بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله -صلى الله عليه وسلم-.
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 21-22].
أما بعد:
فإنه لا أكرم ولا أرحم من الله الذي جعل أوائل سورة الفاتحة ذكر رحمته سبحانه لما قال: ﴿ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾ [الفاتحة: 2].
بل وجعل افتتاح السور كلها بقول: (بسم الله الرحمن الرحيم) بل وكتب على نفسه الرحمة، كما قال سبحانه: ﴿ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ﴾ [الأنعام: 54]، فلا أرحم ولا أكرم من الله .
أخرج الإمام مسلم عن سلمان الفارسي -رضي الله عنه- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض، فجعل منها في الأرض رحمة، فبها تعطف الوالدة على ولدها، والوحش والطير بعضها على بعض».
وأخرج البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما انتهى هو والصحابة من الغزو والمعركة، فإذا بامرأة تبحث ملهفة مشفقة خائفة عن صبيها وولدها.
يا ترى، أتجد صبيها حيًا أو ميتًا؟ سليمًا أو مُصابًا؟ أو قد لا تجده؟
فإذا بها قد أبصرت صبيها فأخذته وألقمته ثديها وأرضعته، والصحابة ينظرون إلى هذا المشهد العظيم، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟» قالوا: لا يا رسول الله.
فقال: «للهُ أرحم بنا من هذه المرأة بولدها».
إن رحمة الله عظيمة، وفضله كبير، ومن رحمته سبحانه أن العبد إذا فعل الحسنة ضُوعفت له، وإذا همَّ بها ولم يفعلها كتبت له حسنة، وإذا ترك السيئة لله كُتبت له حسنة.
قال سبحانه: ﴿ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ﴾ [الأنعام: 160].
أخرج البخاري ومسلم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بيَّن ذلك، فمن همَّ بحسنة ولم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همَّ بها فعملها كتبها عنده عشرة حسنات إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، وإن همَّ بسيئة فلم يعملها كتبها عنده حسنة كاملة، فإن همَّ بها فعملها كتبها سيئةً واحدة».
اللهم يا من لا إله إلا أنت إنا نسألك برحمتك التي وسعت كل شيء، وبرحمتك التي كتبتها على نفسك، أن ترحمنا يا أرحم الراحمين.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فإننا إذا تفكرنا في سعة رحمة الله وفضله وكرمه، أورث ذلك في نفوسنا أمورًا كثيرة منها:
أولًا/ إحسان الظن بالله، ليُحسن كل واحد منا ظنه بربه، وقد ذم الله المشركين بأنهم أساؤوا الظن به سبحانه، قال سبحانه: ﴿ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ ﴾ [الفتح: 6] ومن ذلك أن نوقن أن من ترك ما حرم اللهُ للهِ عوضه الله خيرًا منه.
ثانيًا/ الرضا بالله وأقداره وأنه سبحانه لم يُقدر لنا إلا خيرًا، علمه من علمه، وجهله من جهله كما قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 216] فبعض المسلمين إذا نزلت به المصائب اشتكى وناح، بل بعضهم زاد وتعدى قائلًا: (لماذا يا ربي تفعل بي كذا وكذا؟) !
والله وتالله وبالله، ما نزلت مصيبة في نفس أو ولد أو مال بمرض أو موت أو غير ذلك، إلا وهي من الرحمن الرحيم، وإن في هذه المصيبة خيرًا عظيمًا لو استحضرنا سعة رحمة الله، والرضا به وبأقداره.
قال سبحانه: ﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [الحديد: 22-23].
قال أبو بكر الطرطوشي: وقد قيل إن هذه الآية أسلى آية في كتاب الله.
ثالثًا/ المسابقة والمسارعة بفعل الطاعات لأن الرحمن الرحيم يقبلها ويضاعفها.
رابعًا/ الفزع إلى التوبة، وعدم اليأس لأن الرحمن الرحيم يفرح بتوبة عبده روى مسلم عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه، من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة، فاضطجع في ظلها، قد أيس من راحلته، فبينا هو كذلك إذا هو بها، قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح».
أيها المسلمون/ إياكم والاغترار والأمن من مكر الله، قال تعالى: ﴿ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [الأعراف: 99].
وإن من مكر الله أن يُقيم العبد على معصية الله، وهو يرجو مغفرة الله وثوابه، فاحذر مكر الله غاية الحذر، مع حسن الظن بالله، والمسابقة في فعل الطاعات، والتفكر في آلائه ونعمه، التي لا تُعد ولا تُحصى، واجعل قلبك ممتلئًا بالرضى عن الله الذي لا إله إلا هو سبحانه وتعالى.
اللهم اهدنا فيمن هديت ، وتولنا فيمن توليت،
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، واخز المشركين والرافضة،
اللهم أسبغ علينا رحماتك ، وأدخلنا جنانك.