الرد على المخطئ ليس بغيبة والفرق بين النصيحة والغيبة
بسم الله الرحمن الرحيم
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته ……. أما بعد ،،،
فإن للشيطان حبائل في إضلال بني آدم وصده عن الهدى والطريق المستقيم فهو الذي أقسم بالله أن يضل ما استطاع فقال: (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ . إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)، وقال : ( وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ )، وقال تعالى عنه : ( يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا)، وقال: ( وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ).
لذا حذرنا من خطواته وأخبرنا أنه عدو مبين فقال سبحانه: (وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ)، فماذا يرجى ويتوقع من العدو المبين؟! .
قال ابن القيم في مدارج السالكين (2 / 107): والسلف يذكرون هذين الأصلين كثيرا وهما الاقتصاد في الأعمال والاعتصام بالسنة، فإن الشيطان يشم قلب العبد ويختبره فإن رأى فيه داعية للبدعة وإعراضا عن كمال الانقياد للسنة: أخرجه عن الاعتصام بها وإن رأى فيه حرصا على السنة وشدة طلب لها : لم يظفر به من باب اقتطاعه عنها فأمره بالاجتهاد والجور على النفس ومجاوزة حد الاقتصاد فيها قائلا له : إن هذا خير وطاعة والزيادة والاجتهاد فيها أكمل فلا تفتر مع أهل الفتور ولا تنم مع أهل النوم، فلا يزال يحثه ويحرضه حتى يخرجه عن الاقتصاد فيها فيخرج عن حدها، كما أن الأول خارج عن هذا الحد فكذا هذا الآخر خارج عن الحد الآخر، وهذا حال الخوارج الذين يحقر أهل الاستقامة صلاتهم مع صلاتهم وصيامهم مع صيامهم وقراءتهم مع قراءتهم، وكلا الأمرين خروج عن السنة إلى البدعة لكن هذا إلى بدعة التفريط والإضاعة والآخر إلى بدعة المجاوزة والإسراف.
وقال بعض السلف : ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط وإما إلى مجاوزة وهي الإفراط ولا يبالي بأيهما ظفر : زيادة أو نقصان ا.هـ
وقال أيضاً في مدارج السالكين (3 / 224): فإن الشيطان مع الهوى لا يفارقه ويحارب الهوى بتحكيم الأمر المطلق والوقوف معه بحيث لا يبقى له هوى فيما يفعله ويتركه ا.هـ
وقال في مدارج السالكين (1 / 180): (واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير) أي متى اعتصمتم به تولاكم ونصركم على أنفسكم وعلى الشيطان وهما العدوان اللذان لا يفارقان العبد وعداوتهما أضر من عداوة العدو الخارج فالنصر على هذا العدو أهم والعبد إليه أحوج وكمال النصرة على العدو بحسب كمال الاعتصام بالله ا.هـ
وإليك طرفاً من خدائع الشيطان ومكره وحيله :
الأمر الأول/ تنفيره من الرد على المخالف ومن تضليل الضال بحجة أن هذا من الغيبة التي ذمها الله بقوله: (وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ) وما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال :” أتدرون ما الغيبة “. قالوا الله ورسوله أعلم. قال :” ذكرك أخاك بما يكره “.
وكم استطاع الشيطان وجنده من الإنس والجان أن ينفروا الناس من دعوة الحق بهذه الشبهة الشيطانية ، ولو تدرعوا بسلاح العلم واكتسوا بكساء اتباع السلف الصالح لاتضحت لهم حقيقة هذه المكيدة الشيطانية وأن في الشرع فرقاً بين ذكر اسم الرجل على وجه الذم لغير مصلحة معتبرة شرعاً وبين ذكره لمصلحة معتبرة شرعاً فرسولنا صلى الله عليه وسلم الذي بيّن الغيبة ذكر معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم بما يكرهون لما استشارته فاطمة بنت قيس في نكاحهما وقد تقدما إليها كما أخرج مسلم عن فاطمة بنت قيس قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- « أما معاوية فرجل ترب لا مال له وأما أبو جهم فرجل ضراب للنساء ولكن أسامة بن زيد ». فإذا جاز هذا في مصلحة خاصة كهذه فلئن يجوز في تحذير الناس عامة من المخالفين للشريعة أولى وأدعى لكون هذه المصلحة التي جاز فيها دنيوية وخاصة، وبيان خطأ المخطئين مصلحة دينية وعامة .
قال ابن عبد البر في التمهيد (19 / 159) : وأما قوله:”أما معاوية فصلعوك لا مال له وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه”: ففيه دليل على أن قول المرء في غيره ما فيه إذا سئل عنه عند الخطبة جائز وأن إظهار ما هو عليه من عيب فيه صواب لا بأس به وليس من باب الغيبة في شيء وهو يعارض قوله: “إذا قلت في أخيك ما فيه فقد اغتبته” وقد أجمعوا على أنه جائز تبيين حال الشاهد إذا سأل عنه الحاكم، وتبيين حال ناقل الحديث وتبيين حال الخاطب إذا سئل عنه وفي ذلك أوضح الدلائل على أن حديث الغيبة ليس على عمومه… ثم قال: والذي عليه مدار هذا المعنى أن من استشير لزمه القول بالحق وأداء النصيحة وليس ذلك من باب الغيبة؛ لأنه لم يقصد بذلك إلى لمزه ولا إلى شفاء غيظ ولا أذى ويكون حديث الغيبة مرتباً على هذا المعنى ا.هـ
وقال الخطيب البغدادي في الكفاية (ص39) : ” ففي قول النبي صلى الله عليه و سلم للرجل بئس رجل العشيرة دليل على أن إخبار المخبر بما يكون في الرجل من العيب على ما يوجب العلم والدين من النصيحة للسائل ليس بغيبة ؛ إذ لو كان ذلك غيبة لما أطلقه النبي صلى الله عليه و سلم… ثم قال: في هذا الخبر دلالة على إن إجازة الجرح للضعفاء من جهة النصيحة لتجتنب الرواية عنهم وليعدل عن الاحتجاج بأخبارهم ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم لما ذكر في أبى جهم أنه لا يضع عصاه عن عاتقه وأخبر عن معاوية أنه صعلوك لا مال له عند مشورة استشير فيها لا تتعدى المستشير ؛ كان ذكر العيوب الكامنة في بعض نقلة السنن التي يؤدي السكوت عن إظهارها عنهم وكشفها عليهم إلى تحريم الحلال وتحليل الحرام وإلى الفساد في شريعة الإسلام ؛ أولى بالجواز وأحق بالاظهار ؛ وأما الغيبة التي نهى الله تعالى عنها بقوله عز وجل: (وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ) وزجر رسول الله صلى الله عليه و سلم عنها بقوله: ” يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم” فهي ذكر الرجل عيوب أخيه يقصد بها الوضع منه والتنقيص له والإزراء به فيما لا يعود إلى حكم النصيحة وإيجاب الديانة من التحذير عن ائتمان الخائن وقبول خبر الفاسق واستماع شهادة الكاذب ، وقد تكون الكلمة الواحدة لها معنيان مختلفان على حسب اختلاف حال قائلها ؛ في بعض الأحوال يأثم قائلها وفي حالة أخرى لا يأثم .ا.هـ
وقال ابن الصلاح في “فتاواه” (2/497): تجوز غيبة المبتدع بل ذكره بما عليه مطلقا غائبا وحاضرا إذا كان المقصود التنبيه على حاله ليُحذر.أهـ
وقال النووي في رياض الصالحين : ” باب ما يباح من الغيبة “: اعلم أن الغيبة تباح لغرض صحيح شرعي ، لا يمكن الوصول إليه إلا بها ، وهو ستة أسباب – ثم قال:
الرابع : تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم ؛ وذلك من وجوه : منها : جرح المجروحين من الرواة والشهود، وذلك جائز بإجماع المسلمين، بل واجب للحاجة.
ومنها: المشاورة في مصاهرة إنسان، أو مشاركته ، أو إيداعه ، أو معاملته ، أو غير ذلك ، أو مجاورته ، ويجب على المشاور أنه لا يخفي حاله ، بل يذكر المساوىء التي فيه بنية النصيحة .
ومنها : إذا رأى متفقها يتردد إلى مبتدع أو فاسق يأخذ عنه العلم ، وخاف أن يتضرر المتفقه بذلك ، فعليه نصيحته ، ببيان حاله ، بشرط أن يقصد النصيحة ، وهذا مما يغلط فيه ، وقد يحمل المتكلم بذلك الحسد، ويلبس الشيطان عليه ذلك، ويخيل إليه أنه نصيحة، فليتفطن لذلك .ا.هـ
وقال أبو العباس ابن تيمية في مجموع الفتاوى (28 / 219): وهذان النوعان يجوز فيهما الغيبة بلا نزاع بين العلماء :
أحدهما : أن يكون الرجل مظهرا للفجور مثل الظلم والفواحش والبدع المخالفة للسنة، فإذا أظهر المنكر وجب الإنكار عليه بحسب القدرة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:” من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان” رواه مسلم. وفي المسند والسنن عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال : أيها الناس إنكم تقرءون القرآن وتقرءون هذه الآية وتضعونها على غير مواضعها ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :” إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه ” فمن أظهر المنكر وجب عليه الإنكار وأن يهجر ويذم على ذلك . فهذا معنى قولهم : من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له . بخلاف من كان مستترا بذنبه مستخفياً فإن هذا يُستر عليه ؛ لكن ينصح سراً ويهجره من عرف حاله حتى يتوب ويذكر أمره على وجه النصيحة . ثم قال: فبين النبي صلى الله عليه وسلم حال الخاطبين للمرأة . فهذا حجة لقول الحسن : أترغبون عن ذكر الفاجر اذكروه بما فيه يحذره الناس فإن النصح في الدين أعظم من النصح في الدنيا فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم نصح المرأة في دنياها فالنصيحة في الدين أعظم ا.هـ
وقال ابن القيم في زاد المعاد (3/575) مستنبطاً الفوائد من غزوة تبوك : ومنها: جواز الطعن في الرجل بما يغلب على اجتهاد الطاعن حمية أو ذبا عن الله ورسوله؛ ومن هذا طعن أهل الحديث فيمن طعنوا فيه من الرواة، ومن هذا طعن ورثة الأنبياء وأهل السنة في أهل الأهواء والبدع لله لا لحظوظهم وأغراضهم ا.هـ
وقال ابن القيم أيضاً في كتاب الروح (ص240): فصل :الفرق بين النصيحة والغيبة أن النصيحة يكون القصد فيها تحذير المسلم من مبتدع أو فتان أو غاش أو مفسد، فتذكر ما فيه إذا استشارك في صحبته ومعاملته والتعلق به، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة بنت قيس وقد استشارته في نكاح معاوية وأبى جهم فقال:” أما معاوية فصعلوك , وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه”, فإذا وقعت الغيبة على وجه النصيحة لله ورسوله وعباده المسلمين فهي قربة إلى الله من جملة الحسنات, وإذا وقعت على وجه ذم أخيك وتمزيق عرضه والتفكه بلحمه والغض منه لتضع منزلته من قلوب الناس فهي الداء العضال ونار الحسنات التي تأكل كما تأكل النار الحطب ا.هـ
وقال ابن كثير في تفسيره (4/215): تحريم الغيبة بالإجماع ولا يستثنى من ذلك إلا ما رجحت مصلحته كما في الجرح والتعديل والنصيحة كقوله صلى الله عليه وسلم لما استأذن عليه ذلك الرجل الفاجر :” ائذنوا له وبئس أخو العشيرة ” وكقوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس رضي الله عنها وقد خطبها معاوية وأبو الجهم :” أما معاوية فصعلوك وأما أبو الجهم فلا يضع عصاه عن عاتقه ” وكذا ما جرى مجرى ذلك ثم بقيتها على التحريم الشديد ا.هـ
وقال الإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي في كتابه الفرق بين النصيحة والتعيير : اعلم أن ذِكر الإنسان بما يكره محرم ؛ إذا كان المقصود منه مجرد الذمِّ والعيب والنقص . فأما إن كان فيه مصلحة لعامة المسلمين أو خاصة لبعضهم وكان المقصود منه تحصيل تلك المصلحة ؛ فليس بمحرم بل مندوب إليه .
وقد قرر علماء الحديث هذا في كتبهم في الجرح والتعديل ، وذكروا الفرق بين جرح الرواة وبين الغيبة ، وردُّوا على من سوَّى بينهما من المتعبدين وغيرهم ممن لا يتسع علمه . ولا فرق بين الطعن في رواة ألفاظ حفَّاظ الحديث ولا التمييز بين من تقبل روايته منهم ومن لا تقبل ، وبين تبيين خطأ من أخطأ في فهم معاني الكتاب والسنة ، وتأوَّلَ شيئا منها على غير تأويله ، وتمسك بما لا يتمسك به ليُحذِّر من الاقتداء به فيما أخطأ فيه ، وقد أجمع العلماء على جواز ذلك أيضًا ا.هـ.
وقال ابن رجب أيضاً في “شرح العلل” (1/348) : وكذلك يجوز ذكر العيب إذا كان فيه مصلحة خاصة ، كمن يستشير في نكاح أو معاملة ، وقد دل عليه قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لفاطمة بنت قيس : ” أما معاوية فصعلوك لا مال له ، وأما أبو جهم فلا يضع العصا عن عاتقه ” . وكذلك استشار النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عليًا وأسامة في فراق أهله ، لما قال أهل الإفك ما قالوا .
ولهذا كان شعبة يقول : تعالوا حتى نغتاب في الله ساعة . يعني نذكر الجرح والتعديل… ثم قال: فإن ذكر عيب الرجل إذا كان فيه مصلحة – ولو كانت خاصة كالقدح في شهادة شاهد الزور – جائز بغير نزاع ، فما كان فيه مصلحة عامة للمسلمين أولى .ا.هـ
وقال الحافظ ابن حجر في مقدمة لسان الميزان (ص3): فأقام الله تعالى طائفة كثيرة من هذه الأمة للذب عن سنة نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم فتكلموا في الرواة على قصد النصح ولم يعد ذلك من الغيبة المذمومة بل كان ذلك واجبا وجوب كفاية. ا.هـ
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (10/472): قال العلماء: تباح الغيبة في كل غرض صحيح شرعا حيث يتعين طريقا إلى الوصول إليه بها كالتظلم والاستعانة على تغيير المنكر والاستفتاء والمحاكمة والتحذير من الشر ويدخل فيه تجريح الرواة والشهود وإعلام من له ولاية عامة بسيرة من هو تحت يده وجواب الاستشارة في نكاح أو عقد من العقود وكذا من رأى متفقها يتردد إلى مبتدع أو محمود ويخاف عليه الاقتداء به وممن تجوز غيبتهم من يتجاهر بالفسق أو الظلم أو البدعة ومما يدخل في ضابط الغيبة وليس بغيبة ما تقدم تفصيله في باب ما يجوز من ذكر الناس فيستثنى أيضا والله أعلم ا.هـ
وقال المناوي عند شرح قول الحسن البصري أنه قال : أترغبون عن ذكر الفاجر ؛ اذكروه بما فيه يحذره الناس:
” (اذكروا الفاجر) الفاسق (بما فيه) : من الفجور ، وهتك ستر الديانة ؛ فذكره بذلك من النصيحة الواجبة لئلا يغتر به مسلم فيقتدي به في فعلته ، أو يضله في بدعته ، أو يسترسل له فيؤذيه بخدعته .
وبيَّن قوله : ( بما فيه ) : أنه لا يجوز ذكره بغير ما فيه ، ولا بما لا يعلن به .
وأشار بقوله : ( يحذره ) : أي لكي يحذره الناس ، إلى أن مشروعية ذكره بذلك مشروطة بقصد الاحتساب ، وإرادة النصيحة ؛ دفعا للاغترار ونحوه مما ذكر ؛ فمن ذكر واحدا من هذا الصنف تشفيا لغيظه أو انتقاما لنفسه أو احتقارا أو ازدراء ونحو ذلك من الحظوظ النفسانية فهو آثم ، كما ذكره الغزالي ثم السبكي فيما نقله عنه ولده ا.هـ
وسئل الشيخ العلامة الألباني: هل يجوز التشهير بصاحب بدعة، أو الكلام عليه وذمه؟ الجواب: صاحب البدعة له حالتان: – إما أن يكون منطوياً على نفسه. – أو أن يكون مشهوراً بين الناس. ففي الحالة الأولى لا داعي لتشهيره؛ لأن ضلاله محصور في ذاته. أما في الحالة الأخرى فلا بد من تشهيره والتحذير منه؛ حتى لا يغتر الناس الذين يعيش بينهم به، وليس ذلك من الغيبة في شيء كما قد يتوهم بعض المتنطعين، وحديث: (الغيبة ذكرك أخاك بما يكره) هو من العام المخصوص، وقد ذكرت لكم قول بعض الفقهاء في بيتين من الشعر جمعوا فيه الغيبة المستثناة من الحرمة، فقال قائلهم:
القــدح ليس بغيبةٍ في سـتةٍ متظلـم ومعرِّفٍ ومحـذرٍ
ومجاهر فسقاً ومستفتٍ ومـن طلب الإعانة في إزالة منكر
فهنا المبتدع والتشهير به يدخل في التعريف ويدخل في التحذير، ولذلك اتفق علماء الحديث – جزاهم الله خيراً – على وصف كثير من رواة الحديث بما كانوا عليه من الابتداع في الدين، وهذا كله من قيامهم بواجب البيان للناس؛ حتى يعرفوا الراوي الصادق يؤخذ بعقيدته، والراوي المبتدع يترك هو وعقيدته المنحرفة عن الكتاب والسنة. ا.هـ
http://islamancient.com/blutooth/265.rm
وقال الشيخ العلامة ابن عثيمين –رحمه الله- مبيناً الفرق بين الغيبة المحرمة والجائزة في حق الفاسق في شرح رياض الصالحين (4/63): “فإذا ذكرنا فسقه على وجه العيب والسب فإن ذلك لا يجوز، وإن ذكرناه على سبيل النصيحة والتحذير منه فلا بأس بل قد يجب” ا.هـ
وصنيع سلفنا دال على هذا فقد روى أحمد بن مروان المالكي ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : جاء أبو تراب النخشبي إلى أبي ، فجعل أبي يقول : فلان ضعيف وفلان ثقة ، قال أبو أيوب : يا شيخ لا تغتب العلماء . قال : فالتفت أبي إليه . قال : ويحك ! هذا نصيحة ، ليس هذا غيبة . ( تلبيس إبليس ص409)
وقال محمد بن بندار السباك الجرجاني : قلت لأحمد بن حنبل : إنه ليشتد علي أن أقول : فلان ضعيف فلان كذاب ؟ قال أحمد : إذا سكتَّ أنت وسكتُّ أنا فمتى يعرف الجاهل الصحيح من السقيم . ( الكفاية في علم الرواية ص46)
وقال إسماعيل الخطبي : ثنا عبد الله بن أحمد قلت لأبي : ما يقول في أصحاب الحديث يأتون الشيخ لعله أن يكون مرجئاً أو شيعياً أو فيه شيء من خلاف السنة ، أيسعني أن اسكت عنه أم أحذر عنه ؟ فقال أبي : إن كان يدعو إلى بدعة وهو إمام فيها ويدعو إليها ، قال : نعم تحذر عنه. ( الكفاية في علم الرواية ص46)
وقال ابن المبارك : المعلى بن هلال هو ، إلا أنه إذا جاء الحديث يكذب فقال له بعض الصوفية : يا أبا عبد الرحمن تغتاب ، قال : اسكت إذا لم نبين كيف يعرف الحق من الباطل ؟! ، أو نحو هذا الكلام . ( الكفاية في علم الرواية ص45)
وعن زيد بن أسلم قال: إنما الغيبة لمن لم يعلن بالمعاصي. ( مصنف عبدالرزاق (11/178)
وعن الصلت بن طريف قال: قلت للحسن رضي الله عنه: الرجل الفاجر المعلن بفجوره، ذكري له بما فيه غيبة؟ قال: لا ولا كرامة. (( الكفاية في علم الرواية ص42)
وقال أبو صالح الفراء: حكيت ليوسف بن أسباط عن وكيع شيئاً من أمر الفتن. فقال: ذاك يشبه أستاذه – يعني: الحسن بن حي-، فقلت ليوسف: ما تخاف أن تكون هذه غيبة ؟ فقال: لم يا أحمق! أنا خير لهؤلاء من آبائهم وأمهاتهم، أنا أنهى الناس أن يعملوا بما أحدثوا فتتبعهم أوزارهم، ومن أطراهم كان أضر عليهم . (سير أعلام النبلاء ( 7/364))
يا أهل الخير، يا من تحبون السلف وتنتسبون إليهم إياكم أن يغرر بكم الشيطان ويبعدكم عن دلائل السنة ومنهج سلف الأمة بتزهيدكم وتنفيركم عن الرد على المخالفين المستحقين للرد .
يا فرحة الشيطان وجنوده من الإنس والجن بتجاوبكم لهذه الشبهة ووقوعكم في شِراكه .
قال الألوسي في تفسيره : ولله در القائل :
من الدين كشف الستر عن كل كاذب وعن كل بدعي أتى بالعجائب
فلولا رجــال مؤمنون لهــدمت صوامع دين الله من كل جانب
وأنبه على أمر وهو أن الأصل حرمة الكلام في أعراض الناس كما تقدم في كلام ابن رجب وغيره فلذا كما أن الرد على المخالفين ممن يستحقون الرد واجب ومحمود شرعاً فكذلك التكلم بلا تثبت ولا علم محرمٌ لا يجوز التساهل فيه .
الأمر الثاني / تنفيره وتحذيره من الرد على المخالف مع أن الرد على المخالف وتجريحه بحق قائم ومستمر إلى قيام الساعة ومن ظن أن الجرح والتعديل انتهى زمانه وأفلت شمسه فقد أخطأ خطأ مبيناً وكان معيناً لأهل البدع في بث ونشر بدعهم وذلك من وجهين :
الوجه الأول: أنه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو سبب نصر هذه السنة وسبب فلاح القائمين عليها قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ )، وقال: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ).
الوجه الثاني: أن العلماء مجمعون على استمرار الجرح والتعديل بحق ، قال الإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي كما في كتابه الفرق بين النصيحة والتعيير: ولا فرق بين الطعن في رواة ألفاظ حفَّاظ الحديث ولا التمييز بين من تقبل روايته منهم ومن لا تقبل ، وبين تبيين خطأ من أخطأ في فهم معاني الكتاب والسنة ، وتأوَّلَ شيئًا منها على غير تأويله ، وتمسك بما لا يتمسك به ليُحذِّر من الاقتداء به فيما أخطأ فيه ، وقد أجمع العلماء على جواز ذلك أيضًا ا.هـ .
وقد رأيت بعضهم يتناقل فتاوى لشيخنا العلامة صالح الفوزان ظاهرها يقرر انتهاء وقت الجرح والتعديل، وهذا الظاهر ليس مراداً لأمور ثلاثة :
أولاً : أن صنيعه على خلاف هذا، فقد جرح بحق أشخاصاً عدة كعمرو بن خالد وطارق السويدان.
http://islamancient.com/blutooth/115.3gp
وعدنان عرور.
وقدّم لكتب فيها جرح لجماعة التبليغ ككتاب الشيخ محمد بن ناصر العريني ” كشف الستار عما تحمله بعض الدعوات من أخطار ( جماعة التبليغ)” وكتب فيها جرح لعائض القرني مثل كتاب ” الأجوبة المفيدة لأسئلة المناهج الجديدة “، وكتاب الإرهاب للشيخ العلامة زيد المدخلي – وفقه الله لهداه- وفيه تصريح بأسماء جمع من الدعاة الحركيين كسلمان العودة وناصر العمر وعائض القرني ومحمد سرور وغيرهم .
ثانياً: أنه أشاد بطريقة جمع أخطاء بعض الدعاة في شريط والرد عليها
http://islamancient.com/blutooth/184.rm
ثالثاً: أني سألته بنفسي في أحد لقاءاتي الكثيرة معه – حفظه الله- عما يتناقل عنه فذكر لي أنه لا يريد الجرح بحق وإنما يريد انتهاء جرح المحدثين للرواة في رواية الأحاديث.
وهذه الأدلة كافية في بيان براءة شيخنا الفوزان – سلمه الله – مما نسب إليه من منعه الجرح بحق وعدل للمخالفين .
الأمر الثالث/ من خدائع الشيطان ومكره أن صوّر ذكر حسنات المخالفين ممن يراد التحذير منهم من العدل ، وأن مخالفته من الظلم المحرم وهذا خطأ كبير بل إن ذكر الحسنات في مقام الرد لمن يُراد التحذير منه مخالف لمنهج السلف وعدم ذكر حسناته مقتضى العدل ، وذلك من أوجه :
الوجه الأول/ أن هذه طريقة القرآن فإن الله لما أراد التحذير من الخمر وتحريمه أمر باجتنابه بدون ذكر شيء من محاسنه كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) مع أنه قبل التحذير منه والتحريم ذكر أن فيه منافع كما قال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ).
فلما أراد تحريمه والتحذير منه لم يذكر شيئاً من محاسنه ومنافعه ولو كان ظلماً لما سلكاه الله في كتابه .
الوجه الثاني/ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حذر من الخوارج في عشرة أحاديث في صحيح مسلم وثلاثة منها متفق عليه لم يذكر شيئاً من حسناتهم مع أن لهم حسنات كما أخرج الشيخان عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:” يخرج في هذه الأمة – ولم يقل منها – قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم فيقرءون القرآن لا يجاوز حلوقهم – أو حناجرهم – يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية فينظر الرامي إلى سهمه إلى نصله إلى رصافة فيتمارى في الفوقة هل علق بها من الدم شيء “.
وأخرجا عن على رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:” سيخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فإذا لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم عند الله يوم القيامة “.
وذلك لأن المقام مقام تحذير وتنفير .
الوجه الثالث/ إن سلفنا الكرام لما أرادوا التحذير من أهل البدع لم يذكروا شيئاً من حسناتهم وتقدم نقل بعض كلامهم .
الوجه الرابع/ أن هذا مقتضى العدل بالنظرة البعيدة والكلية لا النظرة
القصيرة والجزئية وذلك لما يلي:
1- أن مصلحة الدين ألا يغيّر وألا يدخل فيه ما ليس منه مقدمةٌ على مصلحة الفرد المردود عليه ، فإذا رأى الناس الحزم علموا أن الأمر جد لا هزل، فأخذوه بالجد فنفروا من قوله الدخيل على الشريعة .
2- أن غيره من المخالفين إذا رأى الشدة على هذا المخالف هاب إظهار بدعته ومقالته .
فإن قيل: إن من المخالفين من إذا رأى الشدة أظهر مقالته عناداً . فيقال: هذا وإن وجد إلا أن أكثر الناس لا يبلغ بهم العناد هذا المبلغ الذي يشوه بسببه سمعته وذكره ويجعل الناس منقسمين فيه ما بين ذام ومادح وشاك لا سيما وإذا استمر على العناد بان باطله أكثر وأكثر فنفر منه من كان متوقفاً فيه . كما هو ظاهر في هذا الزمان وغيره ممن أظهر شيئا من ذلك.
فإن قيل: أليس ذكر محاسن المردود عليه أحسن وأنفع لأنه يرغب أصحابه والمتأثرين بالفكر الذي هو عليه في قبول الحق ؟
فيقال: هذا وإن كان صحيحاً من حيث الجملة لكن من المتقرر شرعاً وعقلاً أن حفظ رأس المال مقدم على الربح لذا عدم ذكر حسنات المردود عليه يقوي عداء رأس المال منه فيكونون في حيطة وحماية ، ثم كثيراً ما تحصل أرباح بأن يهتدي خلق ممن كان مغتراً بهؤلاء المخالفين .
ومما يجدر التنبيه إليه أن هناك طائفة غلت في عدم ذكر حسنات المردود عليه ممن يراد التحذير منه فمنعت ذلك عند ترجح المصلحة الدينية لذكر حسناته وهذا خطأ بيّن فإن عدم ذكر الحسنات في مقام الرد من إنكار المنكر وإنكار المنكر من الدين، والدين قائم على جلب المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها .
قال ابن تيمية (20/48): وفي أن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها وأنها ترجح خير الخيرين وشر الشرين وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما ا.هـ
وذكر الحسنات في مقام الرد للمصلحة يفسر ذكر الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية وجمع من علمائنا المعاصرين لحسنات بعض المردود عليهم ، وبهذا يرد على من يريد إسقاط قاعدة عدم ذكر الحسنات في مقام الرد تحججاً بصنيع شيخ الإسلام وبعض علمائنا المعاصرين .
ومما يتحججون به أيضاً – وهو من جهلهم أو تعصبهم –: أن طريقة ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل، والذهبي في سير أعلام النبلاء، والمزي في تهذيب الكمال، وابن حجر في تهذيب التهذيب، أنهم يذكرون الحسنات والسيئات.
وبعضهم يقول بغياً واستهزاء: العلماء يقولون: جرح وتعديل، وأنتم تقولون: جرح وجرح . فيقال: إن هؤلاء العلماء لم يكتبوا هذه الكتب للرد والتحذير، وإنما للترجمة ، وفرق بينهما ، لكن لما كتبوا للتحذير ككتاب الرد على الزنادقة والجهمية للإمام أحمد ، والرد على الجهمية للدارمي، والرد على بشر المريسي للدارمي، لم يذكروا شيئاً من حسناتهم لأن المقام مقام تحذير ورد .
ثم من تناقض الحركيين -وما أكثر تناقضهم- أنهم إذا ردوا على من لا يريدون لم يذكروا له حسنة واحدة، بل يبلغ الحال ببعضهم أنه يسب ويستهزئ كما فعلوا مع أحمد الغامدي – داعية الاختلاط – ، وعادل الكلباني – داعية الأغاني – ، وهؤلاء وإن كانوا يستحقون التشنيع والتشديد، لكن أين قاعدتهم في ذكر الحسنات عند الرد وأنه من العدل لو كانوا منصفين .
أسأل الله أن يقر أعيننا بنصرة السنة وأهلها وقمع البدعة وأهلها أنه القوي العزيز.