الحمدُ للهِ ربِّ العالَمين ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أشرفِ الأنبياءِ والمُرسَلين ، وعلى آلهِ وصَحبهِ والتَّابعين ، أمَّا بعدُ ، فإنَّ المشهورَ عنِ الفِرقةِ الأشعرِيَّةِ أنَّها جمعتْ بين المُتناقضاتِ ، فيَعتقدونَ الأمرَ ويَقَعُونَ في ضِدِّهِ ، ويُنكِرونَ على مُخالِفيهم بعينِ الأمرِ الذي هُم عليه .
وذلك لأنَّ الأشاعِرةَ هم معتزلةٌ بقالبٍ مَنسوبٍ إلى السُّنَّةِ وأهلِها ، وما خَرجوا إلَّا من رَحِمِ الاعتزالِ ، فلمَّا أرادوا الرَّدَّ على المعتزلةِ ، استخدموا نفسَ الأسلحةِ التي تعلَّموا الصَّيدَ بها ، لكنَّهم ما أَتقنوا الصَّنعةَ إِتقانَ مُعلِّميهِم ، وكانتِ المعتزلةُ أقلَّ تناقضًا منهم ، ونَصروا البدعةَ بالبدعةِ ، فلا للاعتزالِ كَسروا ، ولا للسُّنَّةِ نَصروا ، ولم يَرجِعوا إلَّا بِخُفَّيْ حُنَينٍ غيرَ صالحةٍ للمسح ( عندهم ) .
ولا أشبهَ بالمعاركِ بين الأشاعِرةِ والمعتزِلةِ من قولِ الرَّاجِزِ :
🔹 وما زلتُ أَقطعُ عَرضَ البلادِ
مِنَ المشرقينِ إلى المغربينِ
🔹 وأَدَّرِعُ الخوفَ تحتَ الرَّجا
وأستصحِبُ الجديَ والفَرقَدينِ
🔹 وأَطوي وأَنشُرُ ثَوبَ الهُمومِ
إلى أنْ رَجعتُ بخُفَّيْ حُنَينِ
🔹 إلى أنْ أكونَ على حالةٍ
مُقِلًّا مِن المالِ صِفرَ اليدَينِ
🔹 فَقيرَ الصَّديقِ غَنيَّ العدوِّ
قليلَ الجِداءِ عنِ الوالِدَينِ
💡 ولما غَلَتِ الأشعرِيَّةُ في تَحكيمِ العقلِ ، حتَّى صارَ مُتحكِّمًا في نُصوصِ الوحيِ ؛ كان جَزاؤُهم في ظُهورِ ضَعفِ عُقولِهم ، والجزاءُ من جِنسِ العملِ { ولو شاءَ اللهُ لأَعنتَكُم إنَّ اللهَ عزيزٌ حكيمٌ } .
وهذهِ إشاراتٌ في بيانِ بعضِ تَناقُضاتِهم :
🔸 فمِن تناقُضِهِم أنَّهم يُثبِتونَ بعضَ الصِّفاتِ الإلهيَّةِ ، كصِفةِ الحياةِ الثَّابتةِ للمخلوقِ ، ثمَّ يُؤوِّلونَ مَعنى بعضِ الصِّفاتِ الأُخرى بحُجَّةِ أنَّها ثابتةٌ للمَخلوقِ .
🔸 وكذلكَ يُثبِتونَ بعضَ الصِّفاتِ لَفظًا ، وعندَ التَّحقيقِ تَجدُهم نافينَ لهذهِ الصِّفاتِ ، أو يَجعلونها من المستحيلِ العقليِّ ، نحو إثباتِهم وُجودَ اللهِ ، لكن في غير مكانٍ ، ولا جهةٍ ، ولا اتِّصالٍ بالعالَمِ ، أوِ انفصالٍ عنهُ !
ونحو إثباتِهم رؤيةَ المؤمنينَ لربِّهم يومَ القيامةِ ، لكنَّها – عندهم – رُؤيةٌ من غيرِ مُقابَلَةٍ ، وإلى غيرِ جِهةٍ ! وغيرُ ذلكَ من الأغاليطِ .
وقد قيلَ : إنَّ الأشاعِرةَ إذا أَجملوا وافقوا أهلَ السُّنَّةِ ، وإذا فَصَّلوا وافقوا المعتزلة .
🔸 ومن تناقُضِهِم أنَّهم جَمعوا بينَ مَذهبَينِ لا يُمكنُ الجَمْعُ بينَهُما إلَّا على قاعدةِ : “عَنزة ولو طارتْ” ؛ فجَعلوا الأشعريَّ منهم مُخيَّرًا بينَ تأويلِ الصِّفاتِ الواردةِ في الكتابِ والسُّنَّةِ ، والذي تَرجعُ حقيقتُهُ إلى التَّعطيلِ ، أو يَعتاضَ عن هذا التَّأويلِ بتَفويضِ معاني الصِّفاتِ ، والَّذي تَرجعُ حقيقتُهُ إلى أنَّ اللهَ تعالى أخبرنا عن نفسِهِ بما لا نَعلمُ مَعناهُ ، فنَقرأُ آياتِ وأحاديثَ الصِّفاتِ كقراءَتِنا للحُروفِ المقطَّعةِ في القُرآنِ .
وقد سَرى هذا التَّناقضُ إلى مُتأخِّري الأشاعِرةِ معَ مُتقدِّميهم ، فتَجدُ الأوَّلينَ يُثبِتونَ الصِّفاتِ الخبريَّةَ المتعلِّقةَ بالإرادَةِ ، كالاستواءِ والنُّزولِ والمجيءِ ، والرِّضا والغضب … وتجدُ مُتأخري الأشاعِرةِ على النَّقيضِ من ذلكَ ، فلا يُثبِتونَ هذهِ الصِّفاتِ ؛ بل يَعُدُّون إثباتَها من تشبيهِ اللهِ بالمخلوقات .
🔸 ومن تناقُضِهِم أنَّ كِبارَ أئِمَّتِهِم مُتَّفقونَ على عدمِ صِحَّةِ إيمانِ المقلِّدِ ، وأنَّه يَجبُ عليه النَّظرُ في الأدلَّةِ العقليَّةِ لإثباتِ أصولِ العقائدِ ، بدءًا من إثباتِ وُجودِ اللهِ ، ولا يَصِحُّ إيمانُهُ إلَّا بذلكَ ، ثمَّ تجدُ المتأخِّرينَ منهم لا يَجرُؤونَ على نَصرِ قَولِ أئِمَّتِهم ، فيَحكُونَ خِلافًا في المسألةِ ، ويُرجِّحونَ قولًا آخرَ بالحكمِ على المقلِّدِ بالفُسوقِ دونَ الكُفر .
🔸 ومن تناقُضِهِم أنَّهم يدَّعُونَ انتسابَهم للصَّحابةِ والتَّابعينَ ، ثمَّ يتَّهِمونَهم في فَهمِهم لأهمِّ أبوابِ الدِّينِ أنَّه ورعٌ ناشئٌ عن قلَّةِ إحكامٍ للعلمِ ، فزعموا أنَّ مذهبَ السَّلَفِ أَسلمُ ، وأنَّ مذهبَ الخلَفِ أعلمُ وأحكمُ .
🔸 ومن تناقُضِهِم أنَّهم يَنسِبونَ أنفسَهم إلى أبي الحسنِ الأشعريِّ ، لكنَّهم لا يَدينونَ بما انتهى آخرُ أمرِهِ من الاعتقادِ ، فإنَّه رَجَعَ رُجوعًا عامًّا إلى مذهبِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ ، وأثبتَ جُملةً من الصِّفاتِ التي يَعتبرُ المنتسبونَ إليه – اليومَ – أنَّ إثباتُها من الكُفرِ باللهِ العظيم .
قال أبو الحسنِ الأشعريُّ رحمه الله : قولُنا الذي نَقولُ به ، ودِيانتُنا الَّتي نَدينُ بها : التَّمسُّكُ بكتابِ اللهِ ربِّنا عزَّ وجلَّ ، وبِسُنَّةِ نبيِّنا مُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، وما رُوِيَ عنِ السَّادةِ الصَّحابة والتَّابعينَ وأئمَّةِ الحديثِ ، ونحنُ بذلكَ مُعتصِمونَ ، وبما كان يقولُ به أبو عبدِ اللهِ أحمدُ بنُ مُحمَّدِ بنُ حَنبلٍ – نَضَّرَ اللهُ وَجهَهُ ، ورفعَ درجتهُ ، وأَجزلَ مَثوبتَهُ – قائلونَ ، ولِما خالفَ قولَهُ مُخالِفونَ .
[ الإبانة عن أصول الدِّيانة (٢٠) ]
وقال رحمه الله : بابٌ ذِكرُ ما أجمعَ عليه السَّلَفُ من الأصولِ : … أَجمعوا على أنَّه عزَّ وجلَّ يَسمعُ ويَرى ، وأنَّ له تعالى يَدَينِ مَبسوطتينِ ، وأنَّ الأرضَ جميعًا قَبضتُهُ يومَ القيامةِ ، والسَّماواتُ مَطويَّاتٌ بيَمينهِ … وأنَّ يَديهِ تعالى غيرُ نِعمتِهِ … وأَجمعوا على أنَّه عزَّ وجلَّ يَجيءُ يومَ القيامةِ والملَكُ صَفًّا صفًّا ؛ لِعرضِ الأممِ وحسابِها وعقابِها وثوابِها … وأنَّه عزَّ وجلَّ يَنزِلُ إلى السَّماءِ … وأنَّه تعالى فوقَ سماواتِهِ على عَرشِهِ دونَ أرضِهِ … وأَجمعوا على وَصْفِ اللهِ تعالى بجميعِ ما وصفَ به نفْسَهُ ، ووصَفَهُ به نبيُّهُ ﷺ ، مِن غيرِ اعتراضٍ فيهِ ، ولا تكييفٍ له ، وأنَّ الإيمانَ به واجبٌ ، وأنَّ تَرْكَ التَّكييفِ له لازِمٌ … وأَجمعوا على أنَّ المؤمنينَ يَرونَ اللهَ عزَّ وجلَّ يومَ القِيامةِ بأَعيُنِ وُجوهِهِم .
[ رسالة إلى أهل الثَّغر (١١٧-١٣٤) باختصار ]
💡 قالَ الحافظُ الذَّهبيُّ رحمهُ اللهُ : فلَوِ انتهى أصحابُنا المتكلِّمونَ إلى مقالةِ أبي الحسنِ – هذهِ – ولَزِموها لأحسَنوا ، ولكنَّهم خاضوا كَخوضِ حكماءِ الأوائلِ في الأشياءِ ، ومَشَوا خلفَ المنطقِ .
[ العلوُّ للعليِّ الغفار (٢٢٢) ]
🔸 ومِن تناقُضِهِم في نِسبتِهِم لأبي الحسنِ الأشعريِّ أنَّهمُ اضْطَربوا في نسبةِ كتابِ “الإبانةِ عن أصولِ الدِّيانة” أشهرِ كتابٍ لأبي الحسنِ ، فمنهم من يشكِّكُ في نِسبةِ الكتاب إليه ، بل يَجزمُ أنَّ الكتابَ مَنحولٌ عليه ، ومنهم مَن زعمَ أنَّه تراجعَ عنِ الكتابِ ، ومنهم مَنِ اتَّهمَ إمامَ مذهبِهِ بالخَوَرِ والمداهَنةِ ، فزعمَ أنَّ أبا الحسنِ ألَّفهُ تَقيَّةً من الحنابلةِ ، أو لِيتدرَّجَ في دَعوتِهم للأشعريَّة ! وجميعُ ذلكَ مِن غيرِ بيِّنةٍ يُصدِّقُها العقلُ الَّذي تُعظِّمُهُ الأشاعرةُ .
💡 ولسان حالِ الأشاعِرةِ اليومَ يقولُ : قد عجَزَتْ خَمسٌ وتسعونَ في المئةِ من “أهل السُّنَّةِ والجماعة” من حفظِ كتابِ إمامِ مَذهبِهم ، وناصِرِ عقيدتِهم .
ويكفي في إثباتِ نسبةِ كتابِ الإبانة للأشعريِّ ، إثباتُهُ له من قِبَلِ حافظَينِ غيرِ مُتَّهَمَينِ في أبي الحسنِ :
قال الحافظُ البيهقيُّ رحمه الله : وقد ذَكر الشَّافعيُّ رحمه الله ما دلَّ على أنَّ ما نَتلوهُ من القُرآنِ بألسِنَتِنا ، ونسمعُهُ بآذانِنا ، ونكتبُهُ في مصاحِفِنا يُسمَّى كلامَ اللهِ عزَّ وجلَّ ، وأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ كلَّمَ به عِبادَهُ ؛ بأنْ أرسلَ به رسولَهُ صلى الله عليه وسلم ، وبمعناه ذَكَرهُ – أيضًا – عليُّ بنُ إسماعيلَ في كتابه “الإبانة” .
[ الاعتقاد للبيهقي (١٠٧) ]
وقال الحافظُ ابن عساكرٍ عن أبي الحسنِ الأشعريِّ رحمهما الله : ومَن وقفَ على كتابه المسمَّى بـ “الإبانة” ، عرفَ مَوضعَهُ من العِلم والدِّيانة .
[ تبيين كذب المفتري (٢٨) ]
وقال أيضًا : فاسمع ما ذكرهُ في أوَّلِ كتابهِ الَّذي سمَّـاهُ بـ “الإبانة” ، فإنَّه قالَ : … وأنَّ اللهَ استوى على عرشِهِ … وأنَّ له وَجهًا … وأنَّ له يدًا … وأنَّ له عينًا … ونقولُ إنَّ القُرآنَ كلامُ اللهِ غيرُ مَخلوقٍ ، وأنَّ مَن قالَ بخلقِ القُرآنِ كانَ كافرًا ، ونَدينُ أنَّ اللهَ يُرى بالأبصارِ يومَ القِيامةِ كما يُرى القمرُ ليلةَ البدرِ ، يراهُ المؤمنونَ … وأنَّ القُلوبَ بينَ أُصبعينِ من أصابعه … ونُصدِّقُ بجميعِ الرِّواياتِ الَّتي ثبَّتها أهلُ النَّقلِ ، من النُّزولِ إلى السَّماءِ الدُّنيا ، وأنَّ الرَّبَّ يقولُ : هل من سائلٍ ؟ هل من مُستغفرٍ ؟ وسائِرِ ما نَقلوهُ وأثبتوهُ ؛ خِلافًا لما قالَهُ أهلُ الزَّيغِ والتَّضليلِ .
[ تبيين كذب المفتري (١٥٢-١٦١) باختصار ]
🔸 ومن أعجبِ ما تَجدُهُ عندَ المُتأخِّرينَ من التَّناقُضِ الذي لا يُصدِّقُهُ عقلٌ ، كونُهم يَنسِبونَ أنفُسَهم إلى الأشاعِرةِ والصُّوفِيَّةِ في وقتٍ واحدٍ ، والأشعريَّةُ مَبنِيَّةٌ على إِعمالِ العُقولِ ، حتَّى صارتْ حاكمةً على الوحيِ ، والصُّوفيَّةُ مَبنِيَّةٌ على إِهمالِ العُقولِ ، حتَّى صارتْ أشبهَ بالسُّكارى والمجانينِ .
والحمدُ للهِ الذي عافانا ممَّا ابتلاهم به .
ولا غرابةَ في تَناقضاتِهِم إذا علمتَ أنَّ مَن خالفَ الكتابَ والسُّنَّةَ ، ومنهجَ سَلَفِ الأُمَّةِ ، فلا بُدَّ له منَ التَّناقُضِ والاختلافِ ، { ولو كانَ مِن عندِ غيرِ اللَّهِ لَوَجدوا فيه اختلافًا كثيرًا } .
قال البغويُّ رحمه الله : لأنَّ ما لا يكونُ مِن عندِ اللهِ لا يَخلو عن تناقُضٍ واختلافٍ .
[ تفسير البغوي (١/٦٦٧) ]
هذهِ جُملةٌ من تناقضاتِ القَومِ ، وما تَركتُ ذِكرَهُ – طلبًا للاختصارِ – أكثرُ ممَّا ذكرتُ ، واللهُ الهادي إلى سواءِ السَّبيل .
أسألُ اللهَ تعالى أن يُبَصِّرَنا في دِيننا ، وأن يرزُقنا الهدايةَ إليه ، والثَّباتَ عليه ، والتَّمسُّكَ به ، والذَّبَّ عنهُ ، وأن يَحشُرَنا معَ صالحِ أهلِهِ { من النَّبيِّينَ والصِّدِّيقينَ والشُّهداءِ والصَّالحينَ وحَسُنَ أولئكَ رَفيقا } ، وآخرُ دَعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالَمين .
أخوكم فراس الرفاعيّ
٩ شعبان ١٤٤٥هـ