الجرائم الاخلاقية في وسائل الاعلام
من الطبيعي ألاّ يخلو زمان أو مكان من وجود المنكرات والمعاصي أو الجرائم حتى في القرون المفضلة فالبشر ليسوا معصومين وهذه سنة الله في خلقه وكل بني آدم خطاء ولكن الذي لم يكن طبيعيا أن نجد من يجعل هذه الجرائم والمنكرات هي بضاعة اعلامية يقتات منها ويتسابق اليها بعض الصحفيين والاعلاميين لنشرها على صفحات جرائدهم وعلى شاشات قنواتهم بشكل تتقزز منه الطباع السليمة فلا يكاد يمر يوم الا وانت تشاهد أو تقرأ في وسائل الاعلام أنواعا من الاخبار عن جرائم الاغتصاب والاختطاف والابتزاز والقتل والسرقات وفعل الفواحش وعرضها بطريقة لاتخلو من الاثارة ولفت الأنظار بل هناك من خصص صفحة أو أكثر لنشر هذه الجرائم دون مراعاة للأحكام الشرعية أو المشاعر البشرية فهل هذا العمل له مستندات شرعية أم لوائح وأنظمة مرعية أم أنها السبق الصحفي وما تقتضيه المهمة الاعلامية ؟
قبل الجواب عن هذا التساؤل لننظر الى المنهج القرآني في التعامل مع هذه القضايا قال تعالى (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)
قال العلامة السعدي رحمه الله ((ليشتهر ويحصل بذلك الخزي والارتداع، وليشاهدوا الحد فعلا فإن مشاهدة أحكام الشرع بالفعل، مما يقوى بها العلم، ويستقر به الفهم، ويكون أقرب لإصابة الصواب، فلا يزاد فيه ولا ينقص)) قال الشوكاني : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مّنَ المؤمنين } أي : ليحضره زيادة في التنكيل بهما ، وشيوع العار عليهما ، وإشهار فضيحتهما.
والأعجب من ذلك كله ما نقله ابن أبي حاتم عن نصر بن علقمة في قوله: { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } قال: ليس ذلك للفضيحة، إنما ذلك ليدعى اللهُ تعالى لهما بالتوبة والرحمة.(تفسير ابن كثير).
قلت : فتأمل قوله تعالى (وليشهد عذابهما ) ولم يقل : خبر فعلتهما ، أو جريمتهما وإنما قال : عذابهما ، مما يبين أن الحد الذي أقيم والجزاء المستحق لها انما هو لجريمة سابقة قد حصلت وانتهت وهذا هو جزاءها فيُحدث في نفس المشاهد اطمئنانا لتحقيق العدل واقامة الحكم الشرعي ، ولذلك عندما نشاهد الآن من خلال بعض الوسائل الإعلامية خبر القبض على لصوص سرقة سيارات أو مجوهرات أو محلات ومع كثرتها إلا أننا لا نسمع القدر الذي يقابلها من إقامة الحدود من قطع اليد ونحوه مما يستحقه الجناة مما يورث عند القاريء والمشاهد شبهة عدم تطبيق الحدود على هؤلاء دون أن يفهم القاريء ملابسات القضية والشبه التي يُدرأ بها الحد ككون السرقة تمت من مكان غير محرز أو لم تتوفر فيه شروط إقامة الحد التي لا يعرفها الكثير من الناس، فضلا عن أن هناك ممن يمكن أن يوظف هذه الوقائع للطعن في الدولة بأنها لا تحكّم الشريعة وبالتالي كانت كثرة الجرائم دليلاً على ذلك ، أو يأتي من يقول أن الشريعة لا يصلح الحكم بها لأنه لا يمكنها معالجة هذه الحوادث ، والواقع خير شاهد.
والمتأمل المنصف يرى أن نشر مثل هذه الجرائم لا يبعد أن يكون داخلا تحت قوله تعالى (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون ….)
قال السعدي : فإذا كان هذا الوعيد ، لمجرد محبة أن تشيع الفاحشة، واستحلاء ذلك بالقلب، فكيف بما هو أعظم من ذلك، من إظهاره، ونقله ؟ ” وسواء كانت الفاحشة، صادرة أو غير صادرة، وكل هذا من رحمة الله بعباده المؤمنين ، وصيانة أعراضهم، كما صان دماءهم وأموالهم، وأمرهم بما يقتضي المصافاة، وأن يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه. { وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } فلذلك علّمكم، وبين لكم ما تجهلونه..ا.هـ
ومما ينبغي الالتفات إليه هو فهم الصحابة رضي الله عنهم لخطورة نشر ما لا يجوز نشره خشية أن يطير بالخبر من رعاع الناس ومن ثم يضعونها في غير مواضعها ولذلك قال عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن عوف لابن عباس(( لَوْ رَأَيْتَ رَجُلًا أَتَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْيَوْمَ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَلْ لَكَ فِي فُلَانٍ يَقُولُ لَوْ قَدْ مَاتَ عُمَرُ لَقَدْ بَايَعْتُ فُلَانًا فَوَاللَّهِ مَا كَانَتْ بَيْعَةُ أَبِي بَكْرٍ إِلَّا فَلْتَةً فَتَمَّتْ فَغَضِبَ عُمَرُ ثُمَّ قَالَ إِنِّي إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَقَائِمٌ الْعَشِيَّةَ فِي النَّاسِ فَمُحَذِّرُهُمْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْصِبُوهُمْ أُمُورَهُمْ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَقُلْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا تَفْعَلْ فَإِنَّ الْمَوْسِمَ يَجْمَعُ رَعَاعَ النَّاسِ وَغَوْغَاءَهُمْ فَإِنَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ يَغْلِبُونَ عَلَى قُرْبِكَ حِينَ تَقُومُ فِي النَّاسِ وَأَنَا أَخْشَى أَنْ تَقُومَ فَتَقُولَ مَقَالَةً يُطَيِّرُهَا عَنْكَ كُلُّ مُطَيِّرٍ وَأَنْ لَا يَعُوهَا وَأَنْ لَا يَضَعُوهَا عَلَى مَوَاضِعِهَا فَأَمْهِلْ حَتَّى تَقْدَمَ الْمَدِينَةَ فَإِنَّهَا دَارُ الْهِجْرَةِ وَالسُّنَّةِ فَتَخْلُصَ بِأَهْلِ الْفِقْهِ وَأَشْرَافِ النَّاسِ فَتَقُولَ مَا قُلْتَ مُتَمَكِّنًا فَيَعِي أَهْلُ الْعِلْمِ مَقَالَتَكَ وَيَضَعُونَهَا عَلَى مَوَاضِعِهَا)) (البخاري).
ولا شك أن مثل هذه الأخبار نوع من الخوف الذي يقلق الناس الذي ينبغي عدم التسرع في نشره بل يجب الرجوع فيه الى ولاة الأمر من الحكام والعلماء الذين يعرفون حقيقة التعامل مع هذه الأخبار ولذلك قال الشوكاني رحمه الله عند قوله تعالى{ وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ الأمن أَوِ الخوف أَذَاعُواْ بِهِ } وهؤلاء هم جماعة من ضعفة المسلمين كانوا إذا سمعوا شيئاً من أمر المسلمين فيه أمنٌ نحو ظفرِ المسلمين ، وقتلِ عدوِّهم ، أو فيه خوفٌ نحو هزيمةِ المسلمين وقتلِهِم أفشوه ، وهم يظنون أنه لا شيء عليهم في ذلك . وقوله : { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرسول وإلى أُوْلِى الأمر مِنْهُمْ } وهم أهل العلم والعقول الراجحة الذين يرجعون إليهم في أمورهم أو هم الولاة عليهم { لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } أي : يستخرجونه بتدبيرهم وصحة عقولهم . والمعنى : أنهم لو تركوا الإذاعة للأخبار حتى يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يذيعها ، أو يكون أولي الأمر منهم هم الذين يتولون ذلك؛ لأنهم يعلمون ما ينبغي أن يُفشىَ ، وما ينبغي أن يُكتم.ا.هـ
ثم إن نشر هذه الجرائم الأخلاقية عبر وسائل الأعلام يفرح الأعداء والحاقدين والحاسدين وأهل الشهوات والمنكرات ويشمتون بمجتمعنا وخاصة عندما تنقل الأرقام والإحصائيات المخيفة لهذه الجرائم ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو يدلل على أن الأعداء من أصحاب المنكرات والكفر والنفاق وغيرهم يتمنون أن يكون غيرهم مثلهم فقال : قال الله تعالى : { ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق } وقال تعالى في المنافقين : { ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء } . وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه ودت الزانية لو زنى النساء كلهن . والمشاركة قد يختارونها في نفس الفجور كالاشتراك في الشرب والكذب والاعتقاد الفاسد وقد يختارونها في النوع ؛ كالزاني الذي يود أن غيره يزني ؛ والسارق الذي يود أن غيره يسرق أيضا)ا,هـ(الفتاوى 28/151) ويؤكد هذا أن المجرم الذي كان يستتر بجريمته ولا يظهرها أنه عندما يرى كثرة هذه الجرائم فإن ذلك مما يجعله أكثر جرأة على إظهارها بعد أن كان يخفيها
ومما يترتب على ذلك أيضاً إيجاد اليأس والقنوط الذي يدب إلى قلوب الغيورين وذلك لما يرون من كثرة المنكرات والفساد وقد يصل بهم إلى درجة الإحباط
ومما يترتب على ذلك أيضا انتشار الأمرض النفسية التي تأتي عادة كردةِ فعلٍ من كثرة ما يشاهدونه و يقرأونه عن جرائم الاغتصاب والسرقة والقتل والاختطاف ونحو ذلك ، والذي له علاقة أو صلة بواقع عيادات الأمراض النفسية يعرف ذلك جيداً .
ثم إن نشر مثل هذه الجرائم الأخلاقية يُوجد عند المجتمع حالةً من التطبع والاستمراء إلى درجة التبلد وعدم الإحساس بها وعدم استنكارها واستبشاعها رغم فضاعتها وشناعتها بل ربما يصل الأمر إلى تولد نظرةٍ تشاؤميةٍ تجاه هذا البلد أو ذاك أو إلى منطقة بعينها دون باقي المناطق ، وخيرُ شاهدٍ على هذا ما نراه عبر بعض صحفنا من نشر للجرائم الأخلاقية بجميع أنواعها في بعض المناطق في المملكة أكثر من غيرها مما أعطى الناس والقراء انطباعا بأن تلك المنطقة مشهورة ومعروفة بكثرة الجرائم أكثر من غيرها مع أنه قد توجد منطقة أخرى هي أكثر منها في حصول الجرائم ولكنها لم تنشر كما نشر غيرها..
هناك قسم آخر يؤيدون نشر هذه الجرائم عبر وسائل الأعلام ويقولون :
إن النشر يساعد رجال الأمن في تعقب المجرمين والقبض عليهم وتنبيه الجمهور بخطورتهم وخلق الوعي الجماهيري لدى الناس.
والجواب أن يقال: إن هذه التعليل عليل وليس دقيقا فقد يكون بعض الصحافيين ممن يقدم معلومات خاطئة ومظللة تزيد الجريمة تعقيدا لمجرد السبق الصحفي ولزيادة عدد المتابعين من القراء لتلك السلسلات التى تنشرها ، وربما تكون مقصودة لصرف الأنظار عن المجرم الحقيقي و للتمويه على رجال الأمن لتتمكن تلك العصابات من تنفيذ ما تريد والوصول إلى مبتغاها.
بل إن المجرم المشاهد والمتابع لهذه الأخبار يستفيد منها أن الخطة التي استعملت في تلك الجريمة المنشورة أصبحت معلومة ومعروفة ومكشوفة عند الناس والأجهزة الأمنية وبالتالي فهو سيبحث ويلجأ إلى أساليب وخطط جديدة لتنفيذ جريمته .
وأما خلق الوعي الجماهيري فإنه لا يكون بنشر هذه الجرائم عبر وسائل الأعلام وإنما يكون بالطرق الصحيحة والأساليب الشرعية من النصح والتذكير والوعظ والأطروحات التوعوية من محاضرات وندوات ومؤلفات لبيان خطورة العمل والجرم الفلاني بفضح الألاعيب التي يمارسها أصحابه وطرق الحذر منها
أما القول بأن الإعلام مرآة المجتمع ويعكس ما يحصل فيه فيمكن الجواب عن هذا بأن هذا الأمر يفتح باباً واسعاً للتدخل في خصوصيات المجتمع وربما يصل إلى بيوتهم لنشرها على الأعلام بحجة أن الإعلام يعكس صورة المجتمع وما الفرق بين هذا وبين النمّام الذي ينقل أقول الناس وأفعالهم في المجالس ؟؟ فهل فعله هذا إلا مرآة تعكس صورة المجتمع والبيوت وما يحصل فيها .
وفي خاتمة المطاف إن كان ولا بد من نشر هذه الجرائم الأخلاقية فينبغي تقييد هذا النشر لهذه الحوادث والجرائم وقصرها على مراكز الاختصاص والأبحاث المعنية والمهتمة بهذه الأمور لا أن تكون مبثوثة لكل أحدٍ فينبغي قصرها مثلاً على الجهات الجنائية والاجتماعية والنفسية والأمنية والتى تُعنى بمثل هذه القضايا لعمل الدراسات والأبحاث التي تعود بالفائدة على المجتمع لعلاج مثل هذه الانحرافات والسلوكيات بالطرق المناسبة وإصدار التوصيات للحد من انتشارها وإيجاد الحلول المناسبة لها .
محمد بن أحمد الفيفي
عضو هيئة التدريس
جامعة الامام محمد بن سعود الاسلامية