الحمدُ للهِ: ﴿الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ [الفتح: 28] الحمدُ للهِ الذي بيدِهِ مَقَاليدُ السماواتِ والأرضِ، وتصريفُ الأمورِ كَمَا يشاءُ، تصريفًا لا يخرُجُ عَن فَضْلِهِ أو عَدْلِهِ.
وأشهدُ أنْ لَا إلهَ إِلَّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، شهادةً نَرْجُو أنْ نَكونَ بِهَا مِمَّنْ يُظِلَّهُمُ اللهُ في ظِلِّهِ يومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، أفضلُ خَلْقِهِ، صَلَّى اللهُ عليهِ وَعَلى آلِهِ وأصحابِهِ، وكُلِّ مَن اهتَدَى بهديهِ، وسَلَّمَ تسليمًا.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
أمَّا بعدُ:
فَإِنَّ المسلمينَ يَمُرُّونَ بِضَعْفٍ شديدٍ، حَتَّى إنَّهُ لا يكادُ يُسْمَعُ بِدَمٍ يَثْعُبُ، وجُرْحٍ يَنْزِفُ، وَدَارٍ تُهْدَمُ، وبِأُناسٍ يُشَرَّدُونَ، وأطفالٍ يُيُتَّمونَ، ونِساءٍ يُرَمَّلُونَ، إِلَّا وذلكَ في المسلمينَ، فأصبَحُوا في ضَعْفٍ وتَأَخُّرٍ وَهَوَانٍ، وأصْبَحَ عَدُوُّهُمْ الكافِرُ قويًّا يتسَلَّطُ عليهِمْ فيَسْفِكُ دِمَاءَهُمْ، ويَسْلِبُ ثَرَوَاتِهِمْ، ويُدَمِّرُ دورَهُمْ.
إنَّ هذا المُصَابَ العظيمَ والأَلَمَ الشَّدِيدَ دَاءٌ وَمَرَضٌ لابُدَّ مِنْ البَحْثِ في تشخيصِهِ، ثُمَّ يُحَدَّدَ الدَّواءُ والعِلاجُ لَهُ.
وقَدْ اختَلَفَ الناسُ في طريقِ عِلاجِهِ، وقَدْ أُمِرْنَا عِندَ الاختِلافِ أنْ نَرْجِعَ إلى كتابِ اللهِ وإلى سُنَّةِ رسولِ اللهِ ﷺ، قال سبحانه: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [النساء: 59] وقال سبحانه: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ [الشورى: 10].
قَالَتْ طائِفَةٌ: إِنَّ سَبَبَ ضَعْفِ المسلمينَ هو تَسَلُّطُ الكافرينَ، فَلَوْ لَمْ يَتَسَلَّطْ عَلَيْنا الكافرونَ لأصبَحَ المسلمونَ أقوياءَ.
وَعَلى إِثْرِ ذلكَ قالُوا: العلاجُ أنْ نَشْتَغِلَ في مَعرِفَةِ مُخَطَّطَاتِ الكافرينَ وكيدِهِمْ، حَتَّى اشْتَغَلوا وأشغَلُوا عامَّةَ المسلمينَ بالسِّياسَةِ وغيرِ ذلكَ.
وقَالَتْ طائِفَةٌ: إِنَّ سَبَبَ ضَعْفِ المسلمينَ تَسَلُّطُ الحكامِ الظَّالِمِينَ، حَتَّى اشتَغَلُوا بالحُكَّامِ وَنَاطَحُوهُمْ وَصَارَعُوهُمْ.
وَقَالَتْ طائِفَةٌ: إِنَّ سَبَبَ ضَعْفِ المسلمينَ تَرْكُ الجِهَادِ، فَإِذا رُفِعَتْ رَايَةُ الجهادِ، فإنَّهُ سيكونُ لَنَا قوةٌ نُواجِهُ بِهَا الأعداءَ.
وَقَالَتْ طائِفَةٌ: إِنَّ ضَعْفَ المسلمينَ بسبَبِ تَفَرُّقِهِمْ، فَلَو اجتَمَعَ المسلمونَ وصارُوا يدًا واحدَةً فإنَّهُمْ سيصيرونَ ذَا قُوَّةٍ وشوكةٍ يستطيعونَ دَحْرَ عدوِّهِمْ.
وهذِهِ الأسبابُ لا شَكَّ أنَّهَا مِن أسبابِ ضَعْفِ المسلمينَ، لكِنَّها ليسَتْ السَّبَبَ الرئيسَ.
ويُوضِّحُ ذلكَ أنَّ اللهَ بَيَّنَ لَنَا في كتابِهِ أَنَّنَا لَوْ تَمَسَّكْنَا بدينِهِ فإنَّهُ لَا يضُرُّنَا قُوَّةُ عدوِّنَا، بَلْ سيقوِّينَا اللهُ إذَا فَعَلْنَا الأسبابَ الكونيَّةَ، قالَ سبحانهُ: ﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ [آل عمران: 120].
وَبَيَّنَ اللهُ في كتابِهِ أنَّ الحُكَّامَ مِن جِنْسِ المَحْكُومِينَ، فَإِذَا كَانَتْ الشُّعُوبُ ظالِمَةً فإنَّ اللهَ يُسَلِّطُ عَلَيْهَا حُكَّامًا ظالمينَ، فالشُّعوبُ هِيَ التي تُحَدِّدُ حاكِمَهَا، قالَ سبحانَهُ: ﴿وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [الأنعام: 129].
وَبَيَّنَ اللهُ لَنَا أنَّ الاجتِمَاعَ مَعَ اختِلَافِ العَقَائِدِ اختِلَافٌ مذمومٌ، بَلْ وَذَمَّ بِهِ اليهودَ، قالَ سبحانهُ: ﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى﴾ [الحشر: 14].
وَبَيَّنَ اللهُ لَنَا في كتابِهِ أنَّ المسلمينَ إِذَا كانُوا في ضَعْفٍ فَلَيْسَ لَهُمْ أنْ يُقاتِلُوا، وأنَّهُمْ إِذَا جاهَدُوا وَقَاتَلُوا أَثِمُوا، قالَ تعالَى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [النساء: 77] لِأَنَّ القِتَالَ يَزيدُهُمْ ضَعْفًا، فَلَيْسَ تَرْكُ القِتَالِ دائِمًا سَبَبًا لِضَعْفِ المسلمينَ.
اللهُمَّ قَوِّ الإسلامَ وأهْلَهُ، واكْسِرْ الكُفْرَ وأَهْلَهُ.
أقولُ ما تسمعونَ، وأستَغْفِرُ اللهَ لي وَلَكُمْ فاستغفروهُ إنهُ هوَ الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ العَلِيِّ الكبيرِ، المُتَفَرِّدِ بالخَلْقِ والتَّقْدِيرِ والتَّدبيرِ، الذي أَعَزَّ أولياءَهُ بِنَصْرِهِ، وَأَذَلَّ أعداءَهُ بِخَذْلِهِ، فَنِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ.
وأشهدُ أنْ لَا إلهَ إِلَّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، لهُ الملكُ ولهُ الحمدُ وهوَ على كُلِّ شيءٍ قديرٌ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ البشيرُ النذيرُ، والسِّراجُ المنيرُ، صَلَّى اللهُ عليهِ وَعَلى آلهِ وأصحابِهِ والتابعينَ لَهُمْ بإحسانٍ إلى يومِ المَآبِ والمَصيرِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا.
أمَّا بعدُ:
فإنَّهُ لَا يُمْكِنُ أنْ نكونَ أقوياءَ كَمَا كانَ المسلمونَ في عهدِ الخُلَفَاءِ الرَّاشدينَ، وفي كثيرٍ مِن القرونِ الماضيةِ حتَّى يرجِعَ المسلمونَ لِدِينهِم، ويترُكوا معصيةَ رَبِّهِمْ، وأعظَمُ المَعَاصي الشركُ والبِدَعُ، وتركُ الصلاةِ والزكاةِ، وأكلُ المالِ الحرامِ مِن الرِّبا والغِشِّ، والتَّسَاهُلُ في مخالَطَةِ النِّسَاءِ، وتَبَرُّجُ النساءِ وتَكَشُّفُهُنَّ … إلى غيرِ ذلكَ.
وَقَدْ وَضَّحَ لَنَا أحْكَمُ الحاكمينَ أنَّ ظُهُورَ المَعَاصِي والذنوبِ عِندَ المسلمينَ هو سبَبُ ضعفِهِمْ وَهَوَانِهِمْ، قالَ سبحانهُ: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران: 165] وقالَ: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم: 41] وقالَ: ﴿وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [الأنعام: 129] وقالَ: ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا﴾ [التوبة: 25].
يَا سبحانَ اللهِ، بسَبَبِ ذَنْبِ العُجْبِ هُزِمَ المسلمونَ يومَ حُنَيْنٍ مَعَ كَثْرَتِهِمْ وقُوَّتِهِمْ! قَارِنُوا هذَا بِحَالِنَا اليومَ؛ كَمْ شاعَ وانتَشَرَ الشركُ الأكبرُ في بلادِ العالَمِ الإسلاميِّ؟ فكَمْ مِن ضَرِيحٍ يُقْصَدُ، وَمِنْ قَبْرٍ يُعْبَدُ؟
في إِحْدَى الدولِ الإسلاميةِ في يومِ مولدِ مَن يُسمُّونَهُ صالحًا وَوَلِيًّا اجتَمَعَ عِنْدَ قبرِهِ ثلاثةُ ملايينَ يذبحونَ وينذرونَ لهُ، ويدعونَهُ مِن دونِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَهُمْ يَعصُونَ اللهَ بأعظَمِ ذَنْبٍ وهوَ الشركُ الأكبرُ الذي هو أبغَضُ الذنوبِ إلى اللهِ، قال سبحانه ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: 48] وقالَ: ﴿إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ﴾ [المائدة: 72].
أَمَّا المَعَاصِي الشَّهْوَانِيَّةُ -وَمَا أدراكَ مَا المَعَاصِي الشَّهْوَانِيَّةُ-، فَمَا أكثَرَهَا في بلادِ العالمِ الإسلامِيِّ، حَتَّى نِسَاءُ المسلمينَ اليومَ أَصْبَحْنَ مُتَبَرِّجاتٍ كَنِساءِ الغَرْبِ.
وَإِذَا رأيتَ امرأةً مسلمةً في كثيرٍ مِن بلادِ العالمِ الإسلاميِّ ورأيتَ تَبَرُّجَهَا لَمْ تُفَرِّقْ بينَهَا وبينَ الكافِرَةِ.
يا سبحانَ اللهِ أينَ أبوهَا؟ أينَ زوجُهَا؟ أينَ أهلُهَا؟
وكثيرٌ مِن النساءِ إذَا تَسَتَّرْنَ لَبِسْنَ عباءَاتٍ مُزَخْرَفَاتٍ تَجْلِبُ الأنظارَ إليهَا، والشريعةُ إنَّمَا شَرَعَتْ التَّسَتُّرَ لِئلَّا تُلْفَتِ الأنظارُ إليهَا.
وبعدَ هذا كُلِّهِ نَتَسَاءَلْ لِمَاذَا نحنُ ضُعَفَاءَ؟
إذَا أرَدْنَا عِزًّا ونصرًا وقوَّةً وتمكُّنًا وتقدُّمًا فَلْنَرْجِعْ إلى دِينِنَا وإلى توحيدِ اللهِ وسُنَّةِ رسولِ اللهِ ﷺ، وَلْنَتْرُكِ المعاصِي كبيرَهَا وصغيرَهَا، وإذا عَصَى أحدُنَا بادَرْنَا بنُصْحِهِ والإنكارِ عليهِ.
اِنتَشَرَتْ المعاصِي في بعضِ الطُّرُقاتِ والتَّجَمُّعَاتِ، والناسُ ساكِتُونَ، بَلْ هُمْ أَمَامَهَا مَيِّتونَ، أينَ إنكارُ المنكرِ بالتي هِيَ أحسنُ للتي هِيَ أقوَمُ؟
أينَ الغَيْرَةُ على الدِّينِ وَطَلَبُ رِضا رَبِّ العالمينَ؟
قالَ سبحانهُ: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [المائدة: 78-79].
إِنَّ تَرْكَ إنكارِ المنكَرِ مِن أعظَمِ أسبابِ انتشارِ الضَّعْفِ بينَ المسلمينَ.
واللهِ لَوْ أُخِذَ مِن دُنيانَا شيءٌ لَسَعَيْنَا كُلَّ السَّعْيِ مِن أجلِهِ، أمَّا الدِّينُ فأصبَحَ عِنْدَ كثيرٍ مِن المسلمينَ آخِرَ ما يُفَكَّرُ فيه؛ لِذَا أصبحنَا في ضَعْفٍ.
اللهُمَّ يا مَنْ لا إلهَ إلا أنتَ يا حَيُّ يا قيومُ يا رحمنُ يا رحيمُ مُنَّ علينا بالاستقامَةِ على دينِكَ، اللهُمَّ اجْعَلْنَا للتَّوْحيدِ قائمينَ، ولِسُنَّةِ نَبِيِّكَ محمدٍ ﷺ مُتَّبعينَ، اللهُمَّ قَوِّ الإسلامَ بأهلِهِ وَقَوِّ أهلَهُ بِهِ يا رَبَّ العالمينَ.