🔹 السُّنَّةُ الحَسَنة :
الحمد لله ٬ والصَّلاة والسَّلام على رسول الله ٬ وآله وصحبه ٬ أمَّا بعد : يَستدلُّ بعض النَّاسِ بالحديث الصَّحيح : مَن سنَّ في الإسلام سُنَّةً حسنة فله أجرُها وأجرُ مَن عمل بها بعدَه من غير أن يَنقصَ من أجورهم شيء … الحديث .
[ صحيح مسلم (١٠١٧) ]
ويقولون : “إنَّ هذا الحديث يدلُّ على أنَّ في الإسلامِ بدعة حسنة” ٬ والجوابُ على ذلك من وجوه عِدَّة :
🔹 الوجه الأول : ليس في الإسلام بدعة حسنة ٬ كما قال النَّبيُّ ﷺ : كلُّ بدعةٍ ضلالةٌ .
[ صحيح سنن ابن ماجه (٤٢) ]
و (كل) من ألفاظ العموم والشمول كما هو معروف .
والنَّبيُّ ﷺ كان يُصدِّرُ عامَّة خطبه (وليس أمامه مُبتدع قطُّ) بقوله : إنَّ شرَّ الأمور مُحدثاتها ٬ وكلَّ مُحدثٍة بدعةٌ … .
وهذا آكد في استغراقها جميع ما يُحدث ويُبتدع في دين اللَّهِ المُنزلِ كاملًا ٬ والكامل لا يقبلُ الزيادة كما هو معروف .
🔹 الوجه الثاني : أنه لا يوجد قائل بالبدعة الحسنة من أهل القرون المفضَّلة (الصَّحابة فمَن بعدهم) ٬ وقد قال الإمام أحمد رحمه الله : إيَّاكَ أن تتكلمَ في مسألةٍ ليس لك فيها إمامٌ .
[ سير أعلام النبلاء (١١/٢٩٦) ]
🔹 الوجه الثالث : أن الصَّحابة والتَّابعين كانوا أبعدَ النَّاسِ عن هذا الفَهم المعوجِّ للحديث ٬ وقد قال الشَّاطبيُّ رحمه الله : يجبُ على كل ناظرٍ في الدَّليل الشَّرعيِّ مُراعاة ما فهم منه الأوَّلونَ ٬ وما كانوا عليه في العمل به ٬ فهو أحرى بالصَّواب ٬ وأقوم في العلم والعمل ٠
[ الموفقات (٣/٢٨٩) ]
فتجد ابن مسعودٍ -مثلًا- أنكر بشدَّةٍ على أُناسٍ يجلسون في بيت من بيوت الله ٬ يذكرون اللهَ بالتكبير والتحميد والتهليل ٬ إلَّا أنهم اتَّخذوا الحصى لِيَعدُّوا بها أذكارهم (كحال أهل السُّبَحِ اليوم) فقال رضي الله عنه : عُدُّوا سيِّئاتكم فأنا ضامنٌ أن لا يضيعَ من حسناتكم شيءٌ ؛ ويحَكم يا أمَّةَ محمدٍ ما أسرعَ هلَكتكم ٬ هؤلاء صحابة نبيكم ﷺ مُتوافرونَ ٬ وهذه ثيابُه لم تَبلَ ٬ وآنيته لم تُكسر ٬ والذي نفسي بيده ٬ إنَّكم لَعلى مِلَّة هي أهدى من ملة مُحمد ٬ أو مُفتتحو بابِ ضلالةٍ .
[ السلسلة الصحيحة (٥/١١) ]
وتأمل حالَ ابن مسعود رضي الله عنه مع الأمر الذي لم يَستبن أهو سُنَّة ؛ أو مما أحدثه المُحدِثون ؛ حيث يقولُ : اقتصادٌ في سُنَّة ؛ خيرٌ من اجتهادٍ في بدعة .
[ ذم الكلام وأهله للهروي (٤٢٩) ]
ولما رأى عمارةُ بن رؤيبةَ بشرَ بن مروانَ على المنبر رافعًا يديه ؛ قال رضي الله عنه : قبَّحَ اللَّهُ هاتين اليدين ٬ لقد رأيتُ رسول اللَّهِ ﷺ ما يزيدُ على أن يقول بيده هكذا . ٬ وأشار بإصبعيه المُسبِّحة .
[ صحيح مسلم (٨٧٤) ]
ولما رأى سعيدُ بن المُسيب رحمه الله رجلًا صلّى بعد النِّداء من صلاة الصُّبح ٬ فأكثر الصَّلاةَ حَصَبَهُ ثم قال : إذا لم يكن أحدكم يعلم فليسأل ٬ إنه لا صلاةَ بعد النداء إلَّا ركعتين ٬
فقال الرجل : يا أبا محمد ! أتخشى أن يُعذِّبني الله بكثرة الصلاة ؟!
فقال : بل أخشى أن يُعذِّبكَ اللهُ بترك السُّنَّة .
[ الفقيه والمتفقه (١/٣٨١) ]
فهكذا كان سلفنا الصالحُ يُنكر على من أحدثَ عبادةً ما جاءت عن النَّبيِّ ﷺ ؛ أو عبادةً جيءَ بها في غير مكانها أو زمانها أو حالها الذي شُرعتْ فيه .
🔹 الوجه الرابع : أن علماء الإسلام ألّفوا في جميع أبواب الدِّين ٬ فلو بحثتَ في كتبهم (منظومها ومنثورها ٬ مختصرها ومطولها) فلَن تجدَ مُؤلَّفًا واحدًا في (البدعة الحسنة) ٬ فدلَّ على عدم وجودِها عندَهم أصلًا .
🔹 الوجه الخامس : أن الله سبحانه وتعالى امتنَّ على الأمَّةِ المُحمَّديةِ بشريعة سمحة كاملة فقال جل وعلا : { اليومَ أكملتُ لكم دينَكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلام دينا } .
وقال ﷺ : إنه ليس شيءٌ يُقرّبكم إلى الجنَّةِ إلَّا قد أمرتكم به ٬ وليس شيءٌ يُقرّبكم إلى النَّارِ إلَّا قد نهيتكم عنه .
[ السلسلة الصحيحة (٢٨٦٦) ]
فاستحال شرعًا أن يَتقربَ أحد إلى اللهِ بعبادةٍ بذاتها لم يَرِد فيها نصٌّ من الكتاب والسُّنة ٬ وقد أحسنَ الإمام مالكٌ رحمه الله حين قال : فما لم يكن يومئذ دينًا فلا يكون اليومَ دينًا .
[ الاعتصام للشاطبي (١/٦٥) ]
🔹 الوجه السادس : أن حقيقة (البدعة الحسنة) : هو إرجاع التَّشريع إلى العقول والأذواق بل والأهواء ٬ وهذا بابٌ خطيرٌ يؤدِّي -لو فُتح- إلى تبديل دين الإسلام ٬ ولذلك قال الإمام الشافعي رحمه الله : ولو جازَ لأحدٍ الاستحسانُ في الدِّين ٬ لجاز ذلك لأهلِ العقولِ من غير أهل العلم ٬ ولجاز أن يُشرعَ في الدِّين في كلِّ بابٍ ٬ وأن يُخرِجَ كلُّ أحدٍ لنَفْسِهِ شرعًا !
[ الرسالة (٥٠٧) ]
وقال رحمه الله : مَنِ استحسنَ فقد شَرَّع . د
[ شرح تنقيح الفصول للقرافي (٤٥٢) ]
وقال رحمه الله : إنَّما الاستحسانُ تلذُّذٌ .
[ الأم (١/٧٠) ]
🔹 الوجه السابع : إن فَهم معنى السُّنَّة الحسنة في الحديث يكون بمعرفة سببِ قول النَّبيِّ ﷺ لها ؛ فمختصر قصَّةِ الحديث أنه جاء قومٌ من الأعراب حُفاةً عُراةً يشكون الفاقةَ ٬ فظهر سوء حالهم في وجه النَّبيِّ ﷺ ؛ فخطبَ النَّاسَ ٬ وذكّرهم باللَّهِ ٬ وحثَّهم على الصَّدقة ٬ وكان ممَّا قال : تَصدَّقَ رجلٌ من ديناره ٬ من درهمه ٬ من ثوبه ٬ من صاع بُره ٬ من صاع تمره ٬ ( حتى قال ) : ولو بشِق تمرة .
فجاء رجل من الأنصار بصُرَّةٍ كادت كفُّهُ تَعجَزُ عنها ؛ بل قد عَجَزت ٬ ثم تتابع النَّاسُ حتَّى وُجدَ كومين من طعام وثياب .
فصار وجه رسول الله ﷺ يتهلَّلُ كأنَّه مُذهبةٌ ٬ ثم قال : من سنَّ في الإسلام سُنَّةً حسنة فله أجرها .. الحديث .
فهذا الأنصاريُّ كان أوَّلَ المُتصدِّقين ٬ وصدقتُه كانت سبب تتابع الناسِ على الصَّدقة ٬ وفيه قال ﷺ *: مَن سنَّ في الإسلام سُنَّةً حسنة .. * ٬ فقد سنَّ الأنصاريُّ للنَّاسِ ما هو موجود في الشَّرع ٬ ولم يأتِ بشرعٍ أو عبادةٍ جديدةٍ ٬ فتأمل !
قال الإمام الألبانيُّ رحمه الله : مَن سنَّ في الإسلام سُنَّةً حسنة = مَن سنَّ لغةً ٬ وفتحَ طريقًا إلى أمرٍ مشروعٍ بالكتابِ والسُّنة أماتَهُ النَّاسُ مع الزَّمن ٬ أو مع الغفلة ٬ فأحيا هذه السُّنَّةِ المنصوص عليها .
[ سلسلة الهدى والنور الصوتية (شريط ٣٩٠) بتصرف يسير ]
ومما يؤكِّد أن السُّنَّةَ الحسنة هي إحياءُ أمرٍ ثابتٍ بنصِّ الشَّرع ٬ غير مُحدثٍ أو مبتدَعٍ : قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه : الوترُ ليس بحَتمٍ ٬ ولكنه سُنَّةٌ حسنَةٌ عن رسول الله ﷺ .
[ مسند الطيالسي (٨٩) ]
🔹 الوجه الثامن : من فهم أن السُّنة الحسنة في الحديث هي عينها البدعة الَّتي يخترعها بعض الناس في عباداتهم ٬ نسألُهُ عن “البدعة السيئة” الواردة في نفس الحديث الَّذي استدلَّ به على البدعة “الحسنة” ٬ وهي في قول النبي ﷺ : ومَن سنَّ في الإسلام سُنَّة سيِّئةً ، كان عليه وِزرُها ووِزرُ مَن عملَ بها من بَعدِه من غير أن ينقصَ من أوزارهم شيءٌ :
💡 فإذا كانت البدعةُ في الدِّين ٬ والزِّيادة على الشَّريعة بدعة “حسنة’ فما هي البدعة السيِّئةُ ؟! وننتظر الجواب من ذوي العقول والحِجى .
فتبين مما سبق أنه لا علاقةَ للحديث بالبدعة الحسنة التي لا وجودَ لها في دين الإسلام ٬ وأن هذا التقسيمَ ليس إلَّا بدعةً سيِّئةً ليست من الإسلام في شيءٍ ٬ وإن ألصقت به زورًا وبهتانًا .
هذا والله أعلم ٬ والحمد للَّهِ ربِّ العالَمين .
أخوكم فراس الرفاعي
١٢ ربيع الأول ١٤٣٦هـ