بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده ، و نستعينه ، و نستغفره ، ونعوذ بالله ، من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له , وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد :
مما ينبغي أن يعلم أن ما يجري من خصومة بين أهل العلم المنتسبين للدعوة السلفية غير محمود ولا ينبغي الفرح به بل هو داخل تحت قول الله تبارك وتعالى:[وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ] {المائدة:14}.
قال شيخ الإسلام مبينا نوعا من أسباب ذلك :” فأخبر أن نسيانهم حظا مما ذكروا به وهو ترك العمل ببعض ما أمروا به كان سببا لإغراء العداوة والبغضاء بينهم وهكذا هو الواقع في أهل ملتنا مثلما نجده بين الطوائف المتنازعة في أصول دينها وكثير من فروعه من أهل الأصول والفروع ومثلما نجده بين العلماء وبين العباد ” أهـ (1)
وقال ايضا رحمه الله:” وتقع العداوة بين الطائفتين بسبب ترك حظ مما ذكروا به والبغي الذي هو مجاوزة الحد إما تفريطا وتضييعا للحق وإما عدوانا وفعلا للظلم والبغي تارة يكون من بعضهم على بعض وتارة يكون في حقوق الله وهما متلازمان ولهذا قال بغيا بينهم فإن كل طائفة بغت على الأخرى فلم تعرف حقها الذي بأيديها ولم تكف عن العدوان عليها ” أهـ (2)
وقال رحمه الله:” وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك ولا يطلبه ولا يرضى لرضا الله ورسوله ولا يغضب لغضب الله ورسوله بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه ويغضب إذا حصل ما يغضب له بهواه ويكون مع ذلك معه شبهة دين أن الذي يرضى له ويغضب له أنه السنة وهو الحق وهو الدين فإذا قدر أن الذي معه هو الحق المحض دين الإسلام ولم يكن قصده أن يكون الدين كله لله وأن تكون كلمة الله هي العليا بل قصد الحمية لنفسه وطائفته أو الرياء ليعظم هو ويثنى عليه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) – مجموع الفتاوى:( ج1/ ص14).
(2) – مجموع الفتاوى:( ج1/ ص16).
أو فعل ذلك شجاعة وطبعا أو لغرض من الدنيا لم يكن لله ولم يكن مجاهداً
في سبيل الله فكيف إذا كان الذي يدعي الحق والسنة هو كنظيره معه حق وباطل وسنة وبدعة ومع خصمه حق وباطل وسنة وبدعة.
وهذا حال المختلفين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا وكفر بعضهم بعضا وفسق بعضهم بعضا ولهذا قال فيهم:[وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ * وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ] {البيِّنة:4-5} ” أهـ (1)
وقال رحمه الله:” وقال تعالى:[يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ] {المؤمنون:51-53} , فظهر أن سبب الاجتماع والألفة جمع الدين والعمل به كله وهو عبادة الله وحده لا شريك له كما أمر به باطنا وظاهرا , وسبب الفرقة ترك حظ مما أمر العبد به والبغي بينهم.
ونتيجة الجماعة رحمة الله ورضوانه وصلواته وسعادة الدنيا والآخرة وبياض الوجوه , ونتيجة الفرقة عذاب الله ولعنته وسواد الوجوه وبراءة الرسول منهم ” أهـ (2)
وبين رحمه الله بعض أسباب هذا الاختلاف :
فقال:” وهذا الاختلاف المذموم من الطرفين يكون سببه تارة فساد النية لما في النفوس من البغي والحسد وإرادة العلو في الأرض بالفساد ونحو ذلك فيحب لذلك ذم قول غيره أو فعله أو غلبته ليتميز عليه أو يحب قول من يوافقه في نسب أو مذهب أو بلد أو صداقة ونحو ذلك لما في قيام قوله من حصول الشرف والرئاسة له وما أكثر هذا في بني آدم وهذا ظلم ويكون سببه تارة أخرى جهل المختلفين بحقيقة الأمر الذي يتنازعان فيه أو الجهل بالدليل الذي يرشد به أحدهما الآخر أو جهل أحدهما بما مع الآخر من الحق في الحكم أو في الدليل وإن كان عالما بما مع نفسه من الحق حكما ودليلا
والجهل والظلم هما أصل كل شر كما قال سبحانه:[ وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا] {الأحزاب:72} ” أهـ (3)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) – منهاج السنة النبوية:( ج5/ ص256).
(2) – مجموع الفتاوى:( ج1/ ص17).
(3) – اقتضاء الصراط :(ج1/ ص37).
وقال رحمه الله مبينا بعض علامات صاحب الهوى :
” وقد أمر الله نبيه بالصبر على أذى المشركين في غير موضع وهو إمام الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر فإن الإنسان عليه أولا أن يكون أمره لله وقصده طاعة الله فيما أمره به وهو يحب صلاح المأمور أو إقامة الحجة عليه فإن فعل ذلك لطلب الرياسة لنفسه ولطائفته وتنقيص غيره كان ذلك حمية لا يقبله الله وكذلك إذا فعل ذلك لطلب السمعة والرياء كان عمله حابطا ثم إذا رد عليه ذلك وأوذي أو نسب إلى أنه مخطئ وغرضه فاسد طلبت نفسه الانتصار لنفسه وأتاه الشيطان فكان مبدأ عمله لله ثم صار له هوى يطلب به أن ينتصر على من آذاه وربما اعتدى على ذلك المؤذي
وهكذا يصيب أصحاب المقالات المختلفة إذا كان كل منهم يعتقد أن الحق معه وأنه على السنة فإن أكثرهم قد صار لهم في ذلك هوى أن ينتصر جاههم أو رياستهم وما نسب إليهم لا يقصدون أن تكون كلمة الله هي العليا وأن يكون الدين كله لله بل يغضبون على من خالفهم وإن كان مجتهدا معذورا لا يغضب الله عليه ويرضون عمن يوافقهم وإن كان جاهلا سيء القصد ليس له علم ولا حسن قصد فيفضي هذا إلى أن يحمدوا من لم يحمده الله ورسوله ويذموا من لم يذمه الله ورسوله وتصير موالاتهم ومعاداتهم على أهواء أنفسهم لا على دين الله ورسوله ” أهـ (1)
وحذر رحمه الله من الغلو في إتباع الرجال فيما يجري بين المختلفين من أهل العلم فقال:” ومما يتعلق بهذا الباب أن يعلم أن الرجل العظيم في العلم والدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى يوم القيامة من أهل البيت وغيرهم قد يحصل منه نوع من الاجتهاد مقرونا بالظن ونوع من الهوى الخفي فيحصل بسبب ذلك مالا ينبغي إتباعه فيه وإن كان من أولياء الله المتقين. ومثل هذا إذا وقع يصير فتنة لطائفتين طائفة تعظمه فتريد تصويب ذلك الفعل وإتباعه عليه وطائفة تذمه فتجعل ذلك قادحا في ولايته وتقواه بل في بره وكونه من أهل الجنة بل في إيمانه حتى تخرجه عن الإيمان وكلا هذين الطرفين فاسد.
والخوارج والروافض وغيرهم من ذوي الأهواء دخل عليهم الداخل من هذا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) – منهاج السنة النبوية:( ج5/ ص254).
ومن سلك طريق الاعتدال عظم من يستحق التعظيم وأحبه ووالاه وأعطى
الحق حقه فيعظم الحق ويرحم الخلق ويعلم أن الرجل الواحد تكون له حسنان وسيئات فيحمد ويذم ويثاب ويعاقب ويحب من وجه ويبغض من وجه هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة خلافا للخوارج والمعتزلة ومن وافقهم ” أهـ (1)
وبهذا يتبين لكل طالب حق يبتغي وجه الله :
أن ما يجري من تقاطع وتدابر وعداوة وتهاجر بين بعض المنتسبين للسنة من أهل العلم في هذه الآونة ليس مما يحبه الله ويرضاه , وذلك أن نتيجته وثمرته هي الفرقة التي نهى الله عنها بقوله عز وجل:[وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] {آل عمران:105}.
ولو أن هذا اقتصر على المختلفين لكان أهون ولكنه يمتد إلى التحذير من
كتبهم ودعوتهم والاستفادة من علمهم وأعظم من ذلك ما يجري بين الأتباع الطغام من التعادي والذي يمتد إلى العامة في مساجدهم ومجالسهم , ولا ريب أن هذا مما يكرهه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم , وخلاف ما دل عليه القرآن والسنة من الحكمة وتكون الثمرة صرف الناس عن العبادة والاشتغال بالكتاب والسنة والدعوة إليهما , إلى الاشتغال بالأحاديث و الانتصار لقول فلان وعلان , وهو خلاف ما أمر الله به في قوله تعالى:[وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا] {النساء:83} فدلت الآية أن هذا المنهاج والسبيل هو من إتباع الشيطان , والله عز وجل يقول:[وَالبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ] {الأعراف:58} .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) – منهاج السنة النبوية:( ج4/ ص543).
وأرى أن من تضرر بالتشهير به من أهل العلم بالباطل له أن يرفع دعوى إلى القضاء فإما أن يبت فيها أو يحيلها إلى هيئة كبار العلماء لبيان الحق ثم يحكم فيها القضاة , فهذا ما أمر الله به قال تعالى:[وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ] {الشُّورى:10} .
وذلك أن إتهام المرء في دينه أعظم من قذفه بالزنا وهكذا كان يفعل الصحابة إذا اختلفوا يرفعون الأمر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ويحكم بينهم , والأمر إذا استعصى على الصلح فلا يحله إلا السلطان كما قال عثمان رضي الله عنه:(( إن الله ليزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن ))
وبهذا تحفظ أعراض الناس ودمائهم وأموالهم , بل ويحفظ الدين من التلاعب به.
وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه والحمد لله رب العالمين
كتبه الفقير إلى عفو ربه
عبدالله بن صالح العبيلان
4/11/ 1431هـ