القرقيعان … !!
كتبه / الشيخ فيحان سرور الجرمان
الحمد لله رب العالمين وبعد:
في كل سنة يدخل علينا شهر رمضان المبارك وفي مثل هذه الأيام بالتحديد تظهر علينا فتاوى مختلفة في شأن القرقيعان، بعضها لا يجيز الاحتفال به، والبعض الآخر يراها مجرد عادة شعبية، ومنهم من يبالغ ويشطح كثيرا ويزعم أنها سنة، وأكثر ما أدهشني من هذه الفتاوى الفتوى الأخيرة، حيث قال المتعالم وصاحب التصريحات: “إن القرقيعان سنة شرعية وعادة شعبيةحسنة، ومن يقول بأنه بدعة فكلامه هذا بدعة، وهو لم يذق من طعم الفقه شيئا”.
وليته وقف عند هذا الزعم وهذا الادعاء، بل زاد وتهجم على لغتنا العربية المسكينة، وقال: “إن القرقيعان عادة شعبية وإسلامية وأصله مشتق من قرة العين”، وقال كاتب آخر ليس بأحسن حالا منه: “أن عادة القرقيعان ترجع في الأساس إلى عهد النبي عليه الصلاة والسلام وبالتحديد لليلة مولد حفيده الإمام الحسن عليه السلام”.
وإلى آخر هذه الكتابات المليئة بالمغالطات والجرأة على الشريعة الإسلامية الثابتة والمدونة، والتقول على الله بلا علم، والله عز وجل حذر نبيه صلى الله عليه وسلم من ذلك، فقال تعالى: {ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين}، ومازال التقول على الله ورسوله بلا علم مع الأسف من عمل وديدن بعض الناس ممن ينتسب إلى الإسلام عبر العصور المتعاقبة، فما من زمان إلا وتجد ممن يدعي العلم والصدارة يكذب على الله ورسوله، وذلك يرجع للجهالة أو لطلب جاه أو مال أو إثبات مذهب ولو تطلب الأمر مخالفة الشريعة، فاليهود على سبيل المثال كانوا يكذبون لأجل المال والتكسب الحرام، كما قال تعالى: {فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلًا}.
لكن الذين ظهروا علينا في هذا العصر زادوا عليهم وطلبوا عبر الكذب على الله ورسوله مجرد إثبات الوجود بين الناس، وحفظ المكانة بين الأتباع، ولذلك يعجز أحدهم أن يأتي لنا من أمهات الكتب المنتشرة أو أي كتاب سواء من كتب أهل السنة أو غيرهم يثبت في أن القرقيعان سنة شرعية جاء بها الإسلام.
فالتصريحات العشوائية السابقة الخالية من العلم هي من العجائب التي يقف الحليم حيرانا أمامها، فكيف كانت له الجرأة وانعدم منه الخوف من الله؟ فلعل هذه الجرأة جاءت من الأسلاف الذين ألفوا الكتب الكثيرة من أجل تفريق المسلمين والتي نسبوها إلى حملة الوحيين من الصحابة وأهل البيت كذبا وزورا، وليعلم القارئ أن كلمة القرقيعان ليس لها أصل في لغة العرب، ولا يمكن أن تجد لها في القواميس العربية وجودا، ككتاب لسان العرب لابن منظور وغيره، والادعاء أن كلمة القرقيعان مشتقة من قرة العين افتراء محض على اللغة العربية وتعد صارخ عليها، بل هي لفظ عامي لم يذكره أحد من أهل اللغة ولا هو في شيء من كتبهم، وأما تفسير صاحب التصريحات العشوائية وبعض من شابهه من الكتاب في الادعاء أن كلمة قرقيعان مشتقة من قرة العين لا يمكن تفسيره إلا أنه دلالة على عدم إجادتهم للغة العربية، والتي كثيرا ما يلحنون بها، بل إن كثيرا منهم يجيد الفارسية أكثر منها، والمضحك أن هؤلاء تناقلوها عن بعضهم البعض من غير علم ولا بصيرة وإنما هو التقليد.
فبعض علماء اللغة قالوا عن قرة العين: قَرَّت عينُه مأْخوذ من القَرُور وهو الدمع البارد يخرج مع الفرح، وقيل هو من القَرارِ وهو الهُدُوءُ، وقال الأَصمعي: أَبرد اللهُ دَمْعَتَه لأَن دَمْعَة السرور باردة وأَقَرَّ الله عينه مشتق من القَرُور وهو الماء البارد، وقيل أَقَرَّ اللهُ عينك أَي صادفت ما يرضيك فتقرّ عينك من النظر إِلى غيره، وقوله تعالى: {فكلي واشربي وقَرِّي عَيناً}، قال الفراء: جاء في التفسير أَي طيبي نفساً.
وتفسيرهم بأن القرقيعان أصله مشتق من قرة العين لا يثير الغرابة من حيث إننا اعتدنا من بعضهم لْي أعناق الآيات والأدلة، مثل ما فعلوا في جعل بعض الآيات منزلة في شأن علي -رضي الله عنه- كذبا وزورا رغم أن سياق الآيات لا تدل على ذلك إطلاقا، وبتلاعبهم باللغة العربية في تفسير المفردات اللغوية كيفما شاؤوا فتحوا باب شر كبير للمبتدعة والزنادقة ليفسروا القرآن العربي على حسب أهوائهم.
وأما قول المتعالم: “إن القرقيعان سنة شرعية وعادة شعبية حسنة” فإنما يدل أيضا على جهله بالألفاظ الشرعية وأنه لا يحسن التفريق بين السنة الشرعية ومعناها في الاصطلاح وبين العادة التي لا تنافي الشرع، فيلزم من قوله عن القرقيعان أنه سنة شرعية أن الإسلام جاء به، وبالتالي من عمل بها فإنه يثاب، بينما العادة لا يثاب ولا يعاقب عليها فاعلها.
وأما قوله “ومن يقول إنه بدعة فكلامه هذا بدعة، وهو لم يذق من طعم الفقه شيئا” فإنما يبرهن لنا عقليته في التعامل مع الآخرين، وتهميش أقوال المخالفين حيث هذه المسألة فرعية، وإلا ماذا سنقول نحن فيمن يُجوّز الطواف حول القبور ودعاء الأموات؟!! وماذا سنرد على من يُجوّز سب الصحابة؟!! وماذا سيكون ردنا فيمن يُجوّز التطبير والنياحة؟!! وما هو موقفنا فيمن يُجوّز المتعة؟!! وماذا تقول أنت فيمن يرى ببدعية ولاية الفقيه؟!! هل سنقول له مثل قولك: “هو لم يذق من طعم الفقه شيئا”، خاصة وأنها مسائل أصول فهي أعظم من مسألة القرقيعان؟!! أم قد يكون لك رأي غير ذلك؟!!
ولوضع النقاط على الحروف يلزم التنبيه أن الذين قالوا أن القرقيعان عادة وليس عبادة أهون ممن قال إنها سنة شرعية، وهذه وجهة نظرهم وقد يؤجرون عليها لاجتهادهم إن كانوا من أهل الاجتهاد، ومن قال بتحريم القرقيعان، وأنها بدعة محدثة إنما استدلوا بالكتاب والسنة، فقالوا ينبغي أن يُربى الصبي على التعفف والزهد عن ما في أيدي الناس، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ «لَأَنْ يَغْدُوَ أَحَدُكُمْ فَيَحْتَطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَتَصَدَّقَ مِنْهُ فَيَسْتَغْنِيَ بِهِ عَنْ النَّاسِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ رَجُلًا أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ ذَلِكَ فَإِنَّ الْيَدَ الْعُلْيَا أَفْضَلُ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ» متفق عليه.
وقال عليه الصلاة والسلام للنفر الذين بايعوه «لا تسألوا الناس شيئا» قال الراوي “فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوطه فلا يسأل أحدا يناوله”.
ولاشك أن الأطفال يجوبون الشوارع ويطرقون أبواب البيوت بحثا عن الحلوى، ويقولون: عطونا الله يعطيكم بيت مكة يوديكم .
هذا هو المقطع الأشهر في ما يردده الأطفال كل عام، ولربما أعطوا أو منعوا، وإذا لم يعطوا الأطفال قالوا: “ويص ويص في بيتكم جعاميص”، وهذا فيه سوء أدب مع الناس، وتربية غير حميدة للأطفال، والتعفف خير لهم، علاوة على أن تجول الأطفال الصغار ليلا دون رقيب فيه مخاطر، وأضف إلى ذلك أن في القرقيعان مظاهر الإسراف والتفاخر واضحة في شراء الحلوى الغالية والملابس الخاصة والله لا يحب المسرفين، والمتتبع لهذه الأمور يدرك جيدا ما يعتري تلك الاحتفالات من بذخ وتبذير، بينما شُرع شهر رمضان للعبادة كما قال تعالى: {لعلكم تتقون}.
في الختام سؤال نوجهه للذين يقولون أن القرقيعان سنة شرعية وعادة حسنة هل يجوز للأطفال الذين ينتسبون لنسل أهل البيت أن يقرقعوا ويسألوا الناس الصدقة من الحلوى والنقود أم لا؟!!