الحمدُ للهِ ربِّ العالَمين ، والعاقبةُ للمتَّقين ، ولا عُدوانَ إلَّا على الظَّالمين ، أمَّا بعدُ ، فإنَّ من جُملةِ الشُّبهاتِ الَّتي تُثارُ بينَ فَينةٍ وأُخرى : ” أنَّه يَجبُ على أهلِ الحقِّ السُّكوتُ عنْ أهلِ الباطلِ – مِنَ المسلمينَ – تَوحيدًا للصَّفِّ ، في مُقابلِ عَدوٍّ كافرٍ مُعتدٍ على أهلِ الإسلامِ” ، فيقالُ لأهلِ هذهِ القاعدةِ :
١) هل لِقاعدتِكم هذهِ ما يُصدِّقُها مِنَ الكتابِ والسُّنَّةِ ؟ أم أنَّها رأيٌ استَحسنهُ مَن لا حُجَّةَ في رأيهِ ؟
🔹 دِينُ النَّبيِّ مُحمَّدٌ أَخبارُ
نِعمَ المطيَّةُ للفتَى آثارُ
🔹 لا تَرغَبنَّ عنِ الحديثِ وأهلِهِ
فالرَّأيُ ليلٌ ، والحديثُ نَهارُ
🔹 ولرُبَّما جَهِلَ الفتى أَثَرَ الهُدى
والشَّمسُ بازغةٌ لها أنوارُ
٢) وهل تعلمونَ أنَّ النَّبيَّ ﷺ قدْ رَدَّ على مَن أخطأَ ، وهو مِنَ المجاهدينَ في سبيلِ اللهِ ؟ وحديثُ ‹ ذاتُ أنواط › = خيرُ شاهدٍ ودليلٍ لذلكَ .
٣) وهل تعلمونَ أنَّ قاعدتَكم هذهِ تَهدمُ أصلَ الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عنِ المُنكَرِ ؛ الَّتي هيَ خَصيصةُ الخيرِ في هذهِ الأُمَّةِ المُحمَّديَّةِ ؟
قالَ تعالى : { كنتُم خَيرُ أُمَّةٍ أُخرجتْ للنَّاسِ تأمرونَ بالمعروفِ وتَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وتُؤمنونَ بالله } .
💡 فمتى توقَّفَ الكفَّارُ عَنِ الكَيدِ للإسلامِ وأهلِهِ ؟
٤) وهل تعلمونَ أنَّ اللهَ تعالى قدْ أَخذَ الميثاقَ على أهلِ العِلم ببيانِ الحقِّ ، وحذَّرهم مِن كِتمانهِ ، فقالَ جلَّ وعَلا : { وإذ أخذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذينَ أُوتوا الكتابَ لَتُبيِّنُنَّهُ للنَّاسِ ولا تكتمونَهُ } ، فكانَ كِتمانُ الحقِّ من صِفاتِ أهلِ الكتابِ ، الَّذينَ ذمَّهمُ اللهُ بها في تَمامِ الآيةِ : { فَنَبذوهُ وراءَ ظُهورِهِم واشتَروا به ثمنًا قليلًا فبِئسَ ما يَشترون } ؟
٥) وهل تعلمونَ أنَّكم تَنهَونَ غيرَكم عمَّا تَفعلونَ ؟ وقد عابَ اللهُ على أهلِ الكتابِ والمنافقينَ ذلكَ ، فقالَ سُبحانهُ : { أتأمرونَ النَّاسَ بالبِرِّ وتَنسَونَ أنفُسَكُم } ؟
فإنَّكم ما فَتِئتُم تَردُّونَ على مَن أوجبتُم عليهمُ السُّكوتَ ؛ بل وتَصفونَهم بصِفاتٍ يُفهَمُ منها تكفيرُهم ورِدَّتهُم عن الإسلامِ ؛ فهلَّا رَبأتُم بأَنفُسِكم ، ولَزمتُم ما تُريدونَ إلزامَ غيرِكم به ؟!
🔹 أَأَلومُ مَن بَخِلَت يَداهُ واغتَدَى
للبخلِ تِرْبًا ، ساءَ ذاكَ صَنيعا
🔹 آبى فأَعصِي العَاذِلينَ وأغْتَدي
في تالِدي لِلسائلينَ مُطيعا
٦) وهل تعلمونَ أنَّ توحيدَ الصَّفِّ بمعناهُ الشَّرعيِّ ، الَّذي يُستَجلَبُ به نَصرُ اللهِ وتأييدُهُ ، لا يكونُ بِسُكوتِ كلِّ طَرَفٍ عنِ الطَّرَفِ الآخرِ ؛ بل إنَّ هذا من أسبابِ تأخُّرِ النَّصرِ ؛ بَلْهَ أسباب الهزيمةِ ؟ وقد هُزِمَ النَّبيُّ ﷺ في أُحُدٍ ، وحُنينٍ ؛ وسَببُ الهزيمةِ كانَ مَعصيةً مِن بعضِ أصحابِهِ ، لا يكادُ يُنظَرُ إليها اليومَ ، في مقابِلِ ما يُطلَبُ السُّكوتُ عنهُ ، مِن أجلِ النَّصرِ على الكافرينَ ( زَعموا ) !
🔹 قال الشَّيخُ ابنُ بازٍ رحمهُ الله : الواجبُ على المسلمينَ رَدُّ ما تَنازعوا فيه – في العقيدةِ وغيرِها – إلى اللهِ سبحانه ، وإلى رسولهِ ﷺ ، وبذلكَ يَتَّضحُ الحقُّ لهم ، وتَجتمعُ كلمتُهُم عليه ، ويتَّحِدُ صَفُّهم ضِدَّ أعدائِهم .
✊🏻 أمَّا بقاءُ كلِّ طائفةٍ على ما لديها مِن باطلٍ ، وعدمُ التَّسليمِ للطَّائفةِ الأُخرى فيما هيَ عليه مِنَ الحقِّ = فهذا هو المحذورُ ، والمنهيُّ عنهُ ، وهو سببُ تَسليطِ الأعداءِ على المسلمينَ ، واللَّومُ – كلُّ اللَّومِ – على مَن تمسَّكَ بالباطلِ ، وأَبى أن يَنصاعَ إلى الحقِّ ، أمَّا مَن تَمسَّكَ بالحقِّ ، ودعا إليه ، وأوضحَ بُطلانَ ما خالَفهُ = فهذا لا لومَ عليه ؛ بل هو مَشكورٌ ، وله أَجرانِ : أَجرُ اجتهادِهِ ، وأَجرُ إِصابتِهِ للحقِّ › .
[ مجموع فتاوى الشيخ (٣/١٠٠) ]
🫸🏻 وأمَّا مَن يُشغِّبُ “بأنَّ شيخَ الإسلامِ قاتلَ التَّتارَ وفي الجندِ مَن كانَ من الأشاعرةِ والصُّوفيَّة” ؛ فدونَ ما يُريدُ هذا المشغِّبُ الاستدلالَ به خَرطُ القَتادِ ، وهذهِ وُجوهُ الرَّدِّ مُختصرةً :
١) الَّذي يَستدِلُّ بهذا ليسَ مِن شيخِ الإسلامِ ولا إليهِ ؛ فهو على عقيدةٍ ومَنهجٍ مُخالفٍ لشيخِ الإسلامِ ، فكيفَ يَستدَلُّ بفِعلِ مَن لا يَرتضيهِ في دِينهِ ؟!
٢) إذا كانَ أهلُ العِلمِ اختلَفوا في حُجَّيَّةِ فِعلِ الصَّحابيِّ ، ومَن قالَ بأنَّ فِعلَهُ حُجَّةٌ اشترطَ أن لا يُخالفَ نَصًّا ، ولا صَحابيًّا أخرَ ، فكيفَ يَصِحُّ أن يُستدَلَّ بفِعلِ عالمٍ جاءَ بَعدَ الصَّحابةِ بمئاتِ السِّنينَ ؟!
💡 فكيفَ إذا عَرفتَ أنَّ قولَ شيخِ الإسلامِ على خِلافِ ما يزعمُ عنهُ ؟!
🔹 قالَ ابنُ تيميَّةَ رحمهُ الله في بيانِ ضَرَرِ أهلِ البدعِ على المسلمينَ : ‹ ولولا مَن يُقيمُهُ اللهُ لِدَفعِ ضَررِ هؤلاءِ ؛ لَفَسَدَ الدِّينُ ، وكانَ فسادُهُ أَعظمَ مِن فسادِ استيلاءِ العدوِّ مِن أهلِ الحربِ ، فإنَّ هؤلاءِ إذا استولَوا ؛ لَم يُفسِدوا القُلوبَ وما فيها مِنَ الدِّينِ إلِّا تَبَعًا ، وأمَّا أُولئكَ ؛ فهم يُفسدونَ القُلوبَ ابتداءً › .
[ مجموع الرسائل لابن تيمية (٥/١١٠) ]
٣) إنَّ ابنَ تيميَّةَ ومَن معهُ من أهلِ العِلمِ والفَضلِ لما وَجدوا الجندَ يَستغيثونَ بالأمواتِ – حتَّى قالَ قائلُهم : “يا خائِفينَ مِنَ التَّتر لُوذوا بقَبرِ أبي عُمر” – ؛ تَركوا القِتالَ مَعهم .
🔹 قالَ ابنُ تيميَّة رحمه الله : ‹ ولهذا كانَ أهلُ المعرفةِ بالدِّينِ والمكاشَفةِ ٬ لَم يُقاتِلوا في تلكَ المرَّةِ ؛ لِعدَمِ القِتالِ الشَّرعيِّ ، الَّذي أَمَرَ اللهُ بهِ ورسولُهُ ﷺ ، ولِما يَحصُلُ في ذلكَ مِنَ الشَّرِّ والفَسادِ ، وانتفاءِ النُّصرَةِ المطلوبةِ مِنَ القِتالِ › .
[ الردُّ على البكري (٣٧٧) ]
💡 فالعبرةُ عندَ ابنِ تيميةَ – في صِحَّةِ القِتالِ ، وطَلَبِ النَّصرِ على أعداءِ اللهِ – : أن يكونَ القِتالُ شَرعيًّا ؛ فهو كغيرِهِ من العِباداتِ يُشترَطُ لصِحَّتهِ أن يَجمعَ الإخلاصَ للهِ ، والموافقةَ لهديِ رسولِهِ ﷺ .
🔹 قالَ تعالى : { فآمنوا باللهِ ورَسولهِ النَّبيِّ الأُمِّيِّ الَّذي يُؤمِنُ باللهِ وكلماتِهِ واتَّبعوهُ لعلَّكم تَهتدون } .
👍🏻 فلا هِدايةَ إلَّا بالإيمانِ والاتِّباعِ .
٤) إنَّ ابنَ تيميَّةَ رحمهُ اللهُ لم يَتركِ الرَّدَّ على الأشاعرةِ والصُّوفيَّةِ ( كما يتوهَّمُ المستدلُّ بِقِتالهِ معهم ) ؛ فشيخُ الإسلامِ جاهدَ تحتَ رايةِ إمامٍ مُسلمٍ في قِتالٍ شَرعيٍّ ، وفي نَفسِ الوقتِ كُتُبهُ وفَتاويهُ طافِحةٌ بالرَّدِّ على كلِّ مُخالفٍ لمنهجِ السَّلَفِ الصَّالحِ ، فلا تَعارُضَ بينَ جهادِهِ بالسَّيفِ والسِّنانِ لأعداءِ الإسلامِ الخارجيِّينَ ، وجهادِهِ بالحُجَّةِ والبَيانِ لأعداءِ الإسلامِ الدَّاخليِّينَ ؛ بل الجمعُ بينهما أكملُ في حقِّ مَن وَفَّقهُ الله إليه .
ولْيعلمِ الجميعُ أنَّ نصرَ الله لعِبادِهِ لا يَحصُلُ إلَّا بما يُرضي اللهَ ، مِنَ الإخلاصِ والصِّدقِ ، واتِّباعِ مَن أرسلَهُ اللهُ مُبيِّنًا لأحكامِ الجهادِ ، كما بيَّنَ غيرَها من شرائعِ الإسلامِ ﷺ :
{ يا أيُّها الَّذينَ آمنوا إنْ تَنصروا اللهَ يَنصرْكُم ويُثبِّتْ أقدامَكم } .
{ ولَينصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصرُهُ } .
{ إِنَّا لَننصُرُ رُسُلَنا والَّذينَ آمنوا } .
واللهُ يَستخلِفُ في الأرضِ بِقَضائِهِ وقَدَرِهِ مَن أرادَ : { إنَّ الأرضَ للهِ يُورِثُها مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ والعاقبةُ للمُتَّقين } .
💡 ولَن يَستخلِفَ في أرضهِ أحدًا – استِخلافًا شَرعيًّا معَ الرِّضى عنه – مِن غير إيمانٍ صَحيحٍ ، وعَملٍ صالحٍ : { وَعَدَ اللهُ الَّذينِ آمنوا مِنكُم وعَمِلوا الصَّالحاتِ لَيستَخلِفنَّهم في الأرضِ كما استَخلفَ الَّذينَ مِن قَبلِهم ولَيُمكِّنَنَّ لهم دِينَهُم الَّذي ارتضى لهم ولَيُبدِّلنَّهم مِن بعدِ خَوفِهم أَمنًا يَعبدونَني لا يُشركونَ بي شيئًا } .
واللهُ الهادي إلى سَواءِ السَّبيلِ ، وهو حَسبُنا ونِعمَ الوكيل ، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالَمين .
أخوكم فراس الرفاعي
١٣ رجب ١٤٤٥هـ .