يقول السائل: هناك بعض الدعاة المبتدعة يُجوز تهنئة غير المسلمين بعيدهم على هذه الأسس: أن التهنئة من باب العادات وأن الأصل فيها الحل، حتى يأتي دليل على المنع، ولا دليل من القرآن والسنة.
ثانيًا يقول: إن كلام ابن القيم هو الفتوى في زمان خاص، والآن تغيرت الفتوى.
ثالثًا يقول: لما زال وفد نصارى نجران النبي -صلى الله عليه وسلم- تركهم يصلون في مسجده، وهذا ليس إقرارًا على اعتقادهم، وكذلك التهنئة.
فكيف الرد على ذلك؟
الجواب:
ينبغي أن يُعلم أن المتشابه يُرد إلى المحكم، وأن المحكم لا يُرد إلى التشابه، ولا يُسقط المُحكم لمُعارضة المتشابه له في نظر الناظر، كما قال سبحانه: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ ﴾ [آل عمران: 7].
فإذن أهل الحق يردون المتشابه إلى المحكم، ويُفسرون المتشابه بالمحكم تفسيرًا لا يتعارض مع المحكم، أما من في قلوبهم مرض وزيغ فإنهم يتتبعون المتشابه ويردون المحكم لأجل وجود دليل متشابه، وهذا خطأ.
وحرمة تهنئة الكفار بأعيادهم دل عليه كل دليل من الكتاب والسنة على حرمة موالاة الكفار، قال سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [المائدة: 51].
ويؤكد ذلك ما ثبت في مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه».
حتى السلام لا يُبتدأون به، فكيف بأن يُهنأ الكفار بالأعياد الدينية أو الدنيوية؟ فتهنئتهم بالأعياد الدينية جريمة وإقرار لهم لما هم عليه من الباطل، وتهنئتهم بأعيادهم الدنيوية محرم لأنه من التهنئة على فعل المعصية.
فلو أن رجلًا زنا فهنأه أحد على زناه، لكان آثمًا، لأن الواجب عدم الرضا والإنكار لا التهنئة، ومثل ذلك يُقال في أعيادهم الدنيوية، ويُوضح هذا ما سبق ذكره كثيرًا أن الأعياد الدنيوية محرمة في حق المسلمين، فكيف إذا كانت في حق الكافرين؟ فهي من باب أولى، لأننا مأمورون بمخالفتهم وعدم التشبه بهم، إلى غير ذلك.
إذا تبيَّن هذا فإن العلماء من علماء السلف إلى من بعدهم مجمعون على حرمة تهنئة الكفار بأعيادهم، حكى الإجماع ابن القيم -رحمه الله تعالى-، فإذن ينبغي أن يُعلم أن هذا ليس قول ابن القيم فحسب، بل ابن القيم ينقل إجماع الأمة، وتوارد العلماء على ذلك.
والإجماع حجة، إلا عند المعتزلة والشيعة، والله يقول: ﴿ وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً ﴾ [النساء: 115].
إذن ليس ابن القيم الذي حرمه، بل ابن القيم ممن حرمه لكنه اتبع في ذلك الأدلة، ثم إجماع العلماء، فإن العلماء مجمعون على حرمته، فإذا تبيَّن هذا فمن خالف لا يُلتفت إلى قوله كائنًا من كان.
أما قوله: أن هؤلاء الدعاة المبتدعة يقولون: إن تهنئتهم من باب العادات، والأصل فيها الحل حتى يأتي دليل.
يُقال: هذا التأصيل صحيح، لكن تنزيله وتطبيقه على جواز تهنئة الكفار بأعيادهم لا يصح، لأن الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع قد دل على حرمة هذا كما تقدم بيانه.
أما قوله: [إن كلام ابن القيم هي فتوى في زمانه وقد تغير هذا الزمان]، فالجواب عليه بما تقدم ذكره أن ابن القيم لم ينفرد بهذا، بل يحكي إجماع العلماء في أزمان وقرون متطاولة ومتتالية، فليس خاصًا بزمن، هذا أولًا.
وثانيًا: هذه فتوى لدافع عقدي، لا لأمر راجع لمصلحة زمانية أو مكانية حتى يُعلق بالزمان أو بالمكان، كما تقدم بيانه، فهل يصح لأحد أن يقول: إن الصلاة لا تجب في زماننا وإنما وجبت في زمان من سبق لتغير الزمان؟
يقال: كلا، لأن هذه الفتوى ليست معلقة بالزمان، لأن أحكام الصلاة ووجوبها ليس معلقًا بالزمان، بل حكم شرعي واجب في نفسه.
أما قوله: [إن وفد نصارى نجران دخلوا المسجد وتركهم النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلون]، فالجواب على هذا من أوجه:
– الوجه الأول: أن هذه القصة لا تصح، كما أشار لهذا ابن رجب -رحمه الله تعالى- في شرحه على البخاري، ومن نظر في إسنادها وهو الإسناد الذي رواه ابن إسحاق يتبين له أنه لا يصح، لان تفردات محمد بن إسحاق لا يُعتمد عليها، لاسيما وقد عنعن، وهذا حكم شرعي، ومثل هذا يُشدد فيه.
كما بيَّن هذا الإمام أحمد والذهبي وغيرهم من أهل العلم، أن تفردات محمد بن إسحاق التي ينبني عليها حكم شرعي لا يُعول عليها، فكيف إذا عنعن؟ فإن المدلس لا تُقبل عنعنته.
وجاء من طريق آخر مرسل، كما بيَّنه ابن كثير في تفسيره، فالجواب الأول أنه لا يصح.
– الوجه الثاني: لو صحَّ فإنه فعل هذا لمصلحة عارضة، كما أشار لهذا ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كتابه: (أحكام أهل الذمة)، وابن رجب في شرحه على البخاري، كانوا قد أتوا يريدون أن يسمعوا الإسلام، فأراد أن يتألفهم -صلى الله عليه وسلم-، فهذا أمر عارض لا تأصيل دائم، وهو أن يُقال بجواز الصلاة بمسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- مطلقًا لأنه حصل أمر عارض مثل هذا.
وفي مقابل هذا الأمر يُقال إنه يجوز تهنئة الكفار بأعيادهم لأنه حصل أمر عارض مثل هذا وهو أنه أذن لهم أن يصلوا في مسجده، ففرق بين هذين الأمرين إن كان منصفًا ومريدًا لله والدار الآخرة، ولا يريد تحريف الكلم.
أسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا، وجزاكم الله خيرًا.