بطلان القول بجواز إفطار الصائم قبل غروب الشمس
الحمد لله رب العالمين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فلا يخفى أنَّ شهر رمضان المبارك يقع في هذه السنوات في موسم الصيف حيث يطول النهار في بلاد الشمال، ففي هذه السنة (1435) يبدأ المسلمون في لندن شهرهم بصيام (19) ساعة، وفي ستوكهولم (20) ساعة، وتزداد المدَّة كلَّما ارتفعنا باتجاه الشمال، ولا شكَّ أنَّ في هذا مشقَّةً بالغةً على كثيرٍ من المسلمين القاطنين في تلك الجهات، لهذا بحث الفقهاءُ هذه المسألة قديمًا وحديثًا، وقد لخَّصت ذلك في بحثٍ موجزٍ نشرته قبل أربع سنوات بعنوان: (حكم الإفطار لمن شقَّ عليه طول النهار)، حاولت أن أُبرز فيه القولَ المعتمدَ عند عامَّة فقهاء الإسلام فقلتُ في الفقرة الأولى منه ما نصُّه:
(الأصلُ الذي يجب اعتقادُه والقطعُ به: أنه إذا تميَّز النهار والليل في مكانٍ ما؛ وجب على المكلَّفين من سكانه في رمضان أن يصوموا، ويُمسكوا عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب شمس ذلك اليوم، سواء قصر النَّهار جدًّا، أو طال جدًّا. وبهذا أفتى العلامة الشيخ حسنين محمد مخلوف ـ مفتي مصر الأسبق ـ (في رمضان: 1371هـ/1952م)، والشيخ الإمام عبد العزيز بن عبد الله بن باز، والعلامة محمد بن صالح العثيمين ـ رحمهم الله تعالى ـ، واللجنة الدائمة للإفتاء، وهيئة كبار العلماء بالسعودية بقرارها (61) في 12/4/1398.
أما القولُ الآخرُ: بأنَّه إذا طال النهارُ جدًّا فلهم أن يصوموا على قدر الساعات التي يصومها أهل مكة أو المدينة، أو أن يُقدِّروا بأقرب البلاد المعتدِلة إليهم، وأنْ يبدؤوا بالصوم من طلوع الفجر، ويفطروا مع ميعاد البلاد التي يقدِّرون بها من حيث عدد الساعات، ولا يتوقَّفون على غروب الشمس؛ فهذا القول شاذٌّ، لا يُلتفتُ إليه، ولا يُشتغَل به).
أقول: هذا ما ذكرتُه في ذلك البحث، مؤكِّدًا على القول الصَّحيح المعتمد، ومكتفيًا بالإشارة إلى بطلان القول الثاني ـ وهو الإفطار قبل غروب الشمس ـ لشدَّة غرابته وشذوذه، وافتقاره إلى أيِّ دليل شرعيٍّ أو تخريجٍ فقهيٍّ، لهذا جرى عامَّةُ المسلمين في بلاد الشمال منذ أن استوطنوا هذه الجهات على التزام القول الأول، ولم أكن أعرف أنَّ القول الثاني بدأ ينتشر بين المسلمين، حتَّى أخبرني بعض الإخوة الأفاضل ـ جزاهم الله خيرًا ـ بأنَّ بعض المسلمين في فنلندا والسويد وغيرهما من البلاد يعملون بذلك القول؛ فيفطرون في وضَحِ النهار، ويظنون أنَّهم يحسنون صنعًا.
ولما كان هذا الأمرُ في غاية الخطورة لتعلُّقه بالركن الرابع من أركان الإسلام الخمسة، ففيه إفسادُ عبادةٍ عظيمةٍ، وبطلانُ فريضةٍ محكمةٍ، وإدخالُ الخلل والاضطراب في دين المسلمين؛ رأيتُ من الأهميَّة بمكانٍ بيان بطلان القول بتقدير وقت الإفطار قبل غروب الشمس، والتحذير من نشره والعمل به، وذلك بما سأذكره هنا من الحجج التي يدلُّ عليها الكتاب والسنة وإجماع الأمة وقواعد الشريعة وفقه الأئمة، أمَّا البحثُ الفقهيُّ الدَّقيق، ومناقشة الشبهات؛ فله مناسبةٌ أخرى، وإنما أردتُ هنا الإشارةَ الموجزةَ، والإفادةَ العاجلةَ، نصيحةً لعامَّة المسلمين، فأقول ـ مستعينًا بالله عزَّ وجلَّ ـ:
1- أنَّ الله تعالى بيَّن في كتابه العزيز أول الصيام وآخره، فقال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، قال أبو عبد الله القرطبيُّ في تفسيره «الجامع لأحكام القرآن»: «جعل الله جَلَّ ذِكْرُه الليلَ ظرفًا للأكل والشرب والجماع، والنهارَ ظرفًا للصيام، فبيَّن أحكام الزَّمانَيْن وغايَرَ بينهما؛ فلا يجوز في اليوم شيءٌ مما أباحَه بالليل إلا لمسافرٍ أو مريضٍ». فهذا نصٌّ قطعيُّ الثبوت وقطعيُّ الدلالة في تحديد مبتدإِ وقت الصيام ومنتهاه، لا تجوز مخالفته بأيِّ وجهٍ من الوجوه، ولا تحلُّ معارضته بالاحتمالات والشبهات والاجتهادات، خاصَّةً أنَّه تأكَّد بإجماع الأمة عليه جيلًا بعد جيل، وعصرًا بعد عصرٍ، ففَتْحُ البابِ لإبطال هذا الحكم القطعيِّ الصريح بدعوى وجود المشقَّة أو حصول أمر خارجٍ عن المعتاد؛ ذريعةٌ إلى إبطال أحكام الشريعة كلِّها، والتشغيب على دلالات النُّصوص جميعها.
2- أَنَّ الحاملَ على الإفطار قبل الغروب هو المشقَّة الناتجة عن سببٍ وهو طول النَّهار،فالواجب في هذه الحالة الأخذُ بحكم الله عزَّ وجلَّ عند حصول المشقَّة من الصيام بأيِّ سببٍ كان، فوجدنا كلامه سبحانه صريحًا، وحكمَه قاطعًا في المريض والمسافر، كما قال تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 187]، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحَّاك: اليُسرُ: الإِفطارُ في السفر، والعُسر: الصومُ فيه. وقال عمر بن عبد العزيز: أيَّ ذلك كان أيسرَ عليك فافعل: الصوم في السفر أو الفطر. [زاد المسير لابن الجوزي: 1/144].
فعلمنا بهذا أنَّ الله تعالى جعل المخرجَ من مشقَّة المرض والسَّفر أنْ يُفطر المسلمُ ثم يقضي الأيامَ التي أفطرَها في أيامٍ أُخرى لا يجد فيها مشقَّةَ المرض أو السَّفر. فالواجب ـ بضرورة الشَّرع والعقل ـ أن يكون حكمُ كلِّ من عجز عن الصيام كذلك، لهذا تُفطر المرأةُ الحامل والمرضِعُ والطاعنُ في السِّنِّ وكلُّ من في جسده وهنٌ وضعفٌ بحيث لا يُطيق الصيامَ ويجد فيه مشقَّةً فوق المعتاد. فهذا حكم الله تعالى فيمن وجد مشقَّةً بالصيام، ولو كان الإفطار قبل غروب الشمس سائغًا لكان هؤلاء أولَى بالرخصة في الإفطار إلى حدٍّ معلوم في الشريعة كوقت صلاة الظهر أو العصر، أو إلى حدِّ الاستطاعة؛ فمِنْ مريضٍ يُفطر صدر النهار، وآخرٍ يُفطر في آخره، كلٌّ حسب استطاعته. فإذْ لم يحكم الله تعالى بذلك، ولم يُرشد إليه، ولا وجدنا في كتابه عزَّ وجلَّ ولا في سنة نبيِّه صلى الله عليه وسلم ما يشبهه أو يقاربه؛ علمنا ـ علمًا يقينيًّا ـ أنَّ الإفطارَ قبل غروب الشمس، وعَدُّ ذلك صيامًا صحيحًا مقبولًا؛ مخالفٌ لحكم الله عزَّ وجلَّ في حالَتْي العزيمة والرُّخصة، وأنَّه ليس في دين الإسلام ـ في مسألة الصيام خاصَّةً ـ ما يُماثله أو يُشبهه أو يُقاربه حتَّى يمكنَ القياسُ به، والتخريجُ عليه.
لهذا فإنَّ القولَ بالإفطار لمن شقَّ عليه طول النَّهار ووجوبِ القضاء عليه في أيامٍ أُخَر: مطابقٌ لنصِّ كلام الله تعالى، وموافقٌ لحُكمه، ومحقِّقٌ لمقصِده الذي بيَّنه الله تعالى في قوله الكريم: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}.
3- أنَّ القائلين بالإفطار قبل غروب الشمس قد اضطربوا اضطرابًا شديدًا في تحديد أمرين مهمَّين:
الأول: مدَّة الصيام الذي يُبيح الإفطار قبل الغروب، فزعم بعضهم أنها ثماني عشرة ساعة فما يزيدُ. فيُقال له: فما حكم ثماني عشرةَ ساعة إلا خمس دقائق أو ربع ساعة؟ فإن قال: لا يجوز الإفطار فيه. قُلنا له: المشقَّة حاصلة بهذه المدَّة أيضًا، والتحديد المذكور دعوًى بلا برهان، وقد شاهدنا كثيرًا من المسلمين الأصحَّاء يتطوعون بالصيام في أيامٍ يمتدُّ النهارُ فيها أكثر من (18) ساعة؛ فلا يجدون مشقَّةً ولا ضررًا. وقد أذِنَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالوصال – أي البقاء صائمًا بعد دخول الليل ـ حتَّى وقت السُّحور، أي: بالصيام مدَّةً تزيد على (23) ساعة، فأخرج البخاريُّ (1967) عن أبي سعيد الخدريِّ رضي الله عنه: أنَّه سمع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تواصِلُوا، فأيُّكم أرادَ أَنْ يُواصِلَ؛ فليواصِلْ حتى السَّحَر»، قالوا: فإنك تواصل يا رسولَ الله؟ قال: «لستُ كهيئتكم، إنِّي أبيتُ لي مُطعِمٌ يُطعمني، وساقٍ يسقيني».
قال ابن حجر رحمه الله في «فتح الباري» 4/204: «وذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وابن المنذر وابن خُزيمة وجماعة من المالكية إلى جواز الوصال إلى السَّحَر لحديث أبي سعيدٍ المذكور، وهذا الوصالُ لا يترتَّب عليه شيء مما يترتَّب على غيره؛ إلا أنَّه في الحقيقة بمنزلة عَشائه إلا أنه يُؤخِّره، لأنَّ الصائم له في اليوم والليلة أكلةٌ، فإذا أكلها السَّحرَ كان قد نقلها من أول الليل إلى آخره، وكان أخفَّ لجسمه في قيام الليل، ولا يخفى أنَّ محلَّ ذلك ما لم يشقَّ على الصائم، وإلا فلا يكون قُربةً».
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أذن لأمَّته بالصيام مدَّةً تزيدُ على (23) ساعة، وهو صلى الله عليه وسلم لا يأذن بما فيه الضَّررُ والفسادُ والهلاكُ، فكيف يُقال بعد هذا: «وقياس هذا الاختلال مأخوذ من الواقع، حيث يصعب على الإنسان صيام ثماني عشرة ساعة متواصلة ويزيد، وفي ذلك يقول المختصُّون الذين يقرون أنَّ الامتناع عن الطعام والشراب طوال هذه المدَّة يضرُّ بالجسد البشريِّ، وذلك على المعهود من أحوال البشر وتحمل أبدانهم، وما كان كذلك فلا يصحُّ أنَّ يكون مقصودًا بالتكليف شرعًا». لا شكَّ أنَّ هذا القول معارِضٌ لحكم النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهو مجرَّد دعوًى، لا تؤيِّده الحقائقُ الطبيَّة، ولا التجاربُ البشرية.
الثاني: حدُّ الإفطار والشمسُ مشرقةٌ؛ فقال بعضهم بالتقدير على أقرب بلدٍ معتدلٍ، وقال آخرون بالإفطار وقت الغروب في مكة أو المدينة، وهذا أشهر الأقوال عندهم، وهو في الحقيقة ناقض لقولهم السَّابق بتقدير طول النهار الخارج عن المعتاد بثماني عشرةَ ساعة، لأنَّ أقصى مدَّةٍ لنهارها لا تزيد على خمس عشرة ساعة، وهي أمُّ القرى، وموطن نزول الوحي، والمواقيت فيها في غاية الاعتدال، فهل يجرؤ القائلون بهذا القول على تحديد النَّهار الطويل بما زاد على (15) ساعة؟!
4- أنَّ الأخذ بهذا القول سيكون سببًا لإدخالِ الخلل والاضطراب في العمل بركنٍ من أركان الإسلام في هذه البلاد؛ إذ لا يخفى تفرُّق المسلمين على مذاهب وفرق شتَّى، وجماعات متنافرة، فيُقدِّر كل طائفةٍ لوقت فطرها قبل الغروب حدًّا معينًا؛ فيصير دينهم أُلعوبةً، وحالهم أُضحوكةً، وتذهب هيبةُ هذه العبادة العظيمة، والشهر المعظَّم من قلوبهم، وتزيد الفرقة والتنافر بينهم. ولا شكَّ أنَّ من أعظم أسباب الفُرقة والشِّقاق ترك الصَّحيح الصَّريح المحْكَم من أحكام الدِّين، والأخذ بالمتشابهات والشبهات والاحتمالات القابلة للأخذ والردِّ حسب رأي كلِّ ذي رأيٍ وهواه.
5- أنَّ الذين أفتوا بالقول الأول ـ أعني: وجوب الصيام مهما طال النهار، طالما تمايز الليلُ والنهار بغروب الشمس وشروقها، ومَنْ وجد مشقَّة يُفطر ويقضي ـ هم عامَّة أهل العلم والفقه في هذا العصر، وفيهم أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، كالثلاثة الأعلام: ابن باز وابن عثيمين والألباني [سلسلة الهدى والنور، رقم: 109، المقطع: 18]، ووافقهم من علماء الأزهر من عُرف بالعلم والفضل والاستقامة كالشيخ العلامة حسنين محمد مخلوف رحمه الله، وبه صدرت الفتاوى عن المجامع الفقهية ومجالس الفتاوى المعتبرة.
أما القول الآخرُ الشاذُّ المنكرُ: فأكثر من قال به في هذا العصر ـ جُلُّهم لا كلُّهم ـ مطعونٌ في علمه وأمانته واستقامته، أوَّلهم الشيخ محمد عبده، وآخرهم: الدكتور علي جمعة؛ فلا حجَّة فيهم، ولا كرامة، ولا يليق بالمسلم الذي يبتغي الدار الآخرة، ويعظِّمُ شعائر الله تعالى أن يقلِّدهم دينَه، ويتَّخذهم أسوةً ومرجعًا في الفتوى.
أسأل الله تعالى أن يُرينا الحقَّ حقًّا ويرزقنا اتِّباعه، ويرينا الباطلَ باطلًا ويرزقنا اجتنابه، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه: عبد الحق بن ملا حقي التركماني
ليلة الثلاثين من شهر شعبان (1435)
www.turkmani.com
للتحميل (بي دي اف):
http://turkmani.com/files/butlan_iftar_qabl_ghoroub.pdf