ثُبوتُ رمضانَ بالرُّؤيةِ البَصَريَّة
الحمدُ للهِ وكَفى ، وصلَّى اللهُ وسلَّم على نبيِّنا المـُصطَفى ، وعلى آله وصَحبه ومَنْ لآثارِهُمُ اتَّبع واقْتَفى ٬ أمَّا بعدُ :
🔹 قال رسولُ اللهِ ﷺ : « إنَّا أُمَّــةٌ أَميَّــةٌ ، لا نكتُبُ ولا نَحسُبُ ، الشَّهرُ هكذا وهكذا »
[ متفق عليه (١٩١٣) (1080) ]
يعني مرَّةً تسعةً وعشرين ، ومرَّةً ثلاثين .
وإنَّ مِن يُسْرِ الإسلام وسماحتِهِ أنْ جعلَ الأحكامَ الشَّرعيَّـة تَثبُتُ بما لا كُلفةَ فيه ولا مَشقَّة ٬ ومِنْ ذلكَ إثباتُ حكمِ الصَّوم والفِطرِ ؛ فإنَّه يَثبتُ بالرُّؤيةِ البصريَّـة لا بحسابات أهلِ الفَلَكِ .
🔹 قال ﷺ : « صُوموا لرؤيتِهِ ، وأفطروا لرؤيته ؛ فإنْ غُمِّيَ عليكم الشَّهر فعدُّوا ثلاثين »
[ متفق عليه (1909) (1081) واللَّفظ لمسلم ]
🔹 وقال ﷺ : « لا تقدَّموا الشَّهرَ حتَّى تَروا الهلالَ ٬ أو تُكمِلوا العِدَّة ، ثمَّ صُوموا حتَّى تَروا الهِلالَ أو تُـكملوا العِدَّة »
[ صحيح التعليقات الحسان (3449) ]
💡 فتأمَّل كيف جعلَ النَّبيُّ ﷺ دخولَ حكم الصِّيام برُؤية الهلالِ ؛ وليسَ بولادة القَمَرِ كما يظنُّ أهلُ الحِسابِ الفَلكيِّ .
💡 وكيف جعلَ ﷺ وُجودَ المانعِ مِنْ غَيمٍ ونحوِه سببًا لإتمامِ ثلاثينَ يومًا ، ولو كانَ القَمر فوقَ الغُيومِ ٬ فتأمل .
فحُكم الصِّيام مُعلَّــقٌ بالرُّؤية البصريِّـة ٬ أو بإتمامِ عدَّةِ الشَّهر إذا تَعذَّرت الرُّؤيةُ ٬ وغيرُ ذلكَ استدراكٌ على صاحبِ الشَّريعة .
🔸 قال الحافظ ابن رجب رحمه الله : ‹ دينُنا لا يحتاجُ إلى حسابٍ ولا كتابٍ ، كما يفعلُهُ أهلُ الكِتابِ مِن ضبطِ عباداتِهم بمَسيرِ الشَّمسِ وحُسباناتها ، وأنَّ دِينَنا في ميقاتِ الصِّيام مُعلَّق بما يُرى بالبصر ؛ وهو رُؤيةُ الهِلالِ ، فإنْ غُمَّ أكملنا عِدَّةَ الشَّهر ، ولم نَحتجْ إلى حساب ›
[ فتح الباري لابن رجب (٢/٢٩٥) ]
🔸 وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله : ‹ فعلَّق الحكمَ بالصَّومِ وغيرِه بالرُّؤية ، لرفْعِ الحرجِ عنهم في معاناة حساب التَّسيير ، واستمرَّ الحكمُ في الصَّوم ، ولو حدَثَ بعدَهم مَنْ يَعرفُ ذلك ›
[ فتح الباري (٤/١٢٧) ]
🔸 وقال شيخُ الإسلام رحمه الله : ‹ ولهذا ما زالَ العلماءُ يَعدُّونَ مَنْ خرجَ إلى ذلك قد أدخلَ في دِين الإسلامِ ما ليسَ منهُ ›
[ الفتاوى (٢٢٥/١٧٣) ]
وقد نقلَ جَمع مِنْ أهلِ العِلم بالإجماعِ الإجماعَ على عَدم الاعتماد على حساباتِ أهلِ الفَلَكِ والتَّسيير .
🔸 قال أبو بكر الجصاص رحمه الله : ‹ فالقائلُ باعتبارِ مَنازلِ القَمرِ وحِسابِ المـُنجِّمينَ خارجٌ عن حكمِ الشَّريعةِ ، وليسَ هذا القولُ ممَّا يَسوغُ الاجتهادُ فيه ؛ لدِلالَةِ الكِتابِ ، ونَصِّ السُّنَّــةِ وإجماعِ الفُقهاء ›
[ أحكام القرآن للجصاص (1/245) ]
🔸 ونقل ابن رشد رحمه الله إجماع أهل الأصول على حمل المجمل : « فاقدروا له » على المفصل : « فعدُّوا ثلاثين »
[ انظر بداية المجتهد (2/47) ]
[ كما نقل الإجماع القرطبي في تفسيره (2/293) وشيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (25/133) ]
💡 فهذه الحساباتُ الفلكيَّـةُ كانتْ مَوجودةً قديمًا ؛ ومعَ ذلكَ لم يكنْ لحساباتِ أهلِها تأثيرٌ في أحكامِ الشَّريعةِ الإسلاميَّــةِ ؛ والقَولُ بغير ذلكَ فيه تَعطيلٌ لكثيرٍ مِنَ الأحكامِ الثَّابتة بالقُرآنِ والسُّنَّــةِ ؛ كالمواريثِ والعِدَّةِ وإثباتِ الأنسابِ ٬ وغير ذلك .
فالَّذي يَعتمدُ على هذه الحساباتِ لا يُعتدُّ بقَولِهِ ؛ ولا يَجبُ الصَّومُ والفِطرُ بناءً على حساباته .
🔸 وقد رَوى ابنُ نافعٍ عن مالك : ‹ في الامام لا يَصومُ لرُؤيةِ الهِلالِ ، ولا يُفطر لرُؤيتهِ ، وإنَّما يَصومُ ويُفطِرُ على الحساب ؛ إنَّه لا يُقتدى به ، ولا يُــتَّبع ›
تفسير القرطبي (٢/٢٩٣-٢٩٤)
ومن عجائبِ هذا الزَّمان أنْ تَرى أصواتَ أهلِ الفَلَكِ تَدعو المـُسلمينَ إلى الأخْذِ بقَولهم جَمعًا للكلمَةِ ، وعَدمِ التَّفرُّقِ .
فهلْ تَجتمعُ الكَلمةُ في مُخالفةِ النُّصوصِ الشَّرعيَّــةِ الثَّابتة ، وما أجمعَ عليه المـُسلمونَ ؟!
وهلْ حَصلَتْ الفُرقَةُ إلَّا بوجودِ هؤلاء المـُنجِّمين ؟!
وإنْ كانَ الاجتماعُ مطلوبًا شرعًا ؛ فأوَّلُ ما يُطلبُ منهُ هُو الاجتماعُ على عِبادَةِ اللهِ وحدَهُ لا شريكَ له ؛ وإقامةِ شريعتِهِ في أرضِه ٬ لا على حسابات جاليليو وأصحابِهِ !
وقد أثبتَ الواقع أنَّ أهلَ الحساب مُختلفين في حساباتهم غيرُ مُجتمعين عليها ، فصارت بعض البلاد الَّتي تَعتدُّ بالحساب تَصومُ في غير اليوم الَّذي تَصومُ فيه بلاد أخرى معَ أنها تعتدُّ بالحساب أيضًا .
💡 ولا شكَّ أنَّ حصولَ الاختلاف – في هذا – معَ مُوافقة الشَّرع ، خيرٌ مِنْ حُصول الاختلافِ معَ مُخالفةِ الشَّرع .
وخِتامًا ينبغي التَّنبيه إلى أنَّ صومَ رمضانَ والفِطْرَ من الأحكام العامَّة المـُتعلِّقة بجميع المسلمينَ ، فإذا قَضَتِ الجهاتُ الشَّرعيةُ المـُوكَلُ إليها إعلانَ بَدءِ الصَّوم أو انتهاءِهِ ؛ وسواءً كان ذلك برُؤيةِ الهلال ، أو بإكمالِ العِدَّة ثلاثينَ يومًا ؛ فلا عبرةَ وَقتئذٍ برُؤية الرَّجلِ للهلالَ بنَفْسِهِ ما لم تَعتدَّ هذه الجهةُ برُؤيته .
وأمَّا إذا كان أهلُ بلدٍ يَعتدُّونَ بالحساب الفلكيِّ ؛ فيكونُ المـُسلمُ واقعًا بين مَفسدتين لا محالةَ ؛ فيلزمُهُ أنْ يَعملَ بقاعدة المـَصالحِ والمـَفاسدِ الَّتي قامتْ عليها الشَّريعةُ ؛ فيدفعَ المـَـفسدةَ الكُبرى بالمفسدةِ الصُّغرى .
١) أمَّا المفسدةُ الأُولى (الصُّغرى) : مُخالفةُ طريقةِ الاعتداد لدخول الشَّهر والخروج منه ، وهي الرُّؤية البصريَّـة كما تقدَّم .
٢) وأمَّا المفسدةُ الثَّانيةُ (الكُبرى) : هي تفريقُ المـُسلمين ، وانقسامهُم في عبادتِهم وأعيادِهم في البلد الواحد ، زِيادةً على تفرُّقِهِم وانقسامِهم في البلاد الإسلاميَّـةِ .
ولا شكَّ أن هذا التَّفرُّقَ شرٌّ ومفسدةٌ عظيمةٌ ، وليسَ ببعيدٍ أنْ يَدخُلَ البيتَ الواحدَ ، وليسَ البلدَ الواحدَ فحسْبُ .
وبعضُ الشَّرِّ أهونُ من بعضٍ ؛ فينبغي على المـُسلمينَ في هذه الحالةِ أنْ يَجتمعوا في البلد الواحدِ ، ولو كانَ المـُعتَبرُ فيه هو الحسابَ الفلكيِّ .
🔹 وقد قال النَّبيُّ ﷺ : « الصَّومُ يومَ تَصومونَ ، والفِطر يومَ تُفطرونَ ، والأضحى يومَ تُضحُّونَ »
[ صحيح سنن الترمذي (697) ]
🔹 وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : ‹ قَضْمُ المِلحِ في الجماعة ، أحبُّ إليَّ مِنْ أنْ آكلَ الفالوذَجَ في الفُرقةِ ›
[ شعب الإيمان (7115) ]
أسألُ اللهَ تعالى أنْ يَرزُقنا الفِقْهَ في الدِّين ؛ وأنْ يَجعلنا ممَّن يَستمُعُ القولَ فيَتَّبعُ أحسَنهُ ؛ ونَعوذُ بالله مِنْ مُضلَّاتِ الفِتنِ ؛ وشُبُهاتِ أهلِها … والحمدُ للهِ أوَّلًا وآخرًا ، وظاهِرًا وباطِنًا …
أخوكم فراس الرفاعي
٢٩ شعبان ١٤٣٩هـ مع زيادات يسيرة بعد ذلك .