فإن الداعية إلى السنة يحتاج إلى مجاهدة نفسه وأطرها على الحق أطراً قال تعالى ) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) وقال ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )
وبين أن الفلاح في خلاف هوى النفس كما قال تعالى( وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى . فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ) وحذر ربنا نبيه داود – عليه السلام – من الهوى فقال ( يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) .
وإن كثيراً من الداعين إلى الله يفسد عليهم الشيطان دعوتهم ونيتهم ويجعلها دعوة إلى النفس وإلى الرئاسة بدلاً من الدعوة إلى الله وإلى إعلاء كلمته ودينه .
وكتب الإمام سفيان الثوري: الزهد في الرياسة أشد من الزهد في الدنيا . ( الجرح والتعديل(1/90) )
وقال يوسف بن أسباط: قال سفيان: ما رأينا الزهد في شيء أقل منه فيالرياسة، ترى الرجل يزهد في المال والثياب والمطعم، فإذا نوزع في الرياسةحامى عليها وعادى . ( الورع لابن حنبل ص96 وحلية الأولياء(7/39))
قال الإمام أحمد: قال: سفيان حب الرياسةأعجب إلى الرجل من الذهب والفضة، ومن أحب الرياسةطلب عيوب الناس أو عاب الناس أو نحو هذا .(طبقات الحنابلة(2/14))
ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلام عظيم في هذا ، قال – رحمه الله – كما في ” مجموع الفتاوى ” (20/142): ولا ريب أن الحرص والرغبة في الحياة الدنيا، وفي الدار الدنيا من المال والسلطان مضر، كما روى الترمذي عن كعب بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه ” قال الترمذى: حديث حسن صحيح . فذم النبي صلى الله عليه وسلم الحرص على المال والشرف، وهو الرياسة والسلطان، وأخبر أن ذلك يفسد الدين مثل أو فوق إفساد الذئبين الجائعين لزريبة الغنم .
وهذا دليل على أن هذا الحرص إنما ذم؛ لأنه يفسد الدين الذي هو الإيمان والعمل الصالح، فكان ترك هذا الحرص لصالح العمل، وهذان هما المذكوران في قوله تعالى ) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ . هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ ( وهما اللذان ذكرهما الله في سورة القصص حيث افتتحها بأمر فرعون، وذكر علوه فى الأرض، وهو الرياسة والشرف والسلطان، ثم ذكر في آخرها قارون وما أوتيه من الأموال وذكر عاقبة سلطان هذا وعاقبة مال هذا، ثم قال ) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ( كحال فرعون وقارون؛ فإن جمع الأموال من غير إنفاقها في مواضعها المأمور بها وأخذها من غير وجهها هو من نوع الفساد .
وكذلك الإنسان إذا اختار السلطان لنفسه بغير العدل والحق لا يحصل إلا بفساد وظلم ا.هـ
وقال (28/392): وقال تعالى) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (فإن الناس أربعة أقسام؛
القسم الأول؛ يريدون العلو على الناس، والفساد في الأرض وهو معصية الله، وهؤلاء الملوك والرؤساء المفسدون كفرعون وحزبه . -ثم قال- والقسم الثانى: الذين يريدون الفساد، بلا علو، كالسراق والمجرمين من سفلة الناس .
والقسم الثالث: يريدون العلو بلا فساد، كالذين عندهم دين يريدون أن يعلوا به على غيرهم من الناس .
وأما القسم الرابع: فهم أهل الجنة الذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً، -ثم قال – فكم ممن يريد العلو، ولا يزيده ذلك إلا سفولاً، وكم ممن جعل من الأعلين وهو لا يريد العلو ولا الفساد؛ وذلك لأن إرادة العلو على الخلق ظلم لأن الناس من جنس واحد، فإرادة الإنسان أن يكون هو الأعلى ونظيره تحته ظلم. ومع أنه ظلم فالناس يبغضون من يكون كذلك ويعادونه؛ لأن العادل منهم لا يحب أن يكون مقهوراً لنظيره، وغير العادل منهم يؤثر أن يكون هو القاهر ا.هـ
وإن للدعوة إلى النفس أمارات وعلامات منها الكبر ورؤية أن للنفس حقاً وكثرة حديث الرجل عن نفسه وعن طلابه وكثرة الخصومات مع إخوانه من أهل السنة إلى غير ذلك . قال الإمام ابن القيم في المدارج (1/523): وأما رؤية فضل كل ذي فضل عليك، فهو أن تراعي حقوق الناس فتؤديها ولا ترى أن ما فعلوه من حقوقك عليهم، فلا تعاوضهم عليها فإن هذا من رعونات النفس وحماقاتها، ولا تطالبهم بحقوق نفسك وتعترف بفضل ذي الفضل منهم، وتنسى فضل نفسك وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- يقول: العارف لا يرى له على أحد حقاً ولا يشهد له على غيره فضلاً ولذلك لا يعاتب ولا يطالب ولا يضارب ا.هـ
أما الداعية إلى الله بحق فهو الهاضم لنفسه الذي لا يراها شيئاً وكل ما أجرى على يديه من خير فهو يراه محض تفضل وإنعام من الله .
أسأل الله أن يصلحنا وأن يجعل أعمالنا خيراً من أقوالنا