يقول السائل: ثبت أن الوليد بن عقبة صحابي، فكيف يتفق هذا مع عدالة الصحابة وقد كذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسماه الله فاسقًا؟
الجواب:
يُشير السائل إلى ما ذُكر في سبب نزول قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾ [الحجرات: 6] فقد ذكر العلماء في سبب نزولها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أرسل للوليد بن عقبة بن أبي معيط -رضي الله عنه- ليجمع صدقة بني المصطلق، فلما وصل إليهم وقد خرجوا عليه في أهبة وغير ذلك، رجع وقد خافهم، فرجع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخبرهم أنهم قد ارتدوا. فنزلت الآية.
فقد يتوهّم من لا يدري أن المخاطب بكونه فاسقًا هو الوليد بن عقبة، كما يُشير لذلك السائل، وهذا لو كان كذلك لأصبح مُشكلًا؛ لأنه يتعارض مع عدالة الصحابة -رضي الله عنهم-.
وقبل الجواب على هذا، أُبيِّن أمرًا مهمًا: وهو أن عدالة الصحابة ثابتة يقينًا بدلالة الكتاب والسنة والإجماع، كقوله تعالى: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ﴾ [الفتح: 29].
وكما ثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ما بلغ مُد أحدهم ولا نصيفه». إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة في فضائل صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأن لهم من المزية ما ليس لغيرهم.
أما الإجماع، فقد توارد العلماء على حكاية الإجماع، فقد حكى الإجماع على عدالة الصحابة: ابن عبد البر، والخطيب البغدادي، وابن الصلاح، والنووي، وابن حجر، وجمع كبير من أهل العلم.
إلا أنه ينبغي أن يُعلم أنه ليس معنى عدالة الصحابة أنهم معصومون من الكبائر أو الصغائر، قد يقع الصحابي حتى في الكبيرة، كما أشار لهذا ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في (العقيدة الواسطية)، بل ذكر ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في كتابه (منهاج السنة) أن مقتضى عدالة الصحابة أنهم لا يكذبون، أما أنهم قد يقعون في كبيرة أو صغيرة فهذا قد يقع من الصحابي.
فإن قيل: إن هذا لا يجتمع مع العدالة؟
فيقال: هذا مع عامة الناس، بخلاف الصحابة، فكما أن للصحابة مزيّة بحيث إن الصدقة منهم والأعمال الصالحة منهم تُضاعف من حيث الأجر على غيرهم، فكذلك يُقال في عدالتهم -رضي الله عنهم وأرضاهم-.
إذا تبيَّن هذا، فقد أجاب العلماء على قصة الوليد بن عقبة بما يلي:
الجواب الأول: أن هذه القصة لا تصح، وممن ذكر هذا ابن العربي في كتابه (العواصم من القواصم).
الجواب الثاني: أنه قد تاب، والصحابي إذا وقع في الذنب وتاب من الذنب، فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له، وقد ذكر هذا أيضًا ابن العربي في كتابه (العواصم من القواصم).
الجواب الثالث: أن القصة نزلت في الوليد بن عقبة، وقد حكى الإجماع على ذلك ابن عبد البر في كتابه (الاستيعاب)، ونقله ابن حجر في كتابه (الإصابة) وأقرَّه.
فإذن العلماء مجمعون على أن القصة نزلت في الوليد بن عقبة، ومن تأمّل الأحاديث المرفوعة تبيَّن له أنه لم يصح حديث مرفوع، لكن جاءت عدة مراسيل كلها في الوليد بن عقبة، والمفسرون يتواردون على حكاية أن القصة في الوليد بن عقبة -رضي الله عنه-.
لكن ينبغي أن يُعلم أن ابن جرير وغيره -وابن القيم في كتابه (مدارج السالكين)- ذكروا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أرسل الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق، وكان بينه وبينهم عداوة، فلما أتى إليهم وأراد أن يأخذ صدقتهم تأهَّبوا وخرجوا مسلحين …إلى غير ذلك، وهم فعلوا ذلك تعظيمًا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولرسول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لكن الوليد بن عقبة لم يتبيَّن له هذا الأمر، وظن أنهم يريدون قتاله، لاسيما مع الخصومة السابقة، فرجع فأخبر بأنهم قد ارتدوا.
والقصة قد جاءت بعدة روايات، والروايات المرسلة يُفسر بعضها بعضًا، فإذا تبيَّن هذا الذي تقدم ذكره فإن الوليد بن عقبة ظنَّ أنهم يريدون قتاله وأنهم قد ارتدوا، ومن ظن هذا الأمر وأخطأ لا يُقال إنه كاذب، وممن تكلم على هذا كلامًا مفيدًا ابن عاشور في تفسيره، وقال: وليس في القصة لا تصريحًا ولا تلويحًا ما يُبيِّن أن الوليد بن عقبة هو المخاطب بكونه فاسقًا، وإنما هو المخاطب بقوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ ﴾ [الحجرات: 6] يعني: يا الوليد بن عقبة أنت من المؤمنين، فكان ينبغي لك أن تتثبَّت. لا أنه المخاطب بكونه فاسقًا، ونقل كلامًا عن الرازي في مثل هذا، وأن الرازي قال: لا يصح أن يُنسب الظان ومن ظن أمرًا وتبيَّن أنه على خلاف ذلك، لا يصح أن يُنسب إلى الكذب.
إذا تبيَّن ما تقدم ذكره تبيَّن أنه لا يتنافى مع العدالة.
فإن قيل: قد جاء في بعض الروايات -وكلها كما تقدم لا تصح وإنما مراسيل- أنه رجع في الطريق، وأنه أخبر أنهم ارتدوا؟
فيقال: على التسليم بصحة الروايات، فالروايات يُفسر بعضها بعضًا، وقد تقدم ذكر الرواية التي تأهّبوا على الخروج عليه وظنهم يريدون قتاله، لاسيما وعندنا أصلٌ وهو أن الصحابة عدول، فلا يُنتقل عن هذا الأصل بروايات محتملة في دلالتها، بل تُعتمد الرواية التي تتفق مع هذا الأصل، كما تقدم ذكره.
إذن قوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [الحجرات: 6] هذا المخاطب به أهل الإيمان ومنهم الوليد بن عقبة بن أبي معيط، أي تثبَّت قبل أن تظن أنهم قد ارتدوا، فبهذا يُعلم أن الوليد بن عقبة -رضي الله عنه- لم يكذب، وإنما كان مجتهدًا، فليس هو المُخاطب بكونه فاسقًا، وإن كان الآية نزلت فيه كما تقدم بيانه.
أسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وجزاكم الله خيرًا.