الحمدلله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
سمعت مقطعًا للدكتور سعود بن ذعار المطيري -وفقه الله لكل خير- لا يتجاوز أربع دقائق، وقد هالني ما فيه من انحطاط الألفاظ، وبذاءة اللسان، وافتراءاته على الشيخ في الأقوال، ولا أدري هل هو يتكلم مع حضور عقل وفكر؟! أو يتكلم في مسألة لم يكن له سابق علم بها؟! أو يتكلم بدافع غل وحقد وكراهية وتشفي من الشيخ والنيل منه؟! والله المستعان.
قال الدكتور: (هذا رد على صالح الفوزان)!!!
وهذه العبارة وهي ذكر اسم الشيخ مجرداً لا ينبغي أن تصدر من عامي فضلًا عن طالب علم، ففيها تنقص للشيخ، ويظهر أنه متقصد للإساءة له بدليل كلامه على الشيخ، وقد خلا كلامه من النقد البناء، ومن الأدب والرد العلمي، واحترام مكانة الشيخ العلمية، فلا قدره باللفظ من الناحية العلمية، ولا وقره من الناحية العمرية وكبر سنه، فالشيخ صالح الفوزان -حفظه الله- عالم عصره ومن كبار علماء أهل السنة والجماعة، وليس بمعصوم، قال عنه العلامة ابن باز -رحمه الله-: (الشيخ صالح الفوزان من خيرة العلماء ومن أصحاب العقيدة الطيبة)، وأثنى عليه العلامة ابن عثيمين -رحمه الله-، وقد صدق من قال: لا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذوو الفضل، ولا يعرف قدر الرجال إلا الرجال.
الدكتور سعود ذعار -سدد الله لسانه- أعظم الفرية على الشيخ صالح الفوزان في خمسة أمور:
الأمر الأول: قال عن الشيخ صالح الفوزان أنه قد كذب على النبي صلى الله عليه وسلم!!
الأمر الثاني: قال عن الشيخ صالح الفوزان: (أنت رجل طاعن بالسن وبلغت من السن عتيًّا وبلغ من عمرك سنين كثيرا ومع ذلك لا تعرف الحديث الصحيح من الضعيف وتكذب على رسول الله)!!!
الأمر الثالث: قال الدكتور سعود مخاطبًا الشيخ صالح: (وإذا كنت لا تعلم فقل لا أعلم لا غضاضة عليك في ذلك أما أنك تتجرأ وتكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم خوفًا من قولك لا أعلم).
والله يا دكتور سعود هذه عبارة ثقيلة، سبحان الله! ألا شققت عن قلبه حتى تعلم من أجل ذلك قالها أمْ لا؟!
الأمر الرابع: قال للشيخ صالح الفوزان: (أخرجه للناس إن كنت صادقًا)!!
الأمر الخامس: قال عن الشيخ حاطب ليل!!!
سبحان الله! ما أجرأه على تلك الألفاظ التي قف شعري مما قال!! سبحان الله! أما يخاف من تلك التهم التي اتهم بها الشيخ أن يُسئل عنها يوم القيامة؟! كيف سيخرج الدكتور سعود من تلك الفرية على الشيخ صالح الفوزان مما قال فيه يوم القيامة؟! وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال في مؤمنٍ ما ليس فيه أسكنَهُ الله رِدْغَةَ الخَبالِ حتّى يخرجَ ممّا قال وليس بخارجٍ).
مسألة المقام المحمود عند الشيخ صالح الفوزان له عدة أجوبة، وما خرج عن مذهب السلف فيها، ولا عن علماء الأمة، فهو يرى أن المقام المحمود هو الشفاعة، إلا أنه يرى جلوس النبي -صلى الله عليه وسلم- على العرش من المقام المحمود، وقال في أحد المقاطع إذا ثبت الحديث، ومرة قال ذكره ابن جرير وابن القيم، والمسلم العاقل ينبغي أن يحمل كلام العالم أحسن المحامل إذا كان يحتمل، وإذا كان له أقوال في المسألة متباينة يحمل أقربها إلى الحق، ويجعلها هي المتأخرة من أقواله.
ثم أن اتهام الشيخ صالح بأنه يكذب على رسول الله كونه أورد حديثًا في نظره صحيحًا جناية ورزية؛ لأن بعض العلماء عد الكذب على رسول الله من الكفر والبعض عده فسوقًا ومن الكبائر، وحاشا أن يكذب الشيخ صالح الفوزان على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ولا أعلم هل هذه قاعدة مطردة عند الدكتور سعود -هداه الله- أن كل من أورد حديثًا ضعيفًا، وإن كان يرى المتحدث به أنه صحيح؛ يكون كاذبًا على رسول الله ويستحق العقاب، “ومن كذب عليَّ متعمدا، فليتبوأْ مقعده من النار”؟! أو أن هذا خاص بالشيخ صالح الفوزان فقط؟!
إن الرزية كل الرزية أن يتكلم الإنسان في غير عدل، وعلى قاعدة الدكتور سعود يكون قد كفر كثير من علماء المحدثين والفقهاء، حيث لا يخلو كتاب من كتبهم إلا وأوردوا حديثًا ضعيفًا أو موضوعًا، ففي السنن الأربعة ومسند الإمام أحمد والمستدرك على الصحيحين وغيرهم توجد فيها أحاديث غير صحيحة، فهل نتهمهم أنهم كذبوا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنهم لا يفرقون بين الحديث الصحيح من الضعيف وأنهم حُطّاب ليل؟! حاشا وكلا.
فالحديث يرتّب وعيداً شديداً على مرتكب الكذب على الرسول -صلى الله عليه وسلم- مقيّدًا بالعمد، ومِن الناس من قد يكون مخطئًا أو ساهيًّا أو ناسيًا، أو يظن أن الحديث صحيح، وهؤلاء لا إثم عليهم.
قال النووي في كتابه “الأذكار”: (واعلم أن مذهب أهل السنة أن الكذب هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو، سواء تعمدت ذلك أم جهلته، لكن لا يأثم في الجهل؛ وإنما يأثم في العمد).
ومن أسند فقد برئت ذمته ومن أحال فقد برئت عهدته،
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله-: (والاكتفاء بالحوالة على النظر في الإسناد، طريقة معروفة لكثير من المحدثين، وعليها ما صدر من كثير منهم، من إيراد الأحاديث الساقطة معرضين عن بيانها صريحًا، وقد وقع هذا لجماعة من كبار الأئمة، وكان ذكر الإسناد عندهم من جملة البيان).
قلتُ: ولا يمكن لعاقل ولا لمؤمن ولا لمتلقٍ أن يرمي عالمًا بأنه يتعمد الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
قال الدكتور سعود ذعار -وفقه الله لكل خير وسدد الله لسانه-: (ومجاهد خطّأه أئمة الإسلام في هذا القول ولم يوافقوا على قوله).
قلتُ: كلامه فيه نظر، ويَظهر -والله أعلم- من رده على الشيخ أنه يتكلم في مسألة لم يكن له سابق علم بها، والصحيح أن من أئمة الإسلام والمحدِّثين الثقات والشيوخ من أهل العلم تلقوه بالقبول والسرور وهو المشهور آن ذاك، وحدَّثوا به على رؤوس الأشهاد.
وهذا إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل؛ قال ابن عمير: (سمعت أبا عبدالله أحمد بن حنبل وسئل عن حديث مجاهد “يقعد محمدا على العرش”، فقال: قد تلقته العلماء بالقبول، نسلم هذا الخبر كما جاء).
قال الذهبي: (حتى إن عبدالله بن الإمام أحمد قال عقيب حديث مجاهد: وأنا منكر على من رد هذا الحديث، وهو عندي رجل سوء متهم).
ولا شك أن علماء السلف في مسألة المقام المحمود على قولين، وقد حكى الإمام أبو جعفر الطبري قولين في هذه المسألة: أن المقام المحمود هو الشفاعة، وعليه أكثر أهل العلم. والقول الآخر: أن المقام المحمود هو جلوسه النبي -صلى الله عليه وسلم- مع ربه على عرشه قال به مجاهد، وأولى القولين في ذلك بالصواب ما صح به الخبر وهي الشفاعة. ولم يشنع على من قال بالقول الآخر، بل قال: (فإن ما قاله مجاهد من أن اللَّه يقعد محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- على عرشه قول غير مدفوع صحته، لا من جهة خبر ولا نظر).
قال أبو بكر الآجري في كتابه الشريعة في قوله { عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} قال: (المقام المحمود: الشفاعة. قال محمد بن الحسين -رحمه الله-: وأما حديث مجاهد في فضيلة النبي -صلى الله عليه وسلم- وتفسيره لهذه الآية أنه يقعده على العرش؛ فقد تلقاها الشيوخ من أهل العلم والنقل لحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، تلقوها بأحسن تلق، وقبلوها بأحسن قبول، ولم ينكروها، وأنكروا على من رد حديث مجاهد إنكاراً شديداً، وقالوا: من رد حديث مجاهد فهو رجل سوء).
قال الإمام الذهبي في ترجمة أبي بكر يحيى بن أبي طالب، قال: (الإمام المحدث العالم). قال أبو بكر يحيى بن أبي طالب عن حديث مجاهد: (رواه الخلق عن ابن فضيل عن ليث عن مجاهد، واحتمله المحدِّثون الثقات، وحدَّثوا به على رؤوس الأشهاد لا يدفعون ذلك، يتلقونه بالقبول والسرور بذلك، وأنا فيما أرى أني أعقل منذ سبعين سنة، والله ما أعرف أحدًا رده، ولا يرده إلا كل جهمي مبتدع خبيث يدعو إلى خلاف ما كان عليه أشياخنا وأئمتنا).
وابن الجوزي وابن حجر وغيرهما كثير -رحمهم الله- يرون أن قول مجاهد لا يعارض القول بأن المقام المحمود هو الشفاعة، بل يمكن أن يكون الأمران معًا الإقعاد والشفاعة.
وابن القيم العالم الفقيه أثبت حديث مجاهد والقعود على العرش في نونيته.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى: (إذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَقَدْ حَدّثَ الْعُلَمَاءُ الْمَرْضِيُّونَ وَأَوْلِيَاؤُهُ الْمَقْبُولُونَ: أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُجْلِسُهُ- رَبُّهُ عَلَى الْعَرْشِ مَعَهُ. رَوَى ذَلِكَ مُحَمَّدُ بْنُ فَضِيلٍ عَنْ لَيْثٍ عَنْ مُجَاهِدٍ؛ فِي تَفْسِيرِ: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} وَذَكَرَ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى مَرْفُوعَةٍ وَغَيْرِ مَرْفُوعَةٍ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَهَذَا لَيْسَ مُنَاقِضًا لِمَا اسْتَفَاضَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ مِنْ أَنَّ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ هُوَ الشَّفَاعَةُ بِاتِّفَاقِ الْأَئِمَّةِ مِنْ جَمِيعِ مَنْ يَنْتَحِلُ الْإِسْلَامَ وَيَدَّعِيه لَا يَقُولُ إنَّ إجْلَاسَهُ عَلَى الْعَرْشِ مُنْكَراً).
وقد قال بعض العلماء: هل من المقام المحمود أن الله يجلس نبيه على العرش؟ هذه المسألة لا يمنع منها العقل، بعض الناس يستهولها عقلًا، ويقول: كيف على العرش؟ فنقول: العرش مخلوق والرسول -صلى الله عليه وسلم-مخلوق، والله عز وجل يقدر ما يشاء ويفعل ما يشاء.
هذه أقوال أهل العلم، وما هو إلا غيض من فيض.
وأختم ردي بنصيحتي لك يا دكتور سعود:
أولاً: عليك بالرفق، فإن الرفق ما كان في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه، ومن حرم الرفق يحرم الخير.
ثانياً: الأدب في الرد -لا سيما في مفرداتك- مع أهل العلم، الذين شهد لهم أهل العلم المعتبرين، بالعلم والدين.
ثالثاً: لا تستعجل في ردودك، فإن ردود الفعل في الغالب لا يوفق صاحبها.
رابعاً: أبعِد ردودك نَفَسَ التَّشفي، وما تحمله تجاه من ترد عليه، ففي الغالب لا يُكتب للمتشفي القبول؛ لأنها لأغراض شخصية.
نسأل الله أن يوفقنا وإياك لما يحبه ويرضاه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه/ أبو محمد فيحان الجرمان.