الحمد لله العلي العظيم، مَنَّ على المؤمنين بدينه القويم، هذب به نفوسهم، وجمل به أخلاقهم، والصلاة والسلام على عبده ورسوله ، أحسن الناس منطقًا، وأتمهم خلقًا، وأفضلهم طبعًا، وأجملهم تعاملًا، وعلى أهل بيته وذريته، وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد،
عباد الله : اتقوا الله ربكم حق التقوى، فإن تقوى الله خير لباس لكم وزاد، وأفضل وسيلة إلى رضا رب العباد ، :(وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ).
عباد الله : في الخطبة الماضية كان الكلام على بئر زمزم ومائها ، وإعادة عبد المطلب حفرها ، وما لقيه من قريش حين أعاد حفر زمزم، حتى أحَسَّ بالضَّعْفِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ نَصِيرٌ عَلَيْهِمْ، ولَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إلَّا ابْنُهُ الحَارِثُ ، حتى قال بعضهم له: «يا عبد المطلب أتستطيل علينا وأنت
فذ، لا ولد لك!!» .
فحز ذلك في نفس عبد المطلب فنذر لله سبحانه: لئن ولد له عشرة بنين، ثم بلغوا معه حتى يمنعوه، لينحرنّ أحدهم عند الكعبة!!.
تمضي السنون ويُقَدِّرُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ، ويُرْزَقُ عَشَرَةَ أَبْنَاءٍ غَيْرَ البَنَاتِ ، فجَمَعَهُمْ ثُمَّ أخْبَرَهُمْ بِنَذْرِهِ، ودَعَاهُمْ إِلَى الوَفَاءِ بالنَّذْرِ فَأَطَاعُوهُ، ولما توافى العشرة أقرع بينهم أيهم ينحر، فخرجت القرعة على عبد الله بن عبد المطلب وكان أحب الناس إلى عبد المطلب ، فأَخَذَهُ عَبْدُ المُطَّلِبِ بِيَدِهِ وأَخَذَ الشَّفْرَةَ، ثُمَّ أَقْبَلَ بِهِ إِلَى الكَعْبَةِ لِيَذْبَحَهُ فَمَنَعَتْهُ قُرَيْشٌ، فقَالَ عَبْدُ المُطَّلِبِ: فَكَيْفَ أصْنَعُ بِنَذْرِي؟ فأشَارُوا عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ عَرَّافَةً بِالحِجَازِ، فَيَسْتَأْمِرَهَا ، فذهبوا إليها ، فَقَالَتْ: كَمِ الدِّيَةُ فِيكُمْ؟ قَالُوا: عَشَرَةٌ مِنَ الإِبِلِ، قَالَتْ: اضْرِبُوا القِدَاحَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ، وعَلَى عَشْرٍ مِنَ الإِبِلِ، فَإِنْ خَرَجَتْ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ فَزِيدُوهَا عَشْرًا حتَّى يَرْضَى رَبُّهُ، فَإِنْ خَرَجَتْ عَلَى الإِبِلِ فَانْحَرُوهَا عَنْهُ.
فضربوا القداح ولَا تَقَعُ القُرْعَةُ إلَّا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ إِلَى أَنْ بَلَغَتِ الإِبِلُ مِائَةً فَوَقَعَتِ القُرْعَةُ عَلَيْهَا، بإذن من الله عز وجل وليكون هذا الفداء إرهاصا بين يدي ذلك المولود .
لقد ترك حادث الذبح والفداء للفتى الهاشمي عبد الله دويا في المجتمع القرشي، بل في المجتمع العربي كله، وأصبح ذكره على كل لسان .
قال ابن عباس : فكان عبد المطلبِ أوَّلُ من سَنّ ديةَ النَّفْسِ مائةً من الإبل .
ومما ينبغي التنبيه عليه ما درج على الألسن من الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ: “أنَا ابْنُ الذَّبِيحَيْنِ” فهو باطل لا أصل له .
ولَمَّا بَلَغَ عَبْدُ اللَّهِ خَمْسًا وعِشْرِينَ سَنَةً، أَرَادَ أبُوهُ
عَبْدُالمُطَّلِبِ أَنْ يُزَوِّجَهُ، فَزَوَّجَهُ آمِنَةَ بِنْتَ وَهْبِ ، وهِيَ
يَوْمَئِذٍ أفْضَلُ امْرَأَةٍ في قُرَيْشٍ نَسَبًا وَمَوْضِعًا ، وأبُوهَا سَيِّدُ بَنِي زُهْرَةَ نَسَبًا وشَرَفًا، فَبَنَى بِهَا عَبْدُ اللَّهِ في مَكَّةَ ، قال ابن القيم : هُوَ خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ نَسَبًا عَلَى الْإِطْلَاقِ، فَلِنَسَبِهِ مِنَ الشَّرَفِ أَعْلَى ذِرْوَةٍ، وَأَعْدَاؤُهُ كَانُوا يَشْهَدُونَ لَهُ بِذَلِكَ، وَلِهَذَا شَهِدَ لَهُ بِهِ عَدُوُّهُ إِذْ ذَاكَ أبو سفيان بَيْنَ يَدَيْ مَلِكِ الرُّومِ .
روى الطبراني وقال ابن كثير رجاله ثقات عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى:(وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) قال: من صلب نبيّ إلى صلب نبي حتى صرت نبياً. وروى ابن سعد وحسنه الألباني عن عطاء عنه في الآية قال: «ما زال نبي الله ﷺ يتقلب في أصلاب الأنبياء حتى ولدته أمه» رواه أبو نعيم .
[وروى الطبراني في الأوسط وغيره وجود اسناده ابن كثير وحسنه الألباني] عنه (خَرجْتُ من نِكاحٍ ، و لَمْ أخْرجْ من سِفاحٍ ، من لَدُنْ آدَمَ إلى أن ولَدَنِي أبِي و أمِّي ، لم يُصبْنِي من سِفاحِ الجاهِليةِ شيءٌ)
مضت الأيام ثُمَّ خَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ إِلَى الشَّامِ في عِيرٍ لقُرَيْشٍ يَحْمِلُونَ تِجَارَاتٍ، فَفَرَغُوا مِنْ تِجَارَاتِهِمْ ثُمَّ انْصَرَفُوا، فَمَرُّوا بالمَدِينَةِ وعَبْدُ اللَّهِ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ يَوْمَئِذٍ مَرِيضٌ، فأقَامَ عِنْدَ أخْوَاله بَنِي عَدِيِّ بنِ النَّجَّارِ، مَرِيضًا شَهْرًا، ومَضَى أصْحَابُهُ فَقَدِمُوا مَكَّةَ، فَسَأَلَهُمْ عَبْدُ المُطَّلِبِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالُوا: خَلَّفْنَاهُ عِنْدَ أخْوَالِهِ فبعث في إثره أخوه الحارث فإذا هو قد مات ، قال الحافظ ابن كثير تُوُفِّيَ أبُوهُ عَبْدُ اللَّهِ، وهُوَ ﷺ حَمْلٌ فِي بَطْنِ أُمِّهِ عَلَى المَشْهُورِ” فوُلِدَ رسُولُ اللَّهِ ﷺ يَتِيمَ الأَبِ ، فلم تكتحل عيناه برؤية أبيه ، لأجله زهدت فيه المرضعات وتوارين عنه، لَمَّا علمن يتمه .
إلا أن اليتم ليس بحد ذاته صفة مدح ولا ذم ، وإنما هو
ابتلاء من الله .
جعلنا الله ممن إذا أعطي شكر وإذا ابتلي صبر .
أقول ما سمعتم …
الخطبة الثانية :
الحمد لله وحده ….
عباد الله : لقد اختار الله تعالى لنبيه الكريم اليُتم لحِكم بالغة ، بل امتن عليه سبحانه وتعالى:(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى) فمن الحكم في كونه يتيما :
أن ينشأ قوياً بعيداً عن الترف لكي يتدرب على تحمل المسؤولية منذ صغره، فعاش حياة الفقر والخشونة، ورعى الغنم .
فمن الرضاع زهدت فيه كل النساء ولم تأخذه حليمة إلا
مرغمة إذ لم تجد غيره ، ثم بفقد أمه وهو في السادسة من عمره ، وما ذاك كله إلا لتكتمل القدوة به فيكون أسوة لكل البشر كبيرهم وصغيرهم ، ومن بين الصغار اليتامى.
ومن الحكم في يتمه ﷺ أن ينسب الفضل إلى مسديه (ألم يجدك ينيما فآوى) فامتن الله عليه بأن آواه وأمره بشكر
هذه النعمة بألا يقهر اليتيم .