العباد من الجور، ورفع المظالم ، والمفاسـد عنهم.
سبحان الله !! أليس التوحيد هو أعظم شيء ، وأحق مايدعى إليه ؟! أين تذهب يا أستاذ هداك الله ؟
السادس ـ تختار من الحوادث التاريخية ما ترى أنه يدعم موقفك ـ وهو ليس كذلك ، وعلى فرض صحته، ففعل البشر محجوج بالسنة المحكمة ـ وتترك ما ترى أنه ضدك ، فقد ذكرت بعض أعمال المنتسبين إلى مذهب أحمد ـ التي تعتقد أنه تؤيدك ـ وتركت ماصنعه إمامهم ـ رضي الله عنه ـ وهو من هو في الفقه والاتباع !! حين كان في الأغلال قد حمل على قول الكفر ـ وهو القول بخلق القرآن ـ فيماذكره حنبل في قوله : ( اجتمع فقهاء بغداد فقالوا له : إن الأمر قد تفاقم وفشا يعنون إظهار القول بخلق القرآن وغير ذلك ولا نرضى بإمرته ولا سلطانه ، فناظرهم في ذلك وقال عليكم بالإنكار بقلوبكم ولا تخلعوا يدا من طاعة ولا تشقوا عصا المسلمين ، ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم ، وانظروا في عاقبة أمركم ، واصبروا حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر ، وقال ليس هذا بصواب ، هذا خلاف الآثار ) .
فأين الموضوعية ؟! وأين طلب الهدى ؟! ولستَ في مقام رد ، ولكن في مقام تقرير .
رابعا : لا أجد لك عذرا فيما كتبت ـ ولايصح الاعتذار به ـ إلا أنك غلبك الجانب السياسي الصحفي، فحاولت جاهدا التوفيق بينه وبينه الشرع على حد قول من ضللهم الله ( إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا ) ، ولعل ما يجلي هذا قولك 🙁 ولأنَّ وسيلة الاحتشاد للتظاهـر ، مؤثـِّرة في التغيير الإصلاحي ، فقد استعملت في تاريخ أمّتنـا الإسلامية، بالطبيعة التي أودعها الله في السنن الاجتماعية البشرية ، أنَّ الناس تجتمع فيما تشترك فيه ، وتستعمـل اجتماعها في تحقيـق أهدافهـا ، ولهذا أُسِّست النقابات ، والاتحادات ، والأحزاب ، ونحوها من التجمَّعات وجعل في يدها وسائـل تمكنها من نيل حقوقها بقوة الدسـتور ، في كلّ دول العالم المتحضّـر ، التي ترفض الاستبداد ، وتترفَّع عن الصيـغ المتخـلّفة للحكم ) .
فهل اختلط عليك الوحي المنزل من رب العالمين الذي لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ، بقوانين البشر ودساتيرهم الوضعية ، التي يصدق فيه قول الله ( ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن ) ؟ فكلامك خليط منهما ، وليس خالصا للوحي ؛ ولهذا صار تقريرك لما اعتقدت ، وليس لما يجب أن تعتقد !!
خامسا : أرغب إلى الكاتب أن يبين لنا موقفه من أحاديث السمع والطاعة ، والصبر على جور السلطان ، وتحريم الخروج عليه إلا بالكفر البواح .
سادسا : اذكر نفسي والكاتب وكل مسلم بقوله تعالى : ( فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى ، وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ) .
أسأل الله لي ولأخي حامد التوفيق والسداد ، والاجتماع على الحق ، وإخلاص القصد ، وحسن الاتباع . والحمد لله رب العالمين .
كتبه / عبدالعزيز بن محمد السعيد
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
في 6 / 3/ 1432هـ