بين التكفيري عباس الباقر وآخرين … (1)
الأولى : التفريق بين (السلفيين) و(التكفيريين)
بقلم : د.عارف عوض الركابي
أحداث الدندر وما كشف بشأنها من أخبار وما كتب ويكتب عن منهج التكفير ودعاته ، رأيت بسببها أن من المناسب أن أدلي بدلوي في ذلك في حلقات ثلاث ، عنوانها رأيت ربطه بالتكفيري عباس الباقر والذي سيكون تناوله في الحلقات الثلاثة بإذن الله بتناول جزئيات مما ورد في قصته وفكره ، وما كتبه وسطره قبل أن يقدم على مجزرته وتبرئة أناس من فكره ، وربط فكره بآخرين ينظرون على وفق تنظيره !!!! فأقول :
إن باب “التكفير ” من الأبواب التي زلت فيها أقدام كثيرة ، وقد كانت فتنة الخوارج من الفتن الكبيرة التي برزت في التاريخ الإسلامي ، وقد اعتنى علماء الإسلام بهذا الباب عناية فائقة فصنفوا وجمعوا فيه النصوص الشرعية ، وبيَّنوا منهج الخوارج وطريقتهم وناقشوا شبهاتهم ، وناظروهم بالأدلة والبراهين ، والحجج القوية ، فاستبان سبيل المؤمنين ، وانكشف سبيل المارقين .. ومع وضوح الأمر وجلائه إلا أن المتتبع لكثير من التصرفات والمقالات المنشورة في هذا الباب المهم والخطير يرى تخبطاً في فهم مهمات هذا الباب ، ويقف على قلة إدراك وربما (تشويش) لدى كثير من الذين صدّروا أنفسهم للحديث في هذه القضية.
وكما يجب إظهار أصول ومهمات ضوابط هذا الباب حتى لا يزداد مذهب التكفيريين أتباع الخوارج في الانتشار فيجب كذلك ضبط مصطلح (تكفيري) التي أصبحت تهمة جاهزة ووصفاً يستخدم آناء الليل وأطراف النهار وبكل يسر وسهولة ويرمى بها كثيرون من خالفوهم.
في هذا المقال ألقي الضوء (بإجمال) على بعض المهمات في هذا الباب ، وتفاصيلها في المصادر التي عنيت بذلك :
*إن الحكم على أي عمل سواء كان يتعلق بالاعتقاد أو الأقوال أو أعمال الجوارح بأنه (كفر) أو (ليس بكفر) هذا لابد فيه من دليل شرعي ، ولا مجال للاجتهاد والاستنباط في هذا الباب ، فلا بد من دليل من الكتاب أو السنة في ذلك ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في “منهاج السنة” :”إن الكفر والفسق أحكام شرعية ، ليس ذلك من الأحكام التي يستقل بها العقل ، فالكافر من جعله الله ورسوله كافراً ، والفاسق من جعله الله ورسوله فاسقاً ، كما أن المؤمن والمسلم من جعله الله ورسوله مؤمناً ومسلماً”أ.هـ.
*يقال للفعل أو القول “كفر” ، ولا يقال للفاعل إنه “كافر” إلا بعد :تحقق الشروط وانتفاء الموانع ، فإن من قام به عمل مكفر من (الأفراد المعينين) فهذا لا يستلزم تكفيره عيناً ولا يحكم بكفره حتى تقام عليه الحجة.
فإن الله تعالى لا يعذب من لقيه بكفر أو ذنب حتى تقوم عليه الحجة التي بها يستحق العذاب ، قال الله تعالى : (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً) ، يقول الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية : “إخبار عن عدله تعالى ، وأنه لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة بإرسال الرسول إليه”أ.هـ.
والأدلة من السنة في ذلك كثيرة جداً ، وهو أمر في غاية الوضوح ، وفي كثير من الأحيان تجد أنّ أناساً يخطئون ، فإذا قال شخصٌ عن فعلٍ أو قولٍ : (هذا كفر) ، فيفهمون (بخطأ أنفسهم) أن هذا القول من هذا القائل يعني تكفيره ، (وهو خطأ كبير) ، فإن الشخص قد يقع فيما يكون فعله كفراً لكنه لا يحكم بتكفيره ، يقول الشيخ ابن عثيمين : “وبهذا يعلم أن المقالة أو الفعلة قد تكون كفراً أو فسقاً ولا يلزم من ذلك أن يكون القائم بها كافراً أو فاسقاً ، إما لانتفاء شرط التكفير أو التفسيق ، أو وجود مانع شرعي يمنع منه”. وهذه من مهمات هذا الباب.
*اشترط العلماء للحكم بالتكفير شروطاً هي : (أن يكون الشخص المعين بالغاً عاقلاً) ، فإن القلم مرفوع عن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصغير حتى يكبر ، وعن المجنون حتى يعقل. (وأن يقع منه الكفر على وجه الاختيار) ، فإن المكره لا يحكم بكفره إذا تحققت شروط الإكراه المعتبرة عند العلماء.(وأن تبلغه الحجة التي يكفر بخلافها). (وأن لا يكون متأوِّلاً) ، وقد قال الله تعالى : (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا).
وهذه الشروط فيها تفاصيل كثيرة ومهمة ، وليس مجال بسط ذلك مثل هذا المقال.
*قضايا التكفير لا يحق لغير العلماء الراسخين أن يدخلوا فيها ، فكما أنه يشترط في من يفتي الناس في الأحكام الشرعية شروط معتبرة من ناحية علمه وأهليته وتحققه بشروط الإفتاء والاجتهاد ، فكذلك في مسألة الحكم بالتكفير ، فإنه لا يتكلم فيها إلا من رسخت أقدامهم في العلم ، ، فلا يجوز أن يتكلم فيه من ليس عنده علم ومعرفة وبصيرة ولا يحكم بالكفر إلا على من كفره الله ورسوله لارتكابه (ناقضاً من نواقض الإسلام) المجمع عليها بين أهل العلم ومن ثم يجب على المسلم أن يتعلم قبل أن يتكلم وأن لا يتكلم إلا عن علم .. ويجب على المسلم أن يخاف الله عز وجل ، وأن لا يحكم بالردة أو بالكفر على أحد بدون روية وبدون تثبت وبدون علم … ، وهذا هو كلام أهل السنة والجماعة ومذهب أتباع السلف الصالح في كل زمان وفي كل مكان.
*قضية الحكم بغير ما أنزل الله من القضايا التي زلّت فيها أقدام كثيرة وتناقض وتخبط فيها كثيرون ، ومنهج السلف فيها فيه العلم والحكمة والسلامة ومع نشر وبيان الحقائق في ذلك إلا أنه لا يزال خوض كثيرين فيها بغير الحق ، وغُرّر بذلك كثير من الشباب.
*من ثمَّ يعرف أن هذا الباب من الأبواب التي ضبطت عند أهل السنة والجماعة بضوابط محكمة ، ومع ذلك فإن جماعات التكفير كانت ولا تزال تنتشر في أوساط المسلمين ، وقد وُجِدُوا والصحابة موجودون ، بل جاء زعيمهم (ذو الخويصرة) وطعن في قسمة النبي عليه الصلاة والسلام بحضرته ، وقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بخبره وأنه سيخرج من ضئضئه أقوام سفهاء الأحلام حدثاء الأسنان ، يقولون من قول خير البرية ويخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ، وقد جلَّى النبي عليه الصلاة والسلام للصحابة الكرام وللأمة من بعدهم أمر الخوارج ، ومواقفهم ومفاهيمهم ومناهجهم ، ولم يألُ جهداً الصحابة الكرام في مقارعتهم بالحجة والرد على شبهاتهم ، فناظرهم الصحابة وعلى رأسهم علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم ، وقد رجع منهم من وفقه الله ، وأصر منهم من لم يتجرد وينخلع عن هواه.
ولم ينسب أحدٌ عبر تأريخ الأمة الطويل الخوارج للصحابة ، كما لم يقل أحد إن الخوارج تأثروا في التكفير بتتلمذهم على الصحابة !! وفي هذا درس وعظة لمن أراد أن (يصطاد في الماء العكر) ، وينسب تصرفات جماعات التكفير للسلفيين زوراً وبهتاناً ، أو أن يحاول لي عنق الحقيقة ويبين أنهم تخرجوا في مدرستهم ، وهذا من الظلم الواضح والافتراء الماكر، أو من الجهل العميق ، فإن السلفيين هم أكثر الناس جهوداً في بيان وسطية أهل السنة والجماعة ، وفساد معتقد الخوارج وجماعات التكفير… وقد تصدى السلفيون للتكفيريين بالحجج العلمية والمناظرات ، على منهجهم العلمي بعيداً عن استخدام الأيدي وإطلاق التهم الجزاف ، والواقع خير شاهد وقد كان من نتائج ذلك مؤامرات التكفيريين ومحاولات انتقامهم من السلفيين ، ويكفي شاهداً مجزرة عباس الباقر بمسجد الجرافة التابع لجمعية الكتاب والسنة الخيرية ومجزرة الخليفي بمسجد الشيخ أبو زيد بالثورة… وغيرهما ، وأما المناظرات العلمية فهي موثقة ومدونة ، وكذا الكتب والرسائل التي تم ويتم توزيعها بين كل حين وآخر لمحاصرة الفكر التكفيري (علمياً) وتصحيح مفاهيم من يصطادوه .
*التكفيريون والشباب المتأثرون بحماسهم بمنهج التكفير بحاجة إلى مناقشة أفكارهم وردِّهم إلى الحق من أناس لهم ملكة علمية وتأهيل في هذا الجانب ، ولا بد من العناية بذلك ، كما أنه لا بد من العناية بكشف زيف الكتب والمصادر التي تزين منهج التكفيريين ، وتحذير الناس منها ، وهي لا تخفى ، وقد أُشبعت هذه الجزئية بدراسات متخصصة في الفترة المتأخرة.
وإن من القصور أن يقصر الغلو في التكفير لجماعة التكفير فقط ، فإن (الرافضة الشيعة) يكفرون كل الصحابة عدا ثلاثة أو أربعة !! ثم يكفرون من لم يرض بتكفير أبي بكر وعمر صاحبي ووزيري نبينا ورسولنا محمد عليه الصلاة والسلام ، وإنك لتعجب ممن يبرز نفسه محذراً من التكفير ومشفقاً على الواقعين فيه وفي ذات الوقت يمجد ويثني على الروافض !!! وكذلك المعتزلة يحكمون على أهل الكبائر من هذه الأمة بخلودهم في النار ويقولون هم في منزلة بين المنزلتين في الدنيا وكذلك بعض الجماعات تكفر علماء ومجددين في هذه الأمة بأعيانهم دون أن تبرز مستندات علمية لذلك ، فإن هؤلاء جميعاً ومعهم الخوارج قد تختلف وسائلهم وطرق تعبيرهم إلا أنهم يجتمعون في الغلو في باب التكفير ، وقد عصم الله أهل السنة والجماعة من ذلك ، فوفقهم للتمسك بالسنة والسير عليها يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في “منهاج السنة” : “والخوارج تكفر الجماعة ، وكذلك المعتزلة يكفرون من خالفهم ، وكذلك الرافضة ، ومن لم يكفر فسَّق وكذلك أكثر أهل الأهواء يبتدعون رأياً ويكفرون من خالفهم فيه ، وأهل السنة يتبعون الحق من ربهم الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يكفرون من خالفهم ، بل هم أعلم بالحق وأرحم بالخلق”.