بسم الله الرحمن الرحيم
الرد على سلمان العودة في ثنائه على كتاب تحرير المرأة في عصر الرسالة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم
أما بعد
قال سلمان العودة في تويتر: كتاب ( تحرير المرأة في عصر الرسالة ) لأبي شقة، حاول ترسيخ الحالة الوسطية في قضية المرأة بقوة وبرهان بعيدا عن الغلو أو التطرف أو الابتذال.
http://twitter.com/salman_alodah/status/231727446238572544
هذا التقسيم الثلاثيّ على هذه الصورة الموهمة، شهرَه القرضاوي ودعا إليه، وتبعه سلمان العودة ومن سار على نهجه، فكلّ مسألة ينتحلون فيها فهما محُدثا، يحاولون تسويغه ودعوة النّاس إليه، تجدهم يتنادون لترهيب العقول بهذه القاعدة، فيأسرون القارئ بين ثلاثة اختيارات لا فكاك له من أحدها، إما أن يكون من الجامدين أو المتساهلين أو المعتدلين، فالجامدون عندهم هم مشايخ السّلف وأهل الحديث، والمتساهلون هم الليبراليون والعلمانيون، فما على القارئ إلا أن يختار مرغما الاعتدال والتوسّط، فينهج نهجهم ويسير في ضوء أفكارهم.
وكتاب تحرير المرأة الذي يُشيد به العودة، قال عنه محمد الغزالي في تقديمه له: ” وددت لو أنّ هذا الكتاب ظهر من عدّة قرون، وعرض قضية المرأة في المجتمع الإسلامي على هذا النحو الراشد “.
وكلام الغزالي هذا يلزم منه أنّ الأمة مُنذ صدر الإسلام لم تعرف هذا الفهم المحدث، ولم تقل بتحرير المرأة على هذا الوجه المرذول، فمقدّم الكتاب كفانا المؤنة، وتحمّل التّبعة، وردّ على المؤلف، وأسقط مصنّفه من أوّل صفحاته !
وقد يقول قائل إنّ الكاتب قد شحن كتابه بالآيات والأحاديث، فأقول: ليس الشّأن أن تستدلّ بالآيات والأحاديث فحسب، إنما الشّأن في ثبوت الدليل وفي الفهم الصحيح للدليل، والناظر في أحوال أصحاب المقالات الضّالة والمذاهب المنحرفة كالخوارج والشيعة والمرجئة والمعتزلة يجد أنهم يستدلّون بالنصوص الشرعية كتابا وسنّة لإثبات بدعهم، وهذا لا يفيدهم شيئا، بل هو حجّة عليهم، لأنّ فهمهم لهذه النّصوص واستنباطهم منها وتعويلهم عليها مخالف لفهم القرون المفضّلة من الصحابة والتّابعين وتابعيهم.
وقد جمعتُ –بعد النظر في ( كتاب تحرير المرأة في عصر الرسالة ) وبقدر ما يحتمله المقال- جملة من التعقّبات عليه:
أولها: أنّ الكاتب لا يفرّق عمليّا بين الأحكام المختصّة بالمرأة الحرّة والأحكام المختصة بالأمَة، فتجدهُ يقرّر أمورا أذن الشّارع بها للجواري والإماء، وينزّل هذه الأحكام المتعلقة بهنّ على النساء في عصرنا، وأحكام الأمَة في جملة منها مختلفة عن أحكام المرأة الحرّة، وهذا مزلق خطير وقع فيه الكاتب، يترتّب عليه أن يهوي بطائفة كثيرة من استدلالاته التي يوقعها في غير مواضعها ويفهمها على غير وجهها، من ذلك حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه قال: … وكانت لي جارية ترعى غنما قِبل أحد والجوانية… الحديث، وقد أورد هذا الحديث في فصل قصد فيه إلى إثبات مشاركة المرأة للرجل في العمل المهني !
ثانيها: أنّ الكاتب لا يفرّق بين الحوادث والوقائع والأحكام التي نسختها آية الحجاب وبين الحوادث والوقائع والأحكام التي جرت بعد تشريع الحجاب، فكلّ الأدلّة عنده محكمةٌ يستدلّ بها على تسويغ اختلاط النساء بالرجال ومشاركتهنّ لهم في ميادينهم، فلا يراعي في استدلاله زمن التشريع ولا يعتبر بالناسخ والمنسوخ، فهو كمن يستدلّ لإباحة الخمر بورود وقائع في السنّة تدل على أن بعض الصحابة-رضوان الله عليهم- كانوا يشربونه قبل نزول الآيات القاضية بتحريمه.
ثالثها: أنّ الكاتب شديد الانبهار بمحاكاة واقع المرأة في الحضارة الغربيّة لكن بأدوات وذرائع يُلبسُها لبوس الشّريعة، وكثيرٌ من النتائج التي يغُذّ السّير في كتابه نحوها، ويجتهد في تقريرها، تصُبّ في هذا المجرى وتلتقي معه، لذلك تجده في مواضع لا تُحصى، يحاول دفع هذه التّهمة عن نفسه وإعلان البراءة منها.
رابعها: أنّ الكاتب لا يُفرّق في سياق النصوص التي يوردها بين اختلاط الرجال بالنساء المحارم، واختلاط الرجال بالنساء الأجانب، فإذا وجد حديثا فيه مجرّد ذِكر امرأة التقت برجل وتكلّمت معه، سارع بالاستدلال به، والاستنباط منه، وتقرير مسائل لا يسلّم له بها، من غير رجوع لكلام الشرّاح وتأويلهم له، فمثلا ترجم بباب قال فيه: اللقاء خلال الضيافة: أورد فيه حديث أنس رضي الله عنه في الصحيحين أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ذهب إلى قبُاء يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه…الحديث
دون أن يوضّح مقصوده من إدراج هذا الحديث تحت هذه الترجمة، فإذا كانت أم حرام رضي الله عنها محرما له صلى الله عليه وسلم فلا ينازع عاقل في جواز زيارة الرجل لإحدى محارمه، وإذا كانت غير محرم له، كما هو ظاهر مراده، فهل يرى الكاتب جواز الخلوة بالمرأة الأجنبية وزيارتها في بيتها دون محرم؟ فيكون بهذا الصّنيع قد ضرب الأحاديث بعضها ببعض.
وأردفه الكاتب بمبحث آخر قال فيه: باب المشاركة في السكنى:
أورد فيه حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله علي وسلم أقام بمنزل أبي أيوب سبعة أشهر حتى بنى بيوته !
فهل يقصد من هذا التبويب جواز مشاركة الرجل للمرأة في السكنى من غير قيود ولا محترزات.
خامسها: سلك الكاتب طريقة التعمية والإجمال في مواضع من كتابه كان يجب عليه فيها التبيين والتفصيل، وهو يتعمّد هذا الخلط ويتقصّده.
ورحم الله الإمام أبي عبد الله بن القيم حيث يقول:
فعليك بالتفصيل والتبيين فال إطلاق والإجمال دون بيـان
قد أفسدا هذا الوجود وخبطا الـأذهان والآراء كل زمان
فمثلا قوله تحت باب اللقاء في عيادة المرضى: وعادت أم الدرداء رجلا من أهل المسجد من الأنصار، فلم يبيّن المصنّف وجه قرابة ذلك الرجل لأم الدرداء رضي الله عنها، وهل المقصود من ترجمة الباب أنّ هذا الحكم عام للنّساء كلهّن في جواز زيارتهن للرجال الأجانب عنهنّ أم لا، وماذا عن خشية الفتنة وهي أصل لا يغفل عنه فقيه.
فترك الكاتب الأمور مجملة مبهمة دون توضيح، قال الحافظ ابن حجر-رحمه الله- في فتح الباري: ” قوله باب عيادة النساء الرجال أي لو كانوا أجانب بالشرط المعتبر أي شرط الفتنة… وقد اعترض عليه بأن ذلك قبل الحجاب, وأُجيب بأنّ ذلك لا يضر فيما ترجم له من عيادة المرأة الرجل فإنه يجوز بشرط التستر، والذي يجمع بين الأمرين ما قبل الحجاب وما بعده الأمن من الفتنة “.
فانظر رحمك الله إلى الفرق الواسع والبون الشاسع بين كلام العلماء الراسخين الورعين وبين كلام العصرانيين المتأخّرين المخلّطين.
وكذا أدرج تحت نفس الباب حديثا عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وُعك أبو بكر وبلال رضي الله عنهما قالت: فدخلت عليهما فقلت: يا أبت كيف تجدك؟ ويا بلال كيف تجدك؟
وهذا قطعا قبل نزول آية الحجاب لأنّه عند مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة.
سادسها: عدم تفريقه بين المناطات المختلفة المتعلّقة بأوضاع الناس وأحوالهم عند استدلاله وتفقّهه، فمثلا قد تأتي الشّريعة بإباحة المحرّم بقدر الضرورة، وقد يباح ما حرّم تحريم وسيلة عند الاحتياج إليه، وهذه قواعد مهمّة لا بد من فهمها واعتبارها، فلا يُتعامل مع هذه الوقائع الاستثنائية والأحوال الطارئة التي لها حكمها الخاص المتعلّق بها، كما يُتعامل مع الأحوال اليومية المعتادة التي ينتظمها تشريع مناسب مطّرد لها.
فأدرج الكاتب تحت باب عيادة الرجال إخوانهم في حضور النساء حديثين وأثرا، فالحديث الأول عندما دخل النبي صلى الله عليه وسلم على عبادة بن الصامت رضي الله عنه يعوده وقد دخل عليه ظانّا أنه قد مات، والثاني عند موت عبد الله بن ثابت رضي الله عنه، والأثر الثالث في مرض أبي بكر رضي الله عنه، فهذه كلها أحوال من البلاء والمصاب والاحتضار يُغتفر فيها ما لا يُغتفر في غيرها.
سابعها: عدم تفريق الكاتب في الأحكام الشرعية بين المرأة الشابة وبين المرأة العجوز، فالشوابّ لخشية الافتتان بهنّ لهنّ أحكام في التعامل مع الرجال الأجانب تخصّهن، وللقواعد من النساء أحكام تخصّهن، والكاتب تعمّد الخلط بين الحالين، والتسوية بين المتغايرين في مواضع لا تحصى.
ثامنها: عدم تفريقه بين الاختلاط العارض واللقاء اليسير لحاجة بين الرجال والنساء وبين الاختلاط الدائم والمكث الطويل الذي يُزيل الكلفة، والذي قد تفضي استدامته وتكراره إلى مفاسد كثيرة فيُمنع منه سدّا للذّريعة وتجفيفا لمنابع الفتنة، فيسوقُ الكاتبُ النّوعين مساقا واحدا، ولا يعتبر المدارك المعتبرة والفوارق المؤثّرة بينهما.
والذي دعاني لكتابة هذه التعقّبات على عجل، هو ما قرأته في تغريدة سلمان العودة من إشادة بهذا الكتاب ومديح وثناء عليه، دون الإشارة إلى أنّ صاحبَه حاطبُ ليل، يلفّق ما اتّفق له من الآيات والأحاديث دون نظر في مناسباتها وكلام العلماء المعتبرين فيها.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه محمد بن علي الجوني
18/9/1433 هـ