الحمدُ لله ربِّ العالمين ؛ وصلَّى اللهُ وسلَّم على نبينا مُحمد ؛ وعلى آله وأصحابه أجمعين … أما بعد : فإن اللهَ سبحانه أنزلَ شريعته والدِّينَ الذي ارتضاهُ ؛ ثم أَمر عبادَه باتباع أحسنِ ما جاء فيه ؛ وأرسلَ رسلَه عليهم الصلاة والسلام ليُبيِّنوا للناس ما نُزِّلَ إليهم من ربهم ؛ وجعلَ العلماءَ ورثة الأنبياء ؛ فكانوا كالسراج المنير يُضيءُ للسائرينَ على الصراط المستقيم طريقَهم الذي لا يُوصلُ الى رضى الرحمنِ سواه ؛ ولا يُبلِّغ جناتِ النعيم إلا إياه .
وقَعدَ إبليسُ وجنودُه على جَنَبات هذا الطريق ؛ يُزيِّنون للناس طُرُقًا مُتعرجةً عن يمينه وشِماله ؛ كلما اقتربَ منها أحدٌ ابتعدَ عن الصراط ؛ وخَطى أول خطوة في طريق التِّيهِ والعَمى والضلال ….
{ وأنَّ هذا صراطي مُستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السُّبُلَ فتَفرَّقَ بكم عن سبيله ذلكم وصَّاكم به لعلكم تتقون }
وإن من هذه السُّبُلِِ جَعْلُ التقليد في دين اللهِ دِينًا يَدينُ العبدُ به ؛ وغايةً يُسعى إليها ؛ ومُنتهًى يُقنع به ؛ فلا يَتعداه العبدُ إلى غيره …
والحق أن التقليدَ يجوز في حُدود ضَيِّقة ؛ كحال الجاهل الذي لا يُبصر طريقَه ؛ والمضطَّر الذي لا حِيلة له ؛ كالأعمى الذي يدلُّه الناسُ على الطريق ؛ وكالذي أشرفَ على الهلاك فأكل من الميتة ما تقوم به نفسُه !
وإن التقليدَ مع هذه القيودِ لا يتعدى أن يكون وسيلةً إلى تحقيق الغايةِ العظيمةِ ؛ وهي فَهم مُراد اللهِ ورسولِه ﷺ ؛ والعملُ بالشرع فِعلًا وتركًا …
وأما أن تَصيرَ الغايةُ وسيلةً ؛ فذلك من انتكاسِ الفِطَر ؛ وتبديلِ الأمور ؛ ومن فتنِ آخر الزمان الذي تلدُ فيه الأمَةُ ربَّتها ! والله المستعان .
وقد أعان على دخولِ هذا النفق المظلم طائفة من أهل العلم ؛ وأخرى من المنسوبينَ إليه !
فقالتِ الطائفةُ الأولى : إن بابَ الاجتهاد قد أغلقَ بموت الأئمةِ الأربعةِ رحمهُم اللهُ !
وبعضُهم فتح بابًا للاجتهاد إلا أنه لا يسعُ أحدا الدخولَ إليه ؛ فوضعوا شروطًا للاجتهاد قد لا تجدُها مجتمعةً في بعض أصحاب النبيِّ ﷺ !
وأنزلتِ الطائفةُ الأخرى أتباعَها منزلةَ البهائم ؛ فقالوا لهم : يجبُ أن يكون المُريدُ مع شيخِه كالميت ببن يَدي مُغسِّله !
وقالوا لأتباعهم : أظفئ سراجَ عقلِك واتَّبعني !
وقد جاءتِ الشريعةُ بذمِّ التَّقليد والتَّبعية العمياء .. وذلك في نصوص وآثار متوافرة متكاثرة … أذكر منها :
🔸 قوله تعالى : { وإذا قيل لهمُ اتبعوا ما أَنزل اللهُ قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءَنا أوَلو كان آباؤُهم لا يعقلون شيئًا ولا يهتدون }
🔹 قال ابن سعدي رحمه الله : فاكتفوا بتقليد الآباء ، وزَهدوا في الإيمان بالأنبياء ! ومع هذا فآباؤهم أجهل الناس ، وأشدهم ضلالًا ، وهذه شبهة -لرد الحق- واهيةٌ ، فهذا دليل على إعراضهم عن الحق ، ورغبتهم عنه ، وعدم إنصافهم .. فلو هُدوا لرشدهم ، وحَسُن قصدُهم ، لكان الحقُّ هو القصد ، ومن جعل الحقَّ قصدَه ، ووازنَ بينه وبين غيره ، تبين له الحقَّ قطعًا ، واتبعه إن كان مُنصفًا .
[ تيسير الكريم الرحمن (٨١) ]
🔸 وقال تعالى : { ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دُعاءً ونداءً صُمٌّ بكمٌ عُميٌ فهم لا يعقلون }
🔹 قال ابن سعدي : مثلُهم عند دعاء الداعي لهم إلى الإيمان ، كمثل البهائم التي يَنعق لها راعيها ، وليس لها عِلم بما يقول راعيها ومناديها ؛ فهم يسمعون مُجرد الصوت الذي تقوم به عليهم الحجة ، ولكنهم لا يفقهونه فقهًا ينفعهم ، فلهذا كانوا صمًّا لا يسمعون الحق سماع فَهم وقَبول ، عُميًا لا ينظرون نظر اعتبار ، بكمًا فلا ينطقون بما فيه خير لهم .
[ تيسير الكريم الرحمن (٨١) ]
🔹 وقال القرطبي رحمه الله : قال علماؤُنا : وقوة ألفاظ هذه الآية تعطي إبطال التقليد .
[ الجامع لأحكام القرآن (٢/٢١١) ]
🔹 وقال ابن عبد البر رحمه الله : وقد احتج العلماء بهذه الآيات في إبطال التقليد ، ولم يمنعهم كفر أولئك من جهة الاحتجاج بها ؛ لأن التشبيهَ لم يقع من جهة كفر أحدهما وإيمان الآخر ، وإنما وقع التشبيه بين التقليدين بغير حجة للمقلَّد ، كما لو قلَّد رجلٌ فكفرَ ، وقلَّد آخرٌ فأذنبَ ، وقلَّد آخرٌ في مسألة دنياه فأخطأَ وَجهها ، كان كل واحدٍ مَلومًا على التقليد بغير حجة ؛ لأن كل ذلك تقليدٌ يُشبه بعضُه بعضًا ، وإن اختلفتِ الآثامُ فيه .
[ جامع بيان العلم (٢/٩٧٧) ]
🔸 وعن عَدي رضي الله عنه قال : أتيتُ رسول الله ﷺ وفي عُنقي صليبٌ ، فقال لي : يا عَديُّ بنَ حاتمٍ ! ألق هذا الوثنَ من عُنقك .
وانتهيتُ إليه وهو يقرأ سورة براءة ؛ حتى أتى على هذه الآية : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله }
قلتُ : يا رسول الله ! إنا لم نتخذُهم أربابًا !
قال : بلى ، أليسَ يُحلُّون لكم ما حَرَّم عليكم فتُحلونه ، ويُحرِّموه عليكم ما أحلَّ اللهُ لكم فتُحرمونه ؟
فقلت : بلى .
قال : تلك عبادتهم .
[ صحيح سنن الترمذي (٣٠٩٥) ]
ومما يُؤثرُ عن السلف الصالح في ذم التقليد :
🔹 قول ابن مسعود رضي الله عنه : اغدُ عالمًا أو مُتعلمًا ، ولا تغدُ إمعة فيما بين ذلك .
[ شرح مشكل الآثار (١٥/٤٠٧) ]
🔹 وقوله : ألا لا يقلدنَّ أحدكم دينَه رجلًا ، إن آمن آمن ، وإن كفر كفر ! وإن كنتم لا بد مقتَدين ، فاقتدوا بالميت ؛ فإن الحيَّ لا يؤمن عليه الفتنة .
[ مجمع الزوائد (١/١٨٥) ]
🔹 وقوله : لا يكون أحدكم إمعة .
قالوا : وما الإمعة يا أبا عبد الرحمن ؟
قال : يقول : إنما أنا مع الناس ، إن اهتدَوا اهتديتُ ، وإن ضلوا ضللتُ ، ألا ليوطنَّ أحدكم نفسَه على إن كفر الناسُ ، أن لا يكفر .
[ مجمع الزوائد (١/١٨٥) ]
🔹 وقول عليٍّ رضي الله عنه : إن هذه القلوب أوعية ، فخيرها أوعاها للخير ، والناسُ ثلاثة : فعالم رباني ، ومتعلم على سبيل نجاة ، وهمج رعاع أتباع كل ناعق ، لم يستضيئوا بنور العلم ، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق …
إلى أن قال : أفٍّ لحامل حق لا بصيرة له ، ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة ، لا يدري أين الحق ، إن قال أخطأ ، وإن أخطأ لم يدرِ ، مشغوف بما لا يدري حقيقتَه ، فهو فتنةٌ لمن فُتن به .
[ تاريخ دمشق (٥٠/٢٥٥) ]
🔹 وقول الفضيل بن عياض رحمه الله : اتبع طريق الهدى، ولا يضرك قلة السالكين ، وإياك وطرق الضلالة ، ولا تغتـر بكثرة الهالكين .
[ الاعتصام (١/١١٢) ]
▪️ يا سائلي عن موضعِ التقليدِ خذْ
عني الجوابَ بفهمِ لبٍّ حاضرِ
▪️ واصغي إلى قولي ودُنْ بنصيحتي
واحفظْ عليَّ بوادري ونوادري
▪️ لا فرقَ بينَ مقلدٍ وبهيمةٍ
تنقادُ بين جنادل ودعاثرِ
▪️ تبًّا لقاضٍ أو لمفتٍ لا يَرى
عِللًا ومعنًى للمقالِ السائرِ
▪️ فإذا اقتديتَ فبالكتابِ وسنةِ الـ
ـمبعوثِ بالدِّين الحنيفِ الطاهرِ
▪️ ثم الصحابةِ عند عدمِكَ سنةً
فأولاك أهلُ نهى وأهلُ بصائرِ
▪️ وكذاك إجماعُ الذين يلونهم
من تابعيهم كابرًا عن كابرِ
▪️ إجماعُ أمَّتنا وقولُ نبينا
مثل النصوص لذي الكتاب الزاهرِ
▪️ وكذا المدينةُ حجةٌ إن أجمعوا
متتابعينَ أوائلًا بأواخرِ
▪️ وإذا الخلافُ أتى فدُونَكَ فاجتهدْ
ومع الدليلِ فمِلْ بهمٍّ وافر
▪️ وعلى الأصولِ فقِسْ فروعَك لا تَقسْ
فرعًا بفرعٍ كالجهول الحائرِ
▪️ والشرُّ ما فيه -فديتُكَ- أسوةٌ
فانظرْ ولا تحفلْ بزلةِ ماهرِ .
☝🏻 اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ؛ وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
أخوكم فراس الرفاعي
٢٨ شوال ١٤٤٣هـ