بين التلون والثبات


الخطبة الأولى:

الحمد لله مصرف القلوب ، علام الغيوب، نَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا، وَنَشْكُرُهُ شُكْرًا مَزِيدًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ لَا مُضِلَّ لِمَنْ هَدَى، وَلَا هَادِيَ لِمَنْ أَضَلَّ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ إِمَامُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، وَسَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ أَجْمَعِينَ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ، وَسَلُوهُ الثَّبَاتَ عَلَى الدِّينِ، وَعُوذُوا بِهِ مِنَ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ؛ فَإِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ، وَلَا نَجَاةَ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا بِالثَّبَاتِ عَلَى الدِّينِ، وَلَا ثَبَاتَ إِلَّا لِمَنْ ثَبَّتَهُ اللَّهُ -تَعَالَى-: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) .

أمة الإسلام : إن من أجلّ نعم الله على العبد قدرًا، وأوجبها شكرًا،: الثبات وعدم التلون؛ إنها قضية عظيمة خصوصًا في عصر من سماته وقسماته تهييج الشهوات وبث الشبهات، فما كان معروفًا بالأمس صار عند البعض منكرًا، وما كان منكرًا صار معروفًا؛

مناداة بإسقاط الواجبات كَـلاَ تجب في المساجد الصلاة، واستهانة بالمحرمات، كَـلاَ بأس باختلاط الشباب بالفتيات، وسماع الأغنيات.

تهوين للطاعات، وتزهيد في القربات، وإغراء في

المحرمات، تلون وتقلب وتذبذب، حَوْرٌ بعد كَور، وضلال بعد هدى.

بالأمس يذمون تتبع الرخص وتمييع الدين، واليوم يتسابقون في هذا الميدان .

كم نرى اليوم من كان صالحا مستقيما تبدلت حاله فصار

ينكر ما كان يقره بالأمس ، عفيفا عما في أيدي الآخرين فأصبح ينازعها ، محافظا على صلواته بسننها فتدرج به الشيطان حتى لا تكاد تراه مع الجماعة إلا نزرا ، صان سمعه عن سماع ما يسخط ربه من غناء ونحوه حتى رأيناه في مجامعها حاضرا ، عف اللحية فتفلصت فلا ترى منها إلا شعيرات على استحياء ، وأمرأ محتشمة نازعة غطاء وجهها بدعوى الكبت ، وأخرى أسقطت حجاب مفاتنها تلك العباءة الفضفاضة بدعوى ثقل الأحمال وثالثة مطرزة ثوبها الأسود الذي بين حجم ثدييها ويديها بل وفخذيها وهي ترى أنها قد أكملت حجابها وسترت حياءها ، فيا ترى كيف تقلب تلك المفاهيم والأصول ؟!

كم هم أولئك المسمين بالدعاة الإسلاميين الذين كانوا بالأمس يعادون الرافضة ويحذرون منهم، واليوم يثنون عليهم ويسمونهم اخوان لهم ،ويعيبون على من يشدد عليهم، وأن تلتقط له صورة مع رأس من رؤوس الرفض ، ورابع يطالب بتدريسهم مناهجهم المليأة بسب الصحابة بل والكفر بالله ، هؤؤلاء طرف من رؤوس الدعوة الصحوية المزعومة ، ودونكم الطرف الآخر الذي لا منهى له ، فكيف يكون أولئك واضرابهم قدوة أو يدافع عنهم ، والله تعالى يقول 🙁 هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا )

إنها وأيم الله عقوبة لمن عصى الله وخالف أمره، فإن

أعظم العقوبات أن يموت قلب الإنسان، ولا يميز بين الحق والباطل، ويزين له الباطل قال تعالى (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) وقال: ( وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ) وقال: ( سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ )

قال ابن الجوزي : أعظم المعاقبة ألا يحس المعاقب بالعقوبة. و أشد من ذلك أن يقع السرور بما هو عقوبة ، ثم قال- وإني تدبرت أحوال أكثر العلماء و المتزهدين فرأيتهم في عقوبات لا يحسون بها ومعظمها من قبل طلبهم للرياسة .

عباد الله : ترى ذلك الممسوخ قلبه وهو لا يشعر جعل دينه

سخرية بالمجادلة والخصومة ، تندرا وتشدقا او تعالما يقول الفاروق عمر رضي الله عنه: (ما أخاف على هذه الأمة من مؤمن ينهاه إيمانه ولا من فاسق بين فسقه ولكني أخاف عليها رجلا قد قرأ القرآن حتى أزلفه بلسانه ثم تأوله على غير تأويله)

ولأجل هذا لا يوفق صاحب الهوى غالباً للتوبة، فإنه في الغالب يخرج من سوء إلى ما هو أسوأ منه كما نقله عن السلف أبي عمرو السيباني

وروى ابن وضاح عن عبد الله بن القاسم أنه قال : ما كان عبد على هوى فتركه إلا إلى ما هو شر منه . قال : فذكرت هذا الحديث لبعض أصحابنا ، فقال : تصديقه في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : ” يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية ، ثم لا يرجعون حتى يرجع السهم إلى فوقه ”

وروى عن أيوب قال : كان رجل يرى رأيًا فرجع عنه ، فأتيت

محمدًا فرحًا بذلك أخبره ، فقلت : أشعرت أن فلانًا ترك رأيه الذي كان يرى ؟ فقال : ” انظروا إلى ما يتحول ؛ إن آخر الحديث أشد عليهم من أوله ، يمرقون من الإسلام لا يعودون فيه ”

فما أقوى ما قاله المقداد -رضي الله عنه-: “لا أقول في رجل خيرا ولا شرّا حتى أنظر ما يختم له به بعد شيء سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-“، قيل ما سمعت؟ قال: “سمعته يقول: لقلب ابن آدم أشد انقلابا من القدر إذا استجمعت غليانًا”

نعوذ بالله من الحور بعد الكور ومن الضلال بعد الهدى .

وَأَقُولُ ما سمعتم وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ…

 

الخطبة الثانية:

الْحَمْدُ لِلَّهِ وحده ….

أَمَّا بَعْدُ: بوب البخاري في صحيحه: باب مقلب القلوب، وقول الله تعالى: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ) [الأنعام:110] عن ابن المبارك عن موسى بن عقبة عن سالم عن عبد الله قال: أكثر ما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحلف: “لا ومقلب القلوب”

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: دَلَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَصْحَابَهُ وَأُمَّتَهُ عَلَى الثَّبَاتِ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ، فَثَبَّتَ الْأَنْصَارُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- فِي حَيَاتِهِ عَنِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا مِنْ مَالٍ وِجَاهٍ، وَأَوْصَاهُمْ بِالثَّبَاتِ وَالصَّبْرِ بَعْدَ مَمَاتِهِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى حِرْصِهِ الشَّدِيدِ عَلَى ثَبَاتِ أُمَّتِهِ عَلَى الْحَقِّ مِنْ بَعْدِهِ، وَأَنْ لَا يَرْكَنُوا إِلَى الدُّنْيَا؛ فَإِنَّ فَسَادَ الدِّينِ فِي الرُّكُونِ إِلَيْهَا، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُثَبِتًا الْأَنْصَارَ: “إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً شَدِيدَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوُا اللَّهَ وَرَسُولَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الْحَوْضِ”(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ) .

وأمرهم بالبعد عن مواطن الفتن ،  فحَذَّرَ أُمَّتَهُ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ، وَأَمَرَ بِالْبُعْدِ عَنْهُ، وَهَذَا أَصْلٌ فِي الْبُعْدِ عَنْ كُلِّ فِتْنَةٍ؛ كَمَا فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “مَنْ سَمِعَ بِالدَّجَّالِ فَلْيَنْأَ عَنْهُ، فَوَاللَّهِ إِنَّ الرَّجُلَ لَيَأْتِيهِ وَهُوَ يَحْسِبُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ فَيَتَّبِعُهُ، مِمَّا يَبْعَثُ بِهِ مِنَ الشُّبُهَاتِ”(رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ).

وبين ربنا أن الرجوع إلى علماء السنة الراسخين ، ولزوم مجالسهم والسير على خُطاهم، واستفتاؤهم في كل ما يطرأ علينا، وخاصة في الحوادث والوقائع المستجَدَّة من سمات المباعدين عن الفتن ، بخلاف من يتعلق بأهداب دعاة ثوريين ووعاظ جهلاء ، قال تعالى: ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ﴾

وأن يكون دائما عَلَى نَفْسِهِ خائف الْفِتْنَةَ فِي الدِّينِ، وَمُرِيدُ الثَّبَاتَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ؛ وأَنْ يُغْلِقَ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَقَلْبَهُ عَنِ الشُّبُهَاتِ، وَأَنْ يُفَارِقَ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ، وَأَنْ يَلْزَمَ السُّنَّةَ، وَأَنْ يُدْمِنَ قِرَاءَةَ السِّيرَةِ؛ فَفِيهَا مَوَاقِفُ كَثِيرَةٌ مِنْ ثَبَاتِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَتَثْبِيتِهِ لِأَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ-، وَلَقَدْ ثَبَتُوا أَمَامَ الْفِتَنِ الْعَظِيمَةِ حِينَ عَمِلُوا بِوَصَايَاهُ، وَأَخَذُوا بِأَوَامِرِهِ.

 

 

 


شارك المحتوى:
0