الحمد لله الذي خلق كل شيء فقدره تقديراً ، أحمده تعالى وأشكره ، وأتوب إليه وأستغفره ، يغني فقيراً ، وييسر عسيراً ، وكفى بالله نصيراً ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله ، بعثه بالحق بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً ، وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً ، فصلوات ربي وبركاته عليه ، وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً . أما بعــد :
فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله ، فمن رام خيراً غفيراً ، ورزقاً وفيراً ؛ فعليه بتقوى الله .( يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور )
معاشر المؤمنين : مع نهاية عامنا الهجري ، وفي كل يوم تصبحنا المآسي وتمسينا, وتمر بنا المكدرات أو تحل بوادينا, في بلاد الشام حيث البلاء قد طال, والقتل والحصار ما زال, حَلَبَ تُحْرَقُ وَيُبَادُ أَهْلُهَا بِأَيْدِي الْبَاطِنِيِّينَ، وَبِمُوَافَقَةِ وَمُؤَازَرَةِ الْكَافِرِينَ ، وفي العراق حيث الدم سيال والدمع رقراق, في اليمن وليبيا , وفي فلسطين, وبورما, في سلسلة من رقعة بلاد المسلمين ، فقدوا أمنا ، وأريقت لهم دما ، وشردوا من بلادهم بلا سكن ولا مأوى .
ومع تلك المصائب فقد كانَ من هدْيِ النّبيّ في الشدائد التبشيرُ والتّشجيع وضربُ المثلِ بالسباقين إشارةً إلى سنّة الله تعالى في خلقه ، قال خباب بن الأرت : شكونا إلى رسول الله وهو متوسد بردة له، في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ إن خباباً ومن معه قد أقضهم حينها واقع الأمة, وأقلقهم شدائدها , فطلبوا منه ; أن يدعو لهم, فقال: قد كان من قبلكم، يؤخذ الرجل، فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون» .
وبعد أن هاجر وقويت دولته يحاربه قومه فيشج ويسيل الدم من وجهه وتكسر ثنيته ويقتل أصحابه بين يديه ، وتجمع قبائل الجزيرة جموعها لغزوه وتحدق به على جنبات المدينة ، وهو في هذه الحال قد ربط بطنه بحجر من شدة الجوع فلم يجد ما يأكله متفائل بربه ، فيبشر أصحابه بما وراء الجزيرة العراق والشام ، بربك أي قلب هذا ،كان مع الله فكان الله معه ،أما المنافقون والمرجفون فينخرون الصف بشقاشقهم : ألا تعجبون من محمد يعدنا أن نطوف بالبيت العتيق وأن نقسم كنوز فارس والروم ونحن هاهنا لا يأمن أحدنا أن يذهب الغائط، والله لما يعدنا إلا غروراً ،فيخبرَ الله عنهم:{هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ}
فالنعم لا تدوم ، والمصائب تغدو وتروح
وإن من نعمة الله علينا في هذه البلاد أن جعلنا لحمة واحدة مع ولاة أمرنا، فاجتمعت كلمتنا ، يوم تشتت جموع من حولنا فهبت عليها عواصف المظاهرات وتوقدت بنيران الثورات ، ولم يفرّق أمرنا تيارات وافدة، ولم يستغفلنا مستغل بغلاء رغيف ، ولا يهز ثقتنا بولاتنا عبث عابث ، وإن وجد فهو نادر بل شاذ ، ومن ذلك تحريش من رق دينه عوضا لدنياه ،تحريشه بيننا بمصيبة دنيوية كانت في خصوم مرتبات قبل ايام، فأخذ يحلل هذا النقص وما ينتج عنه ، وصار يرسل رسائل السخرية على ذلك ، لكن لنقف مع هذا وقفات :
الأولى : أن هذه مصيبة والمصائب كفارات،أفلا نحتسب أجرها ، يقول المولى جل وعلا ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ) وهي أمر مقدر لاينفع معه تحسر او ندم .
وما من شدة إلا سيأتي لها من بعد شدتها رخاء
الثانية : أنه لا يكون بلاء الا بما كسبت أيدي الناس ( وما ربك بظلام للعبيد )يقول جل وعلا :(ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس )
ومن ذلكم ما شاع في السنين الأخيرة من بذخ وإسراف في نعم الله تعالى وقلة من ينصح في ذلك ، قال تعالى :
( وإذا أردنا أن نهلك قريةً أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً )
وكذاانتشار بعض المعاصي واستمراء الناس لها حتى أنه قلّ المنكرون لهذه المنكرات .
الثالثة من الوقفات : ضعف التوكل على الله )وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ۚ
كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ )
الرابع :أننا لا زلنا نعيش في نعم عظيمة تحتاج لشكر ، وفي مقدمتها نعمة الجماعة «من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه، فإن من فارق الجماعة قيد شبر، فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه» رواه البخاري وصح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: “قظم الملح في الجماعة، أحب إلي من أكل الفالوذج – أي الحلوى – في الفرقة”
ونعمة إقامة التوحيد والسنة في هذه البلاد ، إضافة إلى نعم كثيرة لا نحصيها ويحسدنا عليها الكثيرون ، ولا نغفل عن قوله تعالى 🙁 وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ) فالزيادة مربوطة بالشكر فلا تنتظر الزيادة وأنت تولول ولم تشكر فكيف وأنت تتهكم بنعمه سبحانه .
أسأل الله أن يديم علينا نعمة الأمن والرخاء والاجتماع
وأن يكفينا شر كل ذي شر إنه قوي عزيز.
بارك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفَعنا وإيّاكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم .
الخطبة الثانية :
الحمد لله معز من أطاعه واتقاه ومذل من خالف أمره وعصاه وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي اصطفاه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن والاه ، أما بعد
ومن الوقفات عباد الله وهي :
الخامسة : قوله عليه الصلاة والسلام : ” من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره و جعل فقره بين عينيه و لم يأته من الدنيا إلا ما كتب له ، و من كانت الآخرة نيته جمع الله له أمره و جعل غناه في قلبه و أتته الدنيا و هي راغمة “
صححه الألباني .
السادسة : في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال “ثلاثة لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم .. ثم قال ” ورجل بايع إماماً لا يبايعه إلا لدنياه فإن أعطاه منها رضي وإن لم يعطه منها سخط”.
فهذا الحديث فيه وعيد شديد لمن يربط رضاه عن ولي الأمر وسخطه عليه والوفاء ببيعته أو نكثها بمصلحته المالية المادية .
وإذا كان هذا الوعيد في حق من سخط فقط فكيف بوعيد من يضم إلى السخط الإثارة والتشغيب والتهييج ونشر المساوئ وكتم المحاسن .
فليست علاقتنا بولاة أمورنا دنيا – لا – من كان ذلك همه فقد خاب وخسر .
فعند الشدائد يظهر صدق الإتباع لسنة المصطفى من ولد
عدنان(من كانت بيعته لله ورسوله ومن كانت بيعته لدنيا يصيبها ومطامع يحصلها)وشتان بين الاثنين!
(تعس عبد الخميصة تعس عبد الخميلة إن أعطى رضى وإن لم يعط سخط تعس )
السابعة : قال الشيخ صالح الفوزان : أهل السنة والجماعة يحرصون على طاعة ولاة أمور المسلمين وعلى تحبيبهم للناس وعلى جمع الكلمة )
فإثارة هذه الأمور وجعلها في قالب ديني مما يوجب الطعن في الحاكم ويثير العامة ضده .
ولهذا ذكر الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : أن بداية الخروج على الحاكم بالقدح فيه ، وستر محاسنه، ومن ثم تمتلئ القلوب غيظًا وحقدًا، وحينئِذٍ يحصل البلاء )
وثبت عن أنس بن مالك – رضي الله عنه -،أنه قال :
( نهانا كبراؤنا من أصحاب رسول الله r أن لا تسبوا
أمراءكم، ولا تغشوهم، ولا تعصوهم ،واصبروا ،واتقوا
الله – عز وجل -، فإن الأمر قريب )
وعن أبي الدرداء – رضي الله عنه – أنه قال : ( إن أول
نفاق المرء طعنه على إمامه ).
وعن أبي إسحاق السبيعي أنه قال : ( ما سب قوم أميرهم ، إلا حرموا خيره ).
وعن أبي مجلز وبنحوه عن أبي إدريس الخولاني ، قال :سب الإمام الحالقة لا أقول : حالقة الشعر، ولكن حالقة الدين ).
وأخيرا : لا يكونَ المسلم مِعوَل هدمٍ لإيقاع الفتنة في بلادِ المسلمين من حيث يشعُر أو لا يشعر، بنشر الشائعات والأراجيف ، فإنَّ مصلحةَ العدوِّ المتربِّص أن يرى الفتنَ في بلاد المسلمين قائمة، وأن يشتغل بعضُهم ببعض، وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ ٱلأمْنِ أَوِ ٱلْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُوْلِى ٱلأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ
فإِنَّ النَّارَ بالعُودَيْنِ تُذْكَى … وإِنَّ الحرب أَولُها كَلام
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمدٍ صاحبِ الوجهِ
الأنوَر، والجَبين الأزهَر .
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشركَ والمشركين، اللهم انصُر دينَكَ وكتابَكَ وسُنَّةَ نبيِّك وعبادَكَ المؤمنين.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدَّيْنَ عن المَدينين، واشفِ مرضانا ومرضَى المُسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، اللهم
وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلِح له بِطانتَه يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم انصُر إخواننا المُستضعَفين في دينِهم في سائر الأوطان، اللهم انصُرهم على من بغى عليهم، اللهم كُن لإخواننا في سُوريا،اللهم عليك بعدوِّك وعدوِّهم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم انصُر إخواننا المرابطين على ثغور بلاد الحرمين، اللهم اجعَل شأنَ عدِّهم في سِفال، وأمرضه في وبَال يا ذا الجلال والإكرام.
سبحان ربِّنا رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلي وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.