التَّنْبِيهَاتُ الْلَّطِيفَة فِي عَدمِ ثُبوتِ الشُّربِ مِنْ يَدِ النَّبِيِّ الشَّرِيفَة
وفيها: وَقَفَاتٌ مَع سُورَةِ الْكَوْثر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على آلائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في أرضه وسمائه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخاتم أنبيائه، صلى الله عليه وآله وأصحابه صلاةً دائمةً إلى يوم لقائه، أما بعد:
فإن الله عز وجل أعطى رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم الحوض المورود الذي من شرب منه شربةً؛ لا يظمأ بعدها أبدًا.
قال ربنا جل وعلا: {إنا أعطيناك الكوثر * فصل لربك وانحر * إن شانئك هو الأبتر}.
فالكوثر هو الخير الكثير، على وزن (فَوْعَل) يدل على المبالغة في الكثرة، والعرب تسمي كل شيءٍ كثير العدد أو القدْر أو الخير (كوثرًا)، قال الشاعر:
وأنا كثير يا ابن مروان طيب ****** وكان أبوك ابن العقائل كوثرَا
ومعنى الآية الكريمة {إنا أعطيناك الكوثر}: {إنا أعطيناك} يا أيها النبي {أعطيناك} قالها ربنا عز وجل بصيغة الماض المفيد للوقوع، ولم يقل سبحانه: سنعطيك؛ لأن الوعد لمّا كان محقّقًا عبَّر عنه بالماض مبالغةً؛ فكأنه حدث ووقع. {الكوثر} الخير الكثير الذي هو غاية في الكثرة لأنه كوثرًا.
قال بعض المفسرين: الكوثر: الخير الكثير كالقرآن، والحكمة، وكثرة الأتْباع، والشفاعة، وغير ذلك من خيري الدنيا والآخرة. وأضاف بعضهم فقال: ونهر في الجنة.
أخرج البخاري بسنده عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في الكوثر: هو الخير الذي أعطاه الله إياه. قال أبو بشر: قلت لسعيد بن جبير: فإن ناسًا يزعمون أنه نهر في الجنة؟! فقال سعيد: النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه.
وروى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه قال: لما عُرِج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء قال: «أَتَيْتُ على نهر، حافتاه قِباب اللؤلؤ، مُجوّفًا؛ فقلت: ماهذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر»
وروى البخاري عن أبي عبيدة عن عائشة رضي الله عنهما قال: سألتها عن قوله تعالى: {إنا أعطيناك الكوثر}؛ قالت: نهر أُعطِيَهُ نبيُّكم صلى الله عليه وسلم، شاطئآه عليه دُرٌّ مجوّف، ، آنيته كعدد النجوم.
وروى مسلم وغيره عن أنس رضي الله عنه قال: بَيْنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءةً، ثم رفع رأسه متبسِّمًا؛ فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: «أُنزِلت عليَّ آنفًا سورَة» فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم {إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر إن شانئك هو الأبتر} ثم قال: «أتدرون ما الكوثر؟» فقلنا: الله ورسوله أعلم. قال: «فإنه نهر وَعَدَنِيه ربي عز وجل: عليه خير كثير، هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد النجوم، فَيُختلج العبد منهم؛ فأقول: رب إنه من أمتي، فيقول: ما تدري ما أحدثت بعدك».
والأحاديث في هذا كثيرة، وفيرة، ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن تتبعها فلن يجد أن الرسول صلى الله عليه وآله وصحبه ذكر أنه يسقي أحدًا بيده الشريفة، بل ورد أن المؤمنين المتبعين له يشربون من آنية الحوض التي عددها كنجوم السماء.
ومعنى أن لها مثل هذا العدد بل أكثر؛ فلكثرة الشاربين بأيديهم من الآنية الكثيرة.
وقد دعاني لكتابة هذا؛ ما يعتقده بعض الناس، بل ما جرى على ألسنة بعض الخطباء أو أئمة الصلوات، وكذلك فيما انتشر من أدعية، فنسمع كثيرًا، ويتردد في آذاننا دعاءهم المشهور بقولهم: (واسقنا من يده الشريفة شربة هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبدا). معتقدين بدعائهم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسقي المؤمنين بيده، وهذا اعتقاد خاطيء؛ من أين لهم أن النبي عليه الصلاة والسلام يسقي الناس بيده؟
فالإخبار بسقاية الرسول للناس؛ من الغيب، وأمور الغيب ينبغي الإيمان بها كما وردت، دون اختلاف فيها أو تأويل، أو زيادة أو نقصان بغير دليل، وأحوال الآخرة عمومًا تختلف عن أحوال الدنيا؛ هذه عقيدة السلف الصالحين، والأئمة التابعين ومن تبعهم، رضي الله عنهم أجمعين.
وهذا الخطأ يكون من نواحٍ، منها: أن هذا لم يثبت كما قدّمت آنفًا؛ فلم يرد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا أصحابه رضي الله عنهم أنه يسقي أحدًا بيده الشريفة، بل ثبت أن من ورد الحوض فإنه يشرب منه كما قال عليه الصلاة والسلام: «والذي نفسي بيده لآنيته أكثر مِنْ عدد نجوم السماء، وكواكبها في ليلةٍ مُظلمةٍ مُصْحيةٍ مِن آنية الجنة، من شَرِبَ شربةً منها لم يظمأ» رواه مسلم في كتاب الفضائل. وفي رواية عند أحمد: «مَن شَرِب منه لم يظمأ أبدًا» صححها الألباني في «الترغيب والترهيب»(439/3).
فها أنت ترى في هذين الحديثين وغيرهما مما ثبت، أنه صلى الله عليه وآله وصحبه لم يذكر أنه يسقي أحدًا بيده، بل قال: «من شرب» أي: باشر الشرب بنفسه، وليس من أُشرِب، ولو أن الشرب بيده صلى الله عليه وآله وسلم؛ لذَكره عليه الصلاة والسلام تمامًا؛ مثلما ذكر بعض المشاهد الحاصلة عند الحوض من:
أن يذاد عن الحوض أناسًا من أمته.
وأنه فرط أمته على الحوض.
وأنه يقول سحقًا للمُبدِّلين لشريعته وسنته.
وأناسًا يضربهم الملائكة…وهكذا.
كما أنه عليه الصلاة والسلام أيضًا علَّق في الأحاديث الشرب على ورود المؤمنين الحوض، وليس على أن يسقيهم هو بيده.
ولتأكيد ما سبق: أذكر دعاءً أورده ابن تيمية عن الإمام أحمد رحمهما الله فيما يُدعَى به عند زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو: وأوردنا حوضه، واسقنا بكأسه مشربًا رويًّا لا نظمأ بعدها أبدًا. انتهى من كتابه «الرد على الأخنائي» (1/ 106).
وقال الشيخ صالح آل الشيخ حفظه الله في شرح «العقيدة الطحاوية» (شريط 14):
وهذا التشبيه بقوله «كنجوم السماء» نفهم منه صفتين:
الصفة الأولى: الكثرة، في أنَّ كثرتها كثرة نجوم السماء، وهذا يدل على مزيد راحة، وطمأنينة في الشرب منه وتناوله، وألا يكون هناك تزاحم على كيزانه، أو أنَّ الناس يشربون بأيديهم.
والصفة الثانية: أنَّ كيزانه أو كيسانه أو أباريقه، أو نحو ذلك كنجوم السماء في الإشراق والبهاء والنور؛ فنجوم السماء فيها صفة الكثرة، وفيها صفة النور والبهاء. انتهى كلامه.
فمفهوم الشرب من حوضه المورود أنه صلى الله عليه وآله وسلم يتقدّم أُمته عليه، وكل من ورد من أمته فإنه يشرب – كما هو الأصل في شرب الناس لأنه لا دليل لغير هذا – من الحوض بالآنية المذكورة، والكؤوس الموفورة.
أما الطغاة، والمبتدعة، والمبدّلين للشريعة، والصادين عن سبيل الله؛ فإنهم يُضربون ويُدفعون عن الحوض؛ فيأتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأخذهم والدفاع عنهم؛ فَيُخبَر أنهم بدَّلوا وغيَّروا؛ فيقول: سُحقًا.
وهنا لطيفة بديعة أذكرها من باب الفائدة وهي:
أن الله عز جاهه ختم هذه السورة العظيمة (الكوثر) بقوله: {الأبتر}.
وهذا الأسلوب يسمى عند العلماء بالمطابقة؛ حيث تطابقت أول آية {الكوثر} مع آخر آية {الأبتر} أي: الأقطع.
ويدل هذا على: أن شانيء الرسول، أي: مبغضه، ومبغض ما جاء به من الهدى ودين الحق، ومبغض الخير المبالَغ في كثرته الذي سُميَ بـ (الكوثر)؛ هو {الأبتر} أي: الأقطع عن الخير والحق والهدى، والمقطوع عن كل خير.
والله سبحانه أجل وأعلم.
وأسأل الله سبحانه أن يجعلنا هداة مهتدين، وأن يوردنا حوض نبيه، ويسقينا بكأسه شربا رويًّا لا ظمأ بعده أبدًا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
وكتب
الفقير إلى عفو ربه القدير
أبو مارية أحمد بن فتحي
الأحد السابع والعشرون من شهر الله المحرم للعام الثاني والثلاثين بعد الأربع مئة والألف من هجرة النبي صلى الله عليه وآله وصحبه
2/1/2011 ميلادي
مدينة الشيخ زايد (رحمه الله)
مصر