الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ الذِي عَلَّمَ بالقَلَمِ، عَلَّمَ الإنسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ، والصلاةُ والسلامُ على النبي الأكرم وعَلى آله وصحبِهِ الذينَ وَرِثوا عِلمَهُ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا…
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وكونوا مع الصادقين أمَّا بَعْدُ:
عباد الله : روى البخاري ومسلم عن عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود وَأَبِي مُوسَى الأشعري رضي الله عنه َقَالا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ أَيَّامًا يَنْزِلُ فِيهَا الْجَهْلُ، وَيُرْفَعُ الْعِلْمُ، وَيَكْثُرُ فِيهَا الْهَرْجُ “. وَالْهَرْجُ الْقَتْلُ”
روى أحمد وصححه الألباني عن عن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إنَّ بين يديِ الساعةِ وذكر منها : ويظهر القلم في آخر الزمان)
وظهور القلم مع ظهور الجهل دليل على أن المراد بالقلم هو انتشار الكتابة والقراءة، والقراءة والكتابة لا تعني
علماً، وليس كل من حمل القلم وحمل الكتابة يكون عالماً،
فعند التِّرمِذيِّ وصححه الألباني عَن جُبَيرِ بنِ نُفَيرٍ عَن أبي الدَّرداءِ ما يَدُلُّ على أنَّ الذي يُرفَعُ هو العَمَلُ. قال أبو الدَّرداءِ رَضِيَ الله عَنه: كُنَّا مَعَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فشَخصَ ببَصَرِه إلى السَّماءِ، ثُمَّ قال: هذا أوانٌ يُختَلَسُ فيه العِلمُ مِنَ النَّاسِ، حَتَّى لا يَقدِروا مِنه على شَيءٍ. فقال زيادُ بن لبيدِ الأنصاريُّ: وكَيفَ يُختَلَسُ مِنَّا وقَد قَرَأنا القُرآنَ؛ فوالله لنَقرَأنَّه، ولنُقرِئنَّه نِساءَنا وأبناءَنا، فقال: ثَكِلتْكَ أمُّكَ يا زيادٍ! إن كُنتُ لأَعُدُّكَ مِن فُقَهاءِ أهلِ الْمَدينةِ! هَذِه التَّوراةُ والإنجيلُ عِندَ اليَهودِ والنَّصارى ، فماذا تُغني عَنهم؟!)
وفي الصحيح عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى لله عليه وسلم يقول: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً فسألوا، فأفتوا بغير علم، فأضلوا وأضلوا)
وقال النَّوَويُّ: (هذا الحَديثُ يُبَيِّنُ أنَّ الْمُرادَ بقَبضِ العِلمِ في الأحاديثِ السَّابِقةِ الْمُطلَقةِ لَيسَ هو مَحوَه مِن صُدورِ حُفَّاظِه، ولَكِن مَعناه: أنَّه يَموتُ حَملَتُه، ويَتَّخِذُ النَّاسُ جُهَّالًا يَحكُمونَ بجَهالاتِهم، فيَضِلُّونَ ويُضِلُّونَ) .
وقال ابنُ حَجَرٍ: (قَولُه: أيِ البُخاريِّ «بابُ رَفعِ العِلمِ» مَقصودُ البابِ الحَثُّ على تَعَلُّمِ العِلمِ؛ فإنَّه لا يُرفَعُ إلَّا بقَبضِ العُلَماءِ، كما سَيَأتي صَريحًا، وما دامَ مَن يَتَعَلَّمُ العِلمَ مَوجودًا لا يَحصُلُ الرَّفعُ، وقَد تَبَيَّنَ في حَديثِ البابِ أنَّ رَفعَه مِن عَلاماتِ السَّاعةِ… قَولُه: أن يُرفَعَ العِلمُ… الْمُرادُ برَفعِه مَوتُ حَمَلَتِه)
عباد الله : العلمُ ما بينَ محمودٍ كالعلمِ الشَّرعيِّ، والعلمِ الدُّنيويِّ الذي ينفعُ الناسَ إذا حَسُنَتْ فيهِ النيَّةُ، والعلمُ
الشرعيُّ هو العلمُ الذي أمرَ اللهُ نبيَّهُ أنْ يزدادَ مِنهُ، قالَ تعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه: 114] وهو العلمُ الذي نزَلَ بهِ جبرائيلُ -عليهِ السلامُ- على النبيِّ الكريمِ محمدٍ ﷺ، قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنْ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 145].
قالَ الإمامُ ابنُ القيمِ: إِذا مُدِحَ العلمُ في الكتابِ والسنَّةِ فالمُرادُ بِهِ العلمُ الشرعيُّ دونَ غيرِهِ؛ كقولِهِ تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾
روى ابن ماجه وحسنه الألباني من حديث كثير بن قيس، قال: كنت جالسا عند أبي الدرداء في مسجد دمشق، فأتاه رجل، فقال: يا أبا الدرداء، أتيتك من المدينة، مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ [ على طائرة أو سيارة أو فطار ؟ لا بل على قدميه أحيانا وعلى الدابة حينا ] قال أتيتك من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم لحديث بلغني أنك تحدث به عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: فما جاء بك تجارة؟ قال: لا، قال: ولا جاء بك غيره؟ قال: لا، قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من سلك طريقا يلتمس فيه علما، سهل الله له طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن طالب العلم يستغفر له من في السماء والأرض، حتى الحيتان في الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر»
ما أعظم نصيب من طلب العلم الشرعي وما أرفع همته ، اجتمع عبد الله بن عمر وعروة بن الزبير ومصعب بن الزبير وعبد الملك بن مروان بفناء الكعبة، فقال لهم مصعب: تمنوا، فقالوا: ابدأ أنت، فقال مصعب: أتمنى ولاية العراق، وأن يتزوج سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة، هذه أملح النساء، وهذه أجمل النساء، فنال ذلك، حصل له الولاية على العراق، وتزوج سكينة وتزوج عائشة بنت طلحة، هذه همة وحصل عليها، وتمنى عروة بن الزبير الفقه وأن يحمل عنه الحديث، فنال ذلك .
عبادَ اللهِ، اتَّقوا اللهَ وارْفَعوا الجهلَ عَن أنفُسِكُمْ، واحذَروا ثُمَّ احذَروا القولَ على اللهِ أو على دينِهِ بغيرِ علمٍ، قالَ تعالى: ﴿وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾
واحْذَروا كُلَّ عِلْمٍ لا يَنْفَعُ، فَقَدْ ثَبَتَ في صحيحِ مسلمٍ عَن زيدِ بنِ أَرْقَمٍ -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ».
الخطبة الثانية :
الحمد لله
عباد الله : تأملوا سير اسلافكم وما كابدوه في تحصيل هذا العلم ليهون سبيله عندكم ونقوى به عزائمكم
وروى البخاري في الأدب عن جابر بن عبد الله قال: (بلغني عن رجلٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشتريت بعيراً -من أجل الرحلة اشترى بعيراً- ثم شددت رحلي فسرت إليه شهراً حتى قدمت الشام فإذا عبد الله بن أنيس، فقلت للبواب: قل له: جابر على الباب، فقال: ابن عبد الله ؟ قلت: نعم. فخرج عبد الله بن أنيس فاعتنقني. فقلت: حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فخشيت أن أموت أو تموت قبل أن أسمعه، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يحشر الله الناس يوم القيامة عراة أي: يعني غير مختتنين- بهماً، قلنا: ما بهماً؟ قال: ليس معهم شيء…. الخ .
وروى مالك عن سعيد بن المسيب فال : [كنت أرحل الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد]. وعن الشعبي رحمه الله أنه خرج من الكوفة إلى مكة في ثلاثة أحاديث ذكرت له، فقال: “لعلي ألقى رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم” أي حتى يرويها عنه بلا واسطة .
وأما أحمد بن حنبل فكما قال ابن الجوزي رحمه الله: طاف الإمام أحمد بن حنبل الدنيا مرتين حتى جمع المسند ،
وكم كان يحصل لهم من شدائد ومكائد ، فهذا ابن السمعاني خرج من مرو ودخل بغداد ثم رحل منها يقول: خرجت على غير الطريق المعتاد فأسرني عرب البادية، وكانوا يأخذونني مع جمالهم إلى الرعي، ولم أقل لهم: إني أعرف شيئاً من العلم، فاتفق أن رئيسهم أراد أن يتزوج، فقال: نخرج إلى بعض البلدان نبحث عن فقيه ليعقد لنا، فقال أحد الأسرى: هذا الرجل الذي يخرج مع جمالكم إلى الصحراء فقيه خراسان ، فاستدعوني وسألوني عن أشياء فأجبتهم وكلمتهم بالعربية فخجلوا واعتذروا، فعقدت لهم العقد ثم طلبتهم أن يرحلوني الى مكة
قال ابن أبى حاتم: ((سمعت أبى يقول: أول ما خرجت في طلب الحديث أقمت سبع سنين , أحصيت ما مشيت على قدمي زيادة على ألف فرسخ ( الفرسخ يزيد على خمسة كيلو مترات.) , ولم أزل أحصي حتى لما زاد على ألف فرسخ تركته ، ثمان سنوات يجول بقدمية ويركب البحر بين مدن الشام ومصر وهو ابن عشرين عاما .
قال محمد بن طاهر: بلت الدم فى طلب الحديث مرتين: مرة ببغداد، ومرة بمكة، وذلك انى كنت امشى حافيا فى حر الهواجر بهما فلحقنى ذلك! وما ركبت دابة قط فى طلب الحديث الا مرة، وكنت احمل كتبى على ظهرى، الى ان استوطنت البلاد، وما سألت فى حال طلبى احدا، وكنت اعيش على ما يأتينى من غير سؤال.
يقول ابن القيم: “سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: جاء في بعض الاثار الإلهية يقول الله -جل وعلا-: إني لا انظر إلى كلام الحكيم، وإنما انظر إلى همته، قال شيخ الإسلام والعامة تقول: قيمة كل امرئ ما يحسن، والخاصة تقول: قيمة كل امرئ ما يطلب، يريد -رحمه الله- أن قيمة المرء همته ومطلبه، قيمة كل امرئ ما يحسن، والآن في أساليب الناس أن قيمة الشخص ما يحمله في جيبه، فإن كان غنياً صارت له قيمة، وإن كان فقيراً لا قيمة له، هذا في عرف الناس لما صارت الحياة الدنيا هدف، وغفلوا عن الهدف الأسمى الذي خلقوا من أجله، وهو تحقيق العبودية لله -جل وعلا-، غفلوا عن هذا، ولذا تجد القلوب توجل عند كثير من الناس إذا دخل المجلس أو دخل في المجلس وفيه من أهل الدنيا من أرباب المناصب والتجارات، وإذا جاءه من يعدل ملء الأرض من مثل هذا ولاه ظهره،