يقول السائل: سمعت للإمام الألباني -رحمه الله تعالى- وهو يتحدث عن طلب العلم ولزوم المشايخ، وتكلم أن هذا قد يتغير في زماننا، وضرب بنفسه مثال وبعد فترة قصيرة من التتلمذ عكف بنفسه على الكتب، فلو تذكر لنا المقصد الأساس من لزوم العلماء، وهل يُقيد بمدة معينة؟
الجواب:
إن دراسة العلم على العلماء وتلقيه على العلماء سنة متبعة، ولا يُتخذ العلم إلا بمثل هذا في الجملة؛ فلذلك العلم يكون بالتوارث يأخذه من تأخَّر عمَّن تقدَّم، كما أخذه التابعون عن الصحابة وأتباع التابعين عن التابعين، وهكذا إلى زمننا هذا.
وفائدة الدروس وملازمة أهل العلم فائدة كبيرة للغاية، ويطول الكلام في مثل هذا لكن أشير إلى بعض الأمور:
الأمر الأول: التدرج في تحصيل العلم، فإن المعلم يتدرج مع الطالب في تحصيل العلم، فهو قد سبقه وضبط هذا العلم فيعرف ما ينفعه مما لا ينفعه ومما يمكنه أن يفهمه ومما لا يمكنه أن يفهمه، فلذلك من الفوائد العظيمة التدرج في تحصيل العلم.
الفائدة الثانية: الثقة في المعلومة، فرق بين علمٍ يقرأه الطالب بنفسه وقد يقرأه خطأً أوصوابًا لكن يفهمه خطأً ويأخذ جهدًا في فهمه …إلى غير ذلك، ثم في نهاية الأمر لا يثق بمعلومته لأنه أخذ بجهده الفردي، والخطأ والخلل محتمل كثيرًا، بخلاف من يتلقى عن المشايخ وأهل العلم، فإن مثل هذا يكون أكثر أمانًا من أن يتلقى الإنسان بنفسه وبجهده الخاص.
الفائدة الثالثة: تسهيل الطريق لتحصيل العلم، فالطالب الذي يدرس بنفسه ويطالع الكتب وحده ويُقلبها يحتاج جهدًا كبيرًا، فلو مرَّ عليه لفظٌ لم يفهمه كلفظ “الشاذ” عند المحدثين، و”الشاذ” عند علماء الأصول، فيحتاج إلى وقت حتى ينكشف له معنى هذا اللفظ، بخلاف لو لازم شيخًا صاحب علم فإنه يكشفه له في لحظات فيختصر له الطريق ويُقومه ويُقويه، واختصار الطريق في طلب العلم مطلب شرعي لأن الزمن قصير والعمر قصير والصوارف كثيرة والعلم كثير… إلى غير ذلك.
الفائدة الرابعة: الاستفادة من سمت الشيخ وأخلاقه وأدبه، فإن من أعظم الفوائد أن مجالسة الشيوخ فيها استفادة من سمتهم وأدبهم وأخلاقهم وتعاملهم، وهذا نحتاج إليه كثيرًا، وهذا مما كان يعتني به السلف، كانوا يعتنون في التلقي من المشايخ من أهل العلم أن يتلقوا أخلاقهم وتعاملهم، وهذا مفيد للغاية وقد تكلم على مثل هذا الشاطبي -رحمه الله تعالى- في كتابه (الموافقات)، ومما ذُكر في ترجمة الإمام أحمد أنه كان يحضر درسه الآلاف لا يحضرون لطلب العلم وإنما للأخذ من سمته وهديه وأخلاقه -رحمه الله تعالى-.
فهذا مفيد للغاية فشتان بين إنسان يجلس وحده ولا يُجالس أهل العلم، شتان بين أخلاقه في الجملة وبين أخلاق من ليس كذلك.
أما ما يتعلق بالعلامة محمد ناصر الدين الألباني فهو قد ذكر أنه تتلمذ في أول أمره، ثم الألباني من النوادر التي لا يصح لكل أحد منا أن يقيس نفسه عليه، فهو صاحب همة ونشاط وطاقة وجهد وبذل وحماسة للعلم، لا توجد إلا عند نوادر من الناس، فلذلك لا ينبغي أن نُغامر وأن نُخاطر وأن نقيس أنفسنا على العلامة الألباني -رحمه الله تعالى-.
ومن المعلوم أن النادر لا حكم له، مع أنني لا أُسلم بأن العلامة الألباني لم يدرس بل درس كما اعترف هو بنفسه في أول أمره، ثم صار يجالس أهل العلم فيما بعد ما بين حين وآخر، وأؤكد لكم أن النادر لا حكم له.
ثم أنبه في الختام على أمرين:
الأمر الأول: الناس في ملازمة المشايخ وأهل العلم على طرفي نقيض، قسمٌ يجعل تحصيله الكلي في ملازمة أهل العلم، وهذا قصَّر، وقسم آخر يترك ملازمتهم ويعتمد على الكتب وهذا قصَّر كما تقدم، وإنما المفترض أن يُلازم الطالب أهل العلم وأن يسير معهم وأن يجتهد في ملازمتهم للاستفادة منهم، لكن في المقابل يكون ذا همة ونشاط كبير في القراءة والبحث والتعليم الذاتي.
نقل الشاطبي في كتابه (الموافقات) عن بعضهم أنه قال: كان العلم في صدور الرجال فانتقل إلى بطون الكتب، فبقيت مفاتيحه في صدور الرجال.
فينبغي أن نحرص على تحصيل هذه المفاتيح التي في صدور الرجال وأن نُكمل العلم بالبحث والتنقيب والدراسة وجرد الكتب، لاسيما كتب المحققين كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم -رحمه الله تعالى-.
التنبيه الثاني: إن العلماء وطلاب العلم متفاوتون في علمهم، منهم من هو محقق صاحب فوائد وفرائد ودقائق في العلم، فمثل هذا يُلازم ولا يُترك ولو بالاتصالات والسؤال ما بين حين وآخر، وإذا تمكَّن من ملازمة درس فهو نافع للغاية، فإن أمثال هؤلاء قلة ويكشفون أمورًا كثيرة قد التبست على غيرهم، واعتبر هذا بما فعل ابن القيم مع شيخ الإسلام، فإن ابن القيم أدرك شيخ الإسلام وهو قد كان صاحب علم، ومع ذلك ما تركه بل قرأ عليه كثيرًا من مصنفاته كما ذكر هذا في (النونية).
أما أخيرًا ذكر السائل: (هل له مدة معينة؟) يُقال: ليس له مدة معينة، فيختلف الناس ويتفاوتون في هذا، وبمعرفة ما تقدم يُعرف أن الناس يتفاوتون في هذا، وكلٌ بحسب حاله وما تيسر له.
أسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يرحمنا إنه أرحمن الراحمين.