يقول السائل: قال ابن المنذر: يجوز الجمع في الحضر من غير خوف ولا مطر ولا مرض. وهو قول جماعة من أهل الحديث لظاهر حديث ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر. ثم يقول السائل: ما صحة الحديث وهل هو خاص بالنبي -صلى الله عليه وسلم-؟
الجواب:
إن هذا الحديث قد تكلم العلماء عليه قديمًا وحديثًا من جهة الرواية والدراية، ومحصل جواب أهل العلم على هذا الحديث من أوجه، وقبل ذكرها لابد أن تُعلم مقدمة وهو أن الأصل أن تُصلى الصلوات في أوقاتها ولا يجوز أن تُؤخر عن وقتها كما قال تعالى: ﴿ إنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً ﴾ [النساء: 103] ومن أخَّر الصلاة عن وقتها فقد وقع في كبيرة من كبائر الذنوب إذا لم يكن له عذر في ذلك.
فإذا تبيَّن هذا، فإن هذا الحديث ناقل عن هذا الأصل المتقرر في كتاب الله وسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- لذا أجاب العلماء على هذا بأجوبة منها ما يلي:
الجواب الأول: أن الحديث لا يصح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقالوا إن حبيب بن أبي ثابت قد رواه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وحبيب له أخطاء وليس ذاك القوي في الحفظ، فحمَّلوا الخطأ حبيب بن أبي ثابت، كما أشار لذلك ابن المنذر في كتابه (الأوسط) عن بعض أهل العلم أنه جعل الخطأ من حبيب بن أبي ثابت لأنه ليس بذاك القوي في الحديث حتى يُقبل منه هذا التفرد لاسيما وقد تابعه أبو الزبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وأن هذا الجمع كان في سفر، وهو الذي يتفق مع أحكام الشريعة الأخرى.
وقد روى هذا أيضًا مسلم، ثم قد روى البخاري ومسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جمع سبع أيام أو ثماني أيام بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وليس فيه أنه لم يكن من خوف ولا مطر …إلخ، وأخرجه البخاري ومسلم من طريق عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء جابر بن زيد عن ابن عباس -رضي الله عنه- فأعرض البخاري عن رواية حبيب بن أبي ثابت.
فدل هذا على أن رواية حبيب بن ثابت التي ذكرها السائل لا تصح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا الجواب الأول.
الجواب الثاني: منهم من ذهب إلى صحتها، لكنه أعلَّ زيادة: «من غير مطر» وقال: الحديث ليس فيه: «من غير مطر» فيكون سبب الجمع أنهم كانوا في حال مطر. وممن ضعف زيادة: «من غير مطر» البيهقي في كتابه (السنن الكبرى)، وابن عبد البر في كتابه (التمهيد)، ويدل عليه صنيع البزار -رحمه الله تعالى-.
وهناك جواب ثالث: وهو أن العلماء مجمعون على خلاف هذا الحديث، وقد حكى الإجماع الترمذي -رحمه الله تعالى- وما ذكر ابن المنذر عن ابن سيرين فهو جمعٌ لعارض لا أنه دائمٌ، أما القول بأنه لكل أحد أن يجمع متى ما شاء ودائمًا لأجل هذا الحديث، فإن هذا لم يقل به أحد من أهل العلم.
إلى غير ذلك من الأجوبة، وأصح هذه الأجوبة -والله أعلم- أن يُقال: إن زيادة: «من غير مطر» شاذة، وأن الحديث محمول على الجمع في المطر، وبهذا يتفق مع بقية الأدلة وهناك كلام طويل حول هذا الحديث لا يتسع المقام لذكره، لكن ينبغي أن يُعلم أنه لا يصح أن يُعمل بهذا الحديث لما تقدم ذكره روايةً ودرايةً وللإجماع الذي حكاه الترمذي -رحمه الله تعالى-.
وقد رأيت بعضهم يتساهل في مسائل الجمع لأجل هذا الحديث مع أن الكلام في أسانيده بما تقدم ذكره كافٍ لمن كان منصفًا وتصوره -والله أعلم-.
أسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا، وجزاكم الله خيرًا.