حكم رفع التقارير للولاة – ردًّا على الأخ إبراهيم السكران
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن التعاون على البر والتقوى أمر محبوب عند الله تعالى، وقد يكون مستحبًا تارةً وقد يكون واجبًا تارةً أخرى، كل بحسب حاله، قال تعالى: (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبَرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ).
وقد أخطأ الأخ إبراهيم السكران -هدنا الله وإياه- في فهم حديث سأذكره فيما بعد، وللعلم؛ لا يكون الحديث معمولًا به إلا بشرطين: أن يكون صحيحًا، وأن يكون صالحًا للإستشهاد، أي: أن يكون الاستدلال في محله.
وإن إبلاغ المسؤولين أخبارَ المفسدين عمل مشروع، لا يؤجر عليه صاحبه إلا بنية صحيحة، فالعمل المقبول عند الله ما كان مشروعًا وخالصًا لله سبحانه وتعالى.
حتى إن الحجارة في آخر الزمان تبلغ المسلمين عن أماكن المجرمين، عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (تقاتلكم اليهود فتسلطون عليهم ثم يقول الحجر: يا مسلم هذا يهودي ورائي فاقتله). فانظر كيف قد تكون الحجارة ألين من قلوب كثير من البشر في حب الخير للغير.
وأيضًا بعض البهائم أفضل من كثير من البشر، فهذا الطائر الهدهد جاء إلى سليمان –عليه السلام- يخبره عما رأى من الشرك وأهله؛ كي يدعوهم إلى الإسلام ولعل الله يهديهم، قال تعالى عن الهدهد عندما جاء إلى سليمان: {فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ}، قال الطبري في تفسيره: (أحطت بعلم ما لم تحط به أنت يا سليمان).
فأبلغ الهدهدُ سليمانَ ما وجد من باب التعاون على البر والتقوى لإزالة المنكر. قال تعالى عن الهدهد: {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ}.
وهناك آثار كثيرة عن خير البرية بعد الأنبياء والمرسلين، وهم الصحابة الكرام -رضي الله عنهم أجمعين- في إبلاغ النبي -صلى الله عليه وسلم- عما يحصل من فساد أو من يريد الإفساد، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقرهم ولا يقول لهم بأن فعلهم غيبة أو نميمة، فعلى سبيل المثال:
روى الطبري في تفسيره عن ابن عمر، ومحمد بن كعب، وزيد بن أسلم، وقتادة، دخل حديث بعضهم في بعض: (أنه قال رجل في غزوة تبوك: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونًا، ولا أكذب ألسنًا، ولا أجبن عند اللقاء -يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه القراء-. فقال له عوف بن مالك: كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فذهب عوف إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليخبره فوجد القرآن قد سبقه، فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله؛ إنما كنا نخوض ونلعب ونتحدث حديث الركب نقطع به عنا الطريق. قال ابن عمر: كأني أنظر إليه متعلقًا بنسعة ناقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإن الحجارة لتنكب رجليه وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب. فيقول له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: {أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون ما يلتفت إليه وما يزيد عليه}).
قال العلامة سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- [توفي 1233هــ] في “تيسير العزيز الحميد” (ص٥٤٠): (قوله: “لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم”، فيه أن هذا وما أشبهه لا يكون غيبة ولا نميمة، بل هو من النصح لله ورسوله، فينبغي الفرق بين الغيبة والنميمة، وبين النصيحة لله ورسوله، فذكر أفعال المنافقين والفساق لولاة الأمور ليزجروهم ويقيموا عليهم أحكام الشريعة ليس من الغيبة والنميمة).
وقال العلامة عبد الرحمن بن قاسم -رحمه الله تعالى- [توفي سنة 1393 هــ] في “حاشيته على كتاب التوحيد” (ص٣٢٢) : (هذا ونحوه من النصيحة لله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وليس من النميمة في شيء، فذكر أفعال الفساق لولاة الأمور ليردعوهم، من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا من الغيبة والنميمة).
وقال العلامة صالح الفوزان -حفظه الله- في إعانة المستفيد (١٨٩/٢): (فقال عوف بن مالك: “كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم”، وهذا من إنكار المنكر، ومن النصيحة لولاة الأمور، فالمسلم يبلغهم مقالات المفسدين والمنافقين من أجل أن يأخذوا على أيدي هؤلاء؛ لئلا يخلوا بالأمن ويفرقوا الكلمة، فتبليغ ولاة أمور المسلمين كلمات المنافقين ودعاة السوء، الذين يريدون تفريق الكلمة، والتحريش بين المسلمين؛ هو من الإصلاح ومن النصيحة، لا من النميمة).
وأيضا عندما قال رأس المنافقين عبدالله بن أُبي بن سلول عن نبينا -صلى الله عليه وسلم-: (سمن كلبك يأكلك)، وقال: (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل). قال الطبري –رحمه الله- في تفسيره: (فسعى بها رجل من المسلمين إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأرسل إليه فسأله، فجعل يحلف بالله ما قال، فأنزل الله تبارك وتعالى: {يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر}).
وذكر الطبري في تفسيره بإسناده إلى الصحابي الجليل زين بن أرقم –رضي الله عنه- أنه لما سمع ابن أبي يقول: (ليخرجن الأعز منها الأذل) قال: (فأتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبرته).
وفي الصحيحين لما سمع ابن مسعود الرجل يقول: (ما أريد بهذه القسمة وجه الله. قال ابن مسعود: لأخبرن النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأتيته فأخبرته بما قال، فتغير وجهه حتى كان كالصرف، ثم قال: فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله؟ ثم قال: يرحم الله موسى، فقد أوذي بأكثر من هذا فصبر. فقلت: لا جرم لا أرفع إليه بعدها حديثا). انتهى الحديث.
تأمل معي أيها القارئ الكريم أن القائل هو صحابي، ومع ذلك فإن ابن مسعود -رضي الله عنه- بلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- ما قال.
وهنا لطيفة: قال العلامة ابن عثيمين -رحمه الله- في “شرح رياض الصالحين” (٢٥٦/١): (فإذا كان هذا قول رجل في صحابة النبي -عليه الصلاة والسلام- للنبي -صلى الله عليه وسلم- فلا تستغرب أن يقول الناس في عالم من العلماء: أن هذا العالم فيه كذا وفيه كذا ويصفونه بالعيوب).
فلا يلتفت لمن يطعن بالعلماء ويصفهم بأوصاف شنيعة وينبزهم بالألقاب، فقد قالوا عن العلماء الذين أجازوا الاستعانة بالكفار أنهم عملاء للغرب، وقيل عمن يفتي بوجوب الإبلاغ عن المجرمين بأنهم مباحث ويريدون النيل من الدعاة كي يسجنوهم ويعدموهم! وقد قيل في النبي -صلى الله عليه وسلم- أشد من ذلك، فقالوا عنه ساحر ومجنون وغير ذلك، بأبي هو وأمي –صلى الله عليه وسلم-.
وهذه أيضا نقولات عن كبار علماء هذا العصر في التحذير من السكوت عن المجرمين ووجوب تبليغ المسؤولين عنهم:
قال العلامة عبد العزيز بن باز –رحمه الله- في “مجموع الفتاوى” (٢٥٤/٩) متعقبًا على حادث التفجير الذي وقع في حي العليا بمدينة الرياض سنة ١٤١٦هـ: (وإني أوصي وأحرض كل من يعلم خبراً عن هؤلاء أن يبلغ الجهات المختصة، وعلى كل من علم عن أحوالهم وعلم عنهم أن يبلغ عنهم، لأن هذا باب من باب التعاون على دفع الإثم والعدوان، وعلى سلامة الناس من الشر والإثم والعدوان… إلى أن قال:
إذا كان من تعرض للناس بأخذ خمسة ريالات أو عشرة ريالات أو مائة ريال مفسدًا في الأرض، فكيف من يتعرض بسفك الدماء وإهلاك الحرث والنسل وظلم الناس؟).
وسئل العلامة صالح الفوزان في “الاجابات المهمة” (ص٦٩): (هل يجوز التستر على من أراد بالمسلمين أو بهذه البلاد شرا، والجهات الأمنية تلاحقه؛ لأننا سمعنا من بعض الناس أفتى بوجوب التستر عليهم وحرمة الدلالة عليهم؟
فأجاب: لا يجوز التستر على من يبيت شرا للمسلمين، بل يجب على من علم بحاله أن يخبر عنه حتى يسلم المسلمون من شره).
وقال: (فإذا كان هناك خلية فيها خطر على المسلمين وفيها شر على المسلمين فيجب إبلاغ ولاة الأمور عنهم ليأخذوا على أيديهم ويكفوا شرهم عن المسلمين).
وقال العلامة صالح اللحيدان –حفظه الله- في “جريدة الجزيرة” بتاريخ ١٣ ربيع الأول ١٤٢٤هـ العدد (١١١٨٥) نقلًا من كتاب “الفتاوى الشرعية في القضايا العصرية” (ص١٣٢) جمع وإعداد محمد بن فهد الحصين: (لا يعذر أحد وهو يعلم عمن لهم يد لهذه الأحداث إذا لم يبلغ؛ لأن حماية الدماء وصيانة الممتلكات وحراسة الأمن واجب على كل أحد، وإن اختلف الأحمال والأعباء, ومن قصّر فإنه مسئول عن تقصيره، ومن علم الخطر ولم يبلغ كأنما شارك في إهلاك الحرث والنسل وإزهاق الأرواح ونشر الخوف).
يقول الأخ إبراهيم السكران -غفر الله لي وله- في تغريدة له عبر تويتر: (تحذير الصحابة ممن يرفع التقارير والوشايات للولاة: في الصحيحين: جاء رجل، فقيل لحذيفة: هذا يرفع للسلطان أشياء. فقال قال النبي: لا يدخل الجنة نمام) انتهى كلامه.
وقد غلا غيره مثل المعدوم فارس آل شويل الذي أعدمته الحكومة السعودية حرسها الله بالتوحيد والسنة، فألف رسالة بعنوان “الباحث عن حكم قتل أفراد وضباط المباحث”.
وأخشى على من يدندن حول تحريم إبلاغ ولاة الأمور أخبار المخربين والمفسدين مطلقًا أن يكون متأثرا بهذا الفكر!
قال العلامة أحمد النجمي -رحمه الله- في شرح حديث (لعن الله من آوى محدثا): (ومن ذلك بدعة الخوارج الإرهابيين، الذين يسفكون الدماء، ويزهقون الأرواح ويتلفون الأموال، ويخيفون الآمنين، ويعصون الدولة، فمن أعان هؤلاء أو تستر عليهم أو التمس لهم العذر، فإنه قد آوى المحدثين، واستحق هذا الوعيد) [الشرح الموجز الممهد لتوحيد الخالق الممجد (ص٥٤)].
والرجال العاملون في المباحث والشرطة وغيرها من المؤسسات العسكرية كباقي البشر، يصيبون ويخطؤون، فعلى سبيل المثال: يصح ضرب المتهم الذي له سوابق، كما يحق للوالد ضرب ابنه، ولكن يحرم ضرب الوجه وما يؤدي إلى إتلاف أعضاء الجسم، وأيضًا يحرم معاقبة المجرم فوق ما يستحق لقول الله تعالى: {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}، ولقوله تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}.
والعسكريون على ثغر عظيم، فهم حماة الأوطان، ولولا الله ثم هؤلاء الجبال الصامدون لما أمنت لنا السبل، ولا يعرف الواحد فينا حق قدرهم حتى يعمل عملهم ويذوق ما يذوقون.
أقول: قد استدل الأخ إبراهيم السكران -وفقني الله وإياه لكل خير- ما روى البخاري ومسلم عن همام بن الحارث أنه قال: (كان رجل ينقل الحديث إلى الأمير، فكنا جلوسًا في المسجد، فقال القوم: هذا ممن ينقل الحديث إلى الأمير. قال: فجاء حتى جلس إلينا فقال حذيفة –رضي الله عنه-: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: لا يدخل الجنة قتات).
والجواب على هذا:
قال النووي –رحمه الله- في شرح هذا الحديث في شرحه على “صحيح مسلم” (١١٣/٢): (وكل هذا المذكور في النميمة إذا لم يكن فيها مصلحة شرعية، فإن دعت حاجة إليها فلا مانع منها، وذلك كما إذا أخبره بأن إنسانًا يريد الفتك به أو بأهله أو بماله أو أخبر الإمام أو من له ولاية بأن إنسانًا يفعل كذا ويسعى بما فيه مفسدة، ويجب على صاحب الولاية الكشف عن ذلك، وإزالته فكل هذا وما أشبهه ليس بحرام، وقد يكون بعضه واجبًا وبعضه مستحبًا على حسب المواطن، والله أعلم).
وقال السيوطي –رحمه الله- في شرحه على “صحيح مسلم: (١١٩/١): (والنميمة نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض على جهة الإفساد بينهم، فإن دعت إلى ذلك مصلحة شرعية لم تحرم).
هذه الخلاصة وباختصار شديد، ومن أراد الاستفصال أكثر فليراجع فتاوى علمائنا الكبار -رحم الله الأموات منهم وحفظ الله الأحياء-.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبه: عبد الله بن خالد شمس الدين