الدَّعوةُ على مِنهاجِ النُّبُوَّة
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : أن رسول الله ﷺ لما بعثَ معاذًا رضي الله عنه إلى اليمن قال له : إنك تَقدُمُ على قوم أهل كتاب ؛ فليكن أوَّل ما تدعوهم إليه عبادة الله .
(وفي رواية : فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدًا رسول الله)
(وفي رواية : أن يوحِّدوا الله تعالى)
ثم قال : فإن هم أطاعوا لك بذلك .
(وفي رواية : فإذا عرفوا الله ) ٬ فأخبرهم أن اللهَ قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة .
فإن هم أطاعوا لك بذلك ؛ فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تُؤخذ من أغنيائهم ؛ فتردُّ على فقرائهم .
فإن هم أطاعوا لك بذلك ؛ فإياك وكرائم أموالهم ؛ واتق دعوة المظلوم ؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب .
[ متفق عليه : البخاري (1458) (7372) (1496) ومسلم (19) ]
💡 من فوائد الحديث :
١) فيه فضل معاذ رضي الله عنه ؛ فقد ارتضاهُ النبيُّ ﷺ نائبًا عنه ؛ ومبلغًا دعوته ٬ وقد وصفه ﷺ فقال : أعلمهم بالحلال والحرام .
[ صحيح سنن الترمذي (3790) ]
٢) فيه أن أهل الكتاب أفضل من سائر المشركين .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : وليس فيه أن جميع من يَقدُم عليهم من أهل الكتاب ؛ بل يجوز أن يكون فيهم من غيرهم ؛ وإنما خصَّهم بالذكر تفضيلًا لهم على غيرهم .
[ فتح الباري (3/358) ]
¤ فتُؤكل ذبائحهم .
¤ وتُنكح مُحصناتهم .
¤ وتُقبل منهم الجزية .
٣) فيه بيان منهج الدعوة إلى الله ، والبدء فيها بالأهم فالأهم .
💡 وأهل السنة والجماعة يُفرِّقون بين منهج الدعوة إلى الله ، وبين وسيلة الدعوة (المباحة) إلى هذا المنهج ؛ فالأول توقيفي ؛ والثاني محل اجتهاد .*
٤) فيه أنه ليس كل من ادعى شيئًا فهو فيه .
قال القاضي عياض رحمه الله عند قوله : ” فإذا عرفوا اللهَ ‘ : هذا يدلُّ على أنهم ليسوا بعارفين الله تعالى .
[ شرح مسلم (1/199) ]
٥) فيه أهمية الصلاة والزكاة ، وأنهما يأتيان بعد توحيد الله مباشرة .
٦) فيه أن العبادات لا تصحُّ قبل التوحيد ؛ فهو شرط لقَبولها .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : المراد بعبادة الله : توحيده ؛ وبتوحيده : الشهادة له بذلك ، ولنبيه بالرسالة ؛ ووقعت البداءةُ بهما لأنهما أصل الدِّين الذي لا يصحُّ شيءٌ غيرهما إلا بهما .
[ فتح الباري (3/358) ]
٧) فيه دليل إلى أن الوتر ليس بواجب ؛ وإن كان من آكد المستحبات ؛ فإن الله تعالى افترض في اليوم والليلة خمس صلوات فحسب .
٨) فيه الإشارة إلى أنه من حِكَم فرض الزكاة إرساء ما يُسمَّى اليوم بـ “التكافل الاجتماعي” ؛ فهو في مصلحة المجتمع عمومًا ، وليس مجرد استخلاص للأموال .
قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله : إن اللهَ تعالى بعثَ محمدًا هاديًا ، ولم يبعثه جابيًا .
[ الحكم الجديرة بالإذاعة (26) ]
٩) فيه اتقاء خير أموال الناس في الزكاة ؛ وأن أخذها من الظلم .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : الزكاة لمواساة الفقراء ؛ فلا يُناسب ذلك : الإجحاف بمال الأغنياء .
[ فتح الباري (3/360) ]
١٠) فيه أن الأصل في الزكاة أن تُصرف لأهل بلد المُزكِّي . ( تؤخذ من أغنيائهم فتردُّ على فقرائهم )
١١) فيه أن زكاة المال تجبُ على كلِّ مَن بلغ عنده نصابها ، وإن كان صغيرًا أو مجنونًا ؛ لدخولهم في قوله : تُؤخذ من أغنيائهم .
١٢) فيه لطيفة ، وهي أن الحد الفاصل بين الغني والفقير هو ما تجب فيه زكاة المال .
١٣) فيه رد على الأشاعرة وأهل الكلام ؛ الذين جعلوا أول الواجبات على المكلفين الشك في وجود الله تعالى ، ثم البحث ، وإثبات ذلك من طريق العقل .
{ سبحانه وتعالى عما يقولون علوًّا كبيرا }
قال الإمام القرطبي رحمه الله : ولو لم يكن في الكلام إلا مسألتان هما من مبادئه لكان حقيقًا بالذَّمِّ :
¤ إحداهما : قول بعضهم : إن أول واجب الشك ؛ إذ هو اللازم عن وجوب النظر ، أو القصد إلى النظر .
¤ ثانيتهما : قول جماعة منهم : إن مَن لم يعرف الله بالطرق التي رتَّبوها لم يصح إيمانه .
[ فتح الباري (13/350) باختصار ]
فالنبيُّ عليه الصلاة والسلام أرسل معاذًا ليبلغ الناس أول الواجبات وأهم المهمات ؛ ألا وهو شهادة التوحيد وعبادة الله .
وأما الإيمان بوجود الخالق وربوبيَّته ؛ فهو مما جعله الله في قرارة نفوس البشر قبل خَلْقهم :
قال الله تعالى : { وإذ أخذ ربُّك من بَني آدم من ظهورهم ذُريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألستُ بربكم قالوا بلى شَهِدنا }
بل إن الله قد فضح مَن جهر بإنكار وجوده سبحانه وتعالى ؛ فقال عن فرعون وقومه : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسُهم ظُلمًا وعُلوًّا }
١٤) فيه الردُّ على الأشاعرة ومن نحا نحوهم من حزب التحرير وغيرهم ؛ الذين يعتقدون أن العقائد لا تثبت بخبر الآحاد ؛ بل لا بدَّ لثبوتها (عندهم) مِن خبر متواتر .
💡 فهذه العقيدة مع كونها خالية من دليل متواتر لثبوتها ؛ فهي -أيضًا- مخالفة لصريح هذا الحديث .
قال العلامة الألباني رحمه الله إن هذا الحديث دليل قاطع على أن العقيدة تثبت بخبر الواحد ، وتقوم به الحجة على الناس ، ولولا ذلك لما اكتفى رسول الله ﷺ بإرسال معاذ وحده ٬ وهذا بيِّن ظاهر .
[ وجوب الأخذ بحديث الآحاد (8) ]
١٥) فيه الردُّ على جماعة الدعوة والتبليغ (الأحباب) الذين يَدْعُونَ النَّاسَ إلى بعض فضائل الأعمال ، ويتركون الدعوة إلى أصل الدِّين الذي جاء من عند الله سبحانه وتعالى ، ألا وهو : دعوة الناس إلى توحيد الله ، ونبذ الشرك .
قال تعالى : { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلَّا نوحي إليه أنَّه لا إلٰه إلَّا أنا فاعبدون }
ولذلك دعا النبي ﷺ ، وأرسل معاذًا وغيره ؛ ليبلغوه للناس .
١٦) فيه الرد على المستشرقين والمستغربين من زنادقة الشرق والغرب ؛ الذين يُصوِّرون لأقوامهم أنَّ الإسلام لم ينتشر إلا بقوة السيف ، وسفك دماء الناس .
💡 والحقيقة أن الإسلام جاء بدعوة الناس لإحياء ما وَقَر في قلوبهم وفِطَرهم ، من توحيد الخالق ، وتعبيدهم إليه ، والكفر بما سواه من معبودات ، وليس ثمة إجبار للناس في هذا .
قال الله تعالى : { لا إكراه في الدِّين }
قال العلامة ابن سعدي رحمه الله : هذا بيان لكمال هذا الدِّين الإسلامي ، وأنه لكمال براهينه ، واتِّضاح آياته ، وكونه : هو دِين العقل والعلم ؛ ودين الفطرة والحكمة ؛ ودين الصلاح والإصلاح ؛ ودين الحق والرشد .. فلكماله وقَبول الفطرة له لا يحتاج إلى الإكراه عليه ؛ لأن الإكراه إنما يقع على ما تنفر عنه القلوب ، ويتنافى مع الحقيقة والحق ، أو لما تخفى براهينه وآياته .
[ تيسير الكريم الرحمن (954) ]
وعن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال : كان رسول الله ﷺ إذا أمَّر أميرًا على جيش أو سرية : أوصاه في خاصَّته بتقوى الله ، ومن معه من المسلمين خيرا ، ثم قال : اغزوا باسم الله ، في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، اغزوا ولا تغلوا ، ولا تغدِروا ، ولا تُمثِّلوا ، ولا تقتلوا وليدًا ، وإذا لقيتَ عدوَّك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال – أو خلال – فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم ، وكُفَّ عنهم :
١- ثم ادعهم إلى الإسلام ، فإن أجابوك ؛ فاقبل منهم ، وكف عنهم ، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين ، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك : فلهم ما للمهاجرين ، وعليهم ما على المهاجرين .
فإن أبَوا أن يتحولوا منها : فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين ، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء ؛ إلا أن يُجاهدوا مع المسلمين .
٢- فإن هم أبَوا : فسلهم الجزية ، فإن هم أجابوك : فاقبل منهم ، وكفَّ عنهم .
٣- فإن هم أبوا : فاستعن بالله وقاتلهم .
[ صحيح مسلم (1731) ]
١٧) فيه بيان خطورة الظلم وشناعته ، ووعيد الله للظالم بعاجل مجازاته :
قال ﷺ : اتقوا دعوة المظلوم ، وإن كان كافرًا ؛ فإنه ليس دونها حجاب .
[ السلسلة الصحيحة (767) ]
وقال ﷺ : اتقوا دعوة المظلوم ؛ فإنها تُحمل على الغمام ، يقول الله جل جلاله : وعزَّتي وجلالي : لأنصرنَّك ، ولو بعد حين .
[ السلسلة الصحيحة (870) ]
ودعاء المظلوم وغيره مُقيَّد بما جاء في قول النبي ﷺ : ما من مسلم يدعو ليس بإثم ، ولا بقطيعة رحم ؛ إلا أعطاه إحدى ثلاث :
١- إما أن يُعجِّل له دعوته .
٢- وإما أن يَدَّخرها له في الآخرة .
٣- وإما أن يدفع عنه من السوء مثلها .
قيل : إذا نُكثِر ؟
قال : اللهُ أكثر .
[ صحيح الأدب المفرد (710) ]
والله أعلم ، والحمدُ لله ربِّ العالمين .
أخوكم فراس الرفاعي
2 شوال 1436هـ