بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فإنَّ الدعوة إلى التعصب الفقهي المذهبي بلباس التحقيق والتأصيل دعوةٌ بدعية قد توارد العلماء المحققون على ذمها وبيان ضلالها بل قد وصفها ابن القيم بأنها من بدع القرن الرابع، ومن أولئك العلماء الذين ذموا التعصب ابنُ عبد البر في كتابه (جامع بيان العلم وفضله)، وابن تيمية كما في مواضع كثيرة من مجموع الفتاوى وابن القيم في كتابه (أعلام الموقعين) وأطال النفس كثيرًا، وابن أبي العز الحنفي في كتابه (الاتباع)، وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في رسالةٍ كتبها لعبد الله بن محمد بن عبد اللطيف، وفي الأصل السادس من (الأصول الستة)، والعلامة حمد بن معمر في رسالة الاجتهاد والتقليد، والعلامة محمد أمين الشنقيطي في كتابه (الأضواء) عند تفسير قوله تعالى: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد: 24] وغيرهم كثير وكثيرٌ جدًّا.
فيجب الحذر من دعاة التعصب المذهبي، والاجتهاد في تخليص النشء والشباب منهم فكم سقط في شباكهم من شباب، وكم اغتر بزخرف قولهم من طلاب، وإن من نتاج دعوتهم من يسمون بالحنابلة الجدد ثم المالكية الجدد وهكذا…الذين جعلوا التعصب الفقهي المذهبي سلمًا لنشر البدع ووسائل الشرك بل والشرك الأكبر.
ودعاة التعصب المذهبي في أمرٍ مريج وتناقضٍ سميج، وذلك من أوجه:
الوجه الأول: أنهم يزعمون عدم الخروج عن المذهب الفقهي إلى قول أحد الصحابة أو التابعين أو الفقهاء بحُجَّة أنَّ أصحابه كتبوه بناءً على أدلة -وهذا حقٌ من حيث الجملة-وتناقضوا لأن من ترك مذهبهم لغيره من أقوال الصحابة أو التابعين أو الفقهاء سواء من المذاهب الأربعة أو غيرهم فهو انتقل من قول معتبر لإمام معتبر إلى قول معتبر آخر لأئمة معتبرين بنوه على أدلة معتبرة.
الوجه الثاني: أنهم عمليًّا لا يلتزمون المذهب الفقهي في عباداتهم وفتاويهم كلها، فهم يُشنِّعون على غيرهم ويفتحون الباب لأنفسهم.
الوجه الثالث: أنهم يدعون للمذهبية لأنها –بزعمهم-أضبط للعامة من اتباع الدليل وسؤال العالم الموثوق الذي يُفتي بالدليل، مع أنَّ الوصول للراجح في المسائل عن طريق الدليل أسهل بكثير من الوصول للراجح في المذهب الفقهي؛ لأنه لا ضابط له مطرد، ثم إن واجب العامي سؤال من يثق به.
الوجه الرابع: أنهم يعظمون مذهبهم ببيان عظمة إمام المذهب ومكانته مع أنهم في متونهم المعتمدة يقررون خلاف ما يقرره إمامهم قال العلامة حمد بن معمر-رحمه الله-في رسالة الاجتهاد والتقليد (ص91): “فهؤلاء في الحقيقة أتباع الحجاوي وابن النجار لا أتباع الإمام أحمد …”
الوجه الخامس: أنهم يمنعون من لديه آلة اجتهاد من الخروج عن المذهب سواء لأحد المذاهب الأربعة أو خارجها مع إقرارهم بالاجتهاد الجزئي الذي تُجوِّزه المذاهب الأربعة، والذي نتيجته جوازُ مُخالفة المذهب بالدليل وبضوابط الاجتهاد، ومنهم من يجوز ذلك لبعض المجتهدين لا كلهم فهم في ذلك مختلفون.
الوجه السادس: أنهم يمنعونَ الدارس أن يجتهد بحجُّة أنه غير مؤهَّل للاجتهاد، مع عدم سعيهم لتأهيل الدارس لدرجة الاجتهاد، وهذا واقع مرٌّ يعرف مرارته من ذهب عمره في الدراسة عندهم.
الوجه السابع: أنهم يمنعون الاجتهاد الذي يجيز الخروج عن المذاهب الأربعة أو عن مذهبه بحُجَّة عدم وجود المجتهد المطلق أو التشديد في شروط الاجتهاد المقيد، ويشترطون في الاجتهاد المطلق شروطًا لا تكاد توجد في أبي بكر وعمر، كما قاله شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى-، فلازم هذا ألَّا يكون أئمتهم المتبوعون مجتهدين؛ لأنَّ الشروط لم تتوافر فيهم.
وأختم هذا المقال بخمسة تنبيهات:
التنبيه الأول: أنَّ كثيرًا من دعاة المذهبية لم يدعوا إلى ذلك إلا لعجزهم عن تحقيق مسائل الفقه بالدليل، فارتضوا هذا المسلك السهل ليكونوا فقهاء بأسرع وأسهل طريق مزعوم، وصدق الفاروق عمر -رضي الله عنه- لما قال: ” إياكم وأصحاب الرأي؛ فإنهم أعداء السنن أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا ” رواه ابن عبد البر.
التنبيه الثاني: أنَّ الكلام في المذهبية يعتريه غلوٌّ وجفاء، فلا يصح أن يُسلك المسلك الظاهري في الفقه؛ لأنه مسلكٌ بدعيٌّ وخطأ من أوجه كما بيَّنه ابن القيم في كتابه (أعلام الموقعين) وبيَّنه غيره، وفي المقابل لا يصح أن يُحرَّم التمذهب مطلقًا وأن يُمنع من التفقه على المتون الفقهية، وإنما الوسط هو أن يُتفقَّه على هذه الكتب وأن تُجعل كالفهرس لمسائل العلم وألَّا يُتعصَّب لها ولا عليها، وإذا اقتضت المصلحة انتسب للمذهب ويكون شأن الدارس الدوران مع الدليل حيث دار، ويكون وظيفة معلمه تأهيله وتقوية ساعده للاجتهاد والنظر في الدليل.
التنبيه الثالث: مؤلفو الكتب المذهبية يكتبون بالنظر في الراجح في المذهب فإن كان مختصرًا على قول أثبت ما يراه راجحًا في المذهب لا راجحًا من حيث الدليل
فال ابن مودود الموصلي الحنفي في كتابه المختار “قد رغب إليَّ من وجب جوابه عليّ أن أجمع له مختصرا في الفقه على مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان – رضي الله عنه – وأرضاه – مقتصرا فيه على مذهبه، معتمدا فيه على فتواه، فجمعت له هذا المختصر كما طلبه وتوخاه“.
قال ابن عبد البر المالكي في كتابه الكافي في فقه أهل المدينة: “واعتمدت فيه على علم أهل المدينة وسلكت فيه مسلك مذهب الإمام أبي عبد الله مالك بن أنس رحمه الله“.
وقال الماوردي الشافعي في كتابه الإقناع: “هذا كتاب اختصرته من مذهب الشافعي رضي الله عنه تقريبا لعلمه وتسهيلا لتعلمه ليكون للعالم تذكرة“.
قال ابن قدامة الحنبلي في أول عمدة الفقه: ” فهذا كتاب في الفقه، اختصرته حسب الإمكان، واقتصرت فيه على قول واحد، ليكون عمدة لقارئه، فلا يلتبس الصواب عليه باختلاف الوجوه والروايات” أي في المذهب، وقال الحجاوي الحنبلي في أول الزاد: “فهذا مختصر في الفقه على قول واحد وهو الراجح في المذهب“.
وإن كان الكتاب مطولًا اجتهد في ذكر أدلة المذهب ولو لم يكن مقتنعًا بها من جهة الترجيح وصحة الدليل كابن قدامة في كتابه المغني؛ لذا إذا ذكر الأقوال الفقهية قال بعد ذلك: “ولنا” -أي الحنابلة – ومثل هذا صنيع ابن تيمية في شرح عمدة الفقه فإنه يدلل للمذهب لا لما يراه راجحًا، وهذا بخلاف فتاواه فإنه يذكر ما يراه راجحًا بالدليل؛ لذا لا يصح للعامي والمقلد أن يتعبد بما في هذه المتون المختصرة.
التنبيه الرابع: لا تنافي ولا تعارض بين الانتساب للمذهب –عند الحاجة-مع محاربة التعصب، والدعوة لاتباع الدليل ومخالفة المذهب لأجل الدليل في نظر المجتهد والذي هو فيه ما بين مصيب له أجران أو مخطئ له أجر واحد كما هو حال الجصاص وابن أبي العز الحنفي من الحنفية، وابن عبد البر من المالكية، والنووي من الشافعية، وابن تيمية وابن القيم وابن رجب من الحنابلة.
التنبيه الخامس: يسعى متعصبة المذاهب أن يضيقوا الاجتهاد ويصعبوه بالتشديد في شروطه تشديدًا لا دليل عليه إلا محاولة جعل الفقهاء مقلدة لئلا يحق لهم الخروج عن المذهب لدليل ظهر لهم فإذا أبى الفقيه إلا مخالفة المذهب لدليل شنعوا عليه بحجة أنه ليس مجتهدًا فلا يحق له الخروج عن المذهب ثم شددوا في شروط الاجتهاد ليعسروا الاجتهاد الجزئي، وقد رد على هذا ردًا مفيدًا العلامة محمد الأمين في كتابه أضواء البيان، وبين أن الاجتهاد تيسر كثيرًا وأنه سهل ليس صعبًا.
ومن أراد المزيد من الكلام على هذه المسألة فليُراجع ما يلي:
التعليق على رسالة (الإقليد في الأسماء والصفات والاجتهاد والتقليد) للعلامة الشنقيطي
https://www.islamancient.com/ar/?p=28556
شرح رسالة الاتباع لابن أبي العز الحنفي
https://www.islamancient.com/ar/?p=29885
التفقُّه بين الجمود المذهبي والانفلات الاجتهادي
https://www.islamancient.com/ar/?p=27828