الخطبة الأولى:

الحمدُ للهِ الذي خَلَقَ السماواتِ والأرضَ وَمَا بينَهُمَا في سِتَّةِ أيَّامٍ، وَجَعَلَ في ذلكَ مِن المَصَالِحِ العَظِيمَةِ، والحِكَمِ البالِغَةِ مَا تَتَقَاصَرُ دونَهُ فُهُومُ ذَوي الأفْهَامِ، وأشهَدُ أنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لَا شريكَ لَهُ، المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلَامُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، سَيِّدُ الأَنَامِ ومِصْبَاحُ الظَّلَامِ، صَلَّى اللهُ عليهِ وَعَلى آلِهِ وأصحابِهِ والتَّابعينَ لَهُمْ بإحسانٍ مَا تعاقبَتْ الَّليالِي والأيَّامُ، وسلَّمَ تسليمًا.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا ‌قَوْلًا ‌سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70-71].

أمَّا بعدُ:

فإنَّ تغيُّرَ الزمانِ والحالِ مِن بردٍ وحَرٍّ، وطولِ ليلٍ وقِصَرِهِ عِبرةٌ لأُولي الألبابِ وتذكِرَةٌ لِأُولي النُّهى، قالَ تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ‌لَآيَاتٍ ‌لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: 190].

وبمناسَبةِ اشتدادِ البردِ هذه الأيامَ، أُذكِّرُ بما يلي:

أولًا: أنَّ السلفَ كانوا يفرحونَ بليلِ الشتاءِ، لِيتهيَّأَ لهم إعمارُهُ بالقيامِ، والترتيلِ لآي القرآنِ، والتخشُّعِ بينَ يدي الرحمنِ، رُوِيَ عن عبدِ اللهِ بن مسعودٍ -رضي الله عنه- أنهُ قالَ: “ مرحبًا بالشتاءِ، تنزِلُ فيهِ البركةُ، ويطولُ فيهِ الليلُ للقيامِ، ويقصُر فيه النهارُ للصيامِ “.

وقالَ الحسنُ: “ نِعْمَ زمانُ المؤمنِ الشتاءُ، ليلهُ طويلٌ يقومُه، ونهارُه قصيرٌ يصومُه “.

وعَن عُبيدِ بنِ عُميرٍ أنه كانَ إذا جاءَ الشتاءُ قالَ: “ يا أهلَ القرآنِ ليلُكم لِقراءَتِكُم، فاقرَءُوا، وقَصُرَ النهارُ لِصيامِكُم فَصُومُوا “.

ذكرَ هذِه الآثارَ ابنُ رجبٍ في كتابِهِ (لطائفِ المعارِفِ).

ثانيًا: إنَّ قِصَرَ النهارِ وبُرودَتَه غنيمةٌ باردةٌ للصائمينَ وفرصةٌ للمتعبدينَ، قالَ أبو هريرةَ -رضي الله عنه-: ألا أدلُّكم على الغنيمةِ الباردةِ؟ قالُوا بَلَى، فيقولُ: الصيامُ في الشتاءِ. وتقدَّمَ ذِكرُ بعضِ الآثارِ في ذلكَ.

ثالثًا: فضلُ إسباغِ الوضوءِ على المكارِهِ، بأنْ يُسبَغَ الوضوءُ بالماءِ البارِدِ في الشتاءِ القارِسِ، إنَّ إسباغَ الوضوءِ بالماءِ البارِدِ في الأيامِ الباردِةِ مِن الأعمالِ الفاضِلَةِ، روى مسلمٌ عن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: ‌إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى ‌الْمَكَارِهِ …» الحديثَ.

إلَّا أنَّهُ لا يُشرَعُ تَقصّدُ الوضوءِ بالماءِ بالباردِ، لكن مَن لم يتيسَّر لهُ إلا الماءُ البارِدُ فليستحضِرْ هذهِ النيَّةَ.

رابعًا: إنَّ أشدَّ ما تجِدونَ مِن البردِ هوَ مِن زَمْهَريرِ جهنَّمَ، روَى البخاريُّ ومسلمٌ عن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «قَالَتِ النَّارُ: رَبِّ، أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا! فَأْذَنْ لِي أَتَنَفَّسْ فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي ‌الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ. فَمَا وَجَدْتُمْ مِنْ بَرْدٍ أَوْ ‌زَمْهَرِيرٍ فَمِنْ نَفَسِ جَهَنَّمَ. وَمَا وَجَدْتُمْ مِنْ حَرٍّ أَوْ حَرُورٍ فَمِنْ نَفَسِ جَهَنَّمَ».

فنعوذُ باللهِ مِن النارِ، اللهُمَّ إنَّا نعوذُ بِكَ مِن النارِ، اللهُمَّ أعِذْنَا مِن النارِ، وارْحمنَا يا ربَّنا يا جبَّارُ.

أقولُ ما قُلتُ، وأستغفِرُ الله لي ولَكُم فاستغفِرُوهُ، إنهُ هو الغفورُ الرحيمُ.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ المَلِكِ الحَقِّ المُبينِ، الذي أبَانَ لِعبادِهِ مِن آياتِهِ مَا بِهِ عِبْرَةٌ للمُعتَبِرينَ، وهِدايَةٌ للمُهتَدينَ، وأشهدُ أنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، إلهُ الأوَّلينَ والآخِرِينَ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ المَبْعُوثُ رحمَةً للعالمينَ، صَلَّى اللهُ عليهِ وَعَلى آلِهِ وأصحابِهِ وَمَن تَبِعَهُم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ، وسَلَّم تسليمًا.

أمَّا بعدُ:

فَتَتِمَّةٌ لِما تقدَّمَ:

خامسًا: إنَّ المؤمنَ للمؤمنِ كالبُنيانِ، روَى البخاريُّ ومسلمٌ عن أبي موسى الأشعريِّ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ ‌كَالْبُنْيَانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا. وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ»، وروى البخاريُّ ومسلمٌ عن النعمانِ بنِ بشيرٍ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «‌مَثَلُ ‌الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ ‌عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى».

فتذكَّرْ أيُّها المسلمُ إخوانَكَ المسلمينَ الفقراءَ الذينَ هاجَمَهُم البردُ بأوجاعِهِ وآلامِهِ مَعَ قِلَّةِ زادِهِم وضعفِ ما يتَّقونَ بِهِ مِن حَطَبٍ ولِباسٍ، روى ابنُ أبي الدُّنيا عن ابنِ مسعودٍ -رضي الله عنه- أنهُ قالَ: ” ‌يُحْشَرُ ‌النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ‌أَعْرَى مَا كانوا قط وأجوع مَا كَانُوا قَطُّ وَأَظْمَأَ مَا كَانُوا قَطُّ وَأَنْصَبَ مَا كَانُوا قَطُّ فَمَنْ كَسَا لِلَّهِ كَسَاهُ اللَّهُ وَمَنْ أَطْعَمَ لِلَّهِ أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَمَنْ سَقَى لِلَّهِ سَقَاهُ اللَّهُ وَمَنْ عَفَا لِلَّهِ عَفَا اللهُ عَنْهُ “.

فاهْتَبِلوا الفُرَصَ بتفقُّدِ إخوانِكُم المسلمينَ لِيتَفَقَّدَكُم اللهُ يومَ الدِّينِ، يومَ لا ينفعُ مالٌ ولا بنونَ.

سادسًا: يُشرعُ المسحُ على الخُفَّينِ كَمَا تكاثَرَتْ بذلكَ سُنَّةُ النبيَّ ﷺ، قالَ الحسنُ البصريِّ: ” حَدَّثَنِي ‌سَبْعُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ عليه السلام مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ “.

وروى البخاريُّ ومسلمٌ عن المغيرةِ بنِ شُعبةَ -رضي الله عنه- قالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي سَفَرٍ، فَأَهْوَيْتُ لِأَنْزِعَ خُفَّيْهِ فَقَالَ: «‌دَعْهُمَا ‌فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ». فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا.

فإنَّ مِمَّا أجازَتُه الشريعةُ -وهو مِن رُخَصِها وهيَ شريعةُ التَّيسيرِ- أنْ أباحَتْ المسحَ على الخُفِّينِ، ولهُ أحكامُهُ المذكورةُ في غيرِ هذهِ المناسبةِ.

سابعًا: أجازَتْ الشريعةُ الجمعَ بينَ الظهرِ والعصرِ، وبينَ المغرِبِ والعشاءِ، عِندَ نزولِ المطرِ الذي تحصُلُ معهُ المشقَّةُ مِن بَلِّ الثيابِ وغيرِ ذلكَ، روَى البخاريُّ ومسلمٌ عن ابن عباسٍ -رضي الله عنه- أنهُ قالَ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَلَّى بِالْمَدِينَةِ ‌سَبْعًا وَثَمَانِيًا: ‌الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ. فَقَالَ أَيُّوبُ وجابرُ بنُ زيدٍ: فِي لَيْلَةٍ مَطِيرَةٍ.

فالجَمْعُ في المطرِ الذي تَصحبْهُ مشقَّةٌ مِن تيسيرِ الشريعةِ، أمَّا الجمعُ لِشدَّةِ البَرْدِ فحَسْبُ فَلَا دليلَ عليهِ -والله أعلم- فَلَا يُشرَعُ الجمعُ لأجلِهِ.

ثامنًا: جوازُ التَّيمُّمِ لِمَن كانَ في مكانٍ بارِدٍ ويخشى على نفسِهِ المرضَ، وقَدْ ذهبَ إلى هذا جماهيرُ أهلِ العلمِ، بَلْ حكاهُ الإمامُ سفيانُ الثوريُّ إجماعًا، فَمَنْ خَشِيَ على نفسِهِ مَرَضًا أو تَلَفًا مِن البَرْدِ فَيَجوزُ لهُ التَّيمُّمُ.

تاسعًا: يكثُرُ في الشتاءِ إيقادُ النارِ للتَّدفِئةِ وغيرِ ذلكَ، ومِن المكروهِ أنْ تُترَكَ النارُ بِلا إطفاءٍ، رَوَى البخاريُّ ومسلمٌ عن أبي موسى الأشعريِّ أنهُ قالَ: ‌احْتَرَقَ ‌بَيْتٌ بِالْمَدِينَةِ عَلَى أَهْلِهِ مِنَ اللَّيْلِ فَحُدِّثَ بِشَأْنِهِمُ النَّبِيُّ ﷺ قَالَ: «إِنَّ هَذِهِ النَّارَ إِنَّمَا هِيَ عَدُوٌّ لَكُمْ، فَإِذَا نِمْتُمْ فَأَطْفِئُوهَا عَنْكُمْ».

وهذِهِ مِن الآدابِ الإسلاميَّةِ التي فيها حِفْظٌ للأنفُسِ والأموالِ.

اللهُمَّ اجْعَلنا بتغيُّرِ الليلِ والنهارِ مُعتبِرينَ، اللهُمَّ اجْعَلْنا مِن عبادِكَ المُتَّقينَ، اللهُمَّ أصلِحْنَا واغْفِر لَنَا يومَ الدِّينِ.