حوض النبي ﷺ


« حوض النبي  ﷺ »

محمد بن سليمان المهوس / جامع الحمادي بالدمام

14/9/1446هـ

 

الخُطْبَةُ الأُولَى

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1].

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70-71].

أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ، وَكُلَّ ضَلالَةٍ فِي النَّارِ.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: مِنْ عَقِيدَةِ الْمُسْلِمِ الثَّابِتَةِ: الْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ الَّذِي هُوَ مَدَارُ اخْتِبَارِ إِيمَانِ الْعِبَادِ، وَهُوَ الْمِحَكُّ الَّذِي يَتَمَيَّزُ بِهِ الصَّادِقُ مِنَ الْكَاذِبِ، وَالْمُتَيَقِّنُ مِنَ الشَّاكِّ؛ قَالَ تَعَالَى : ﴿ الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ … ﴾ [ البقرة : 1- 3 ].

وَمِنَ الأُمُورِ الْغَيْبِيَّةِ الَّتِي يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ الإِيمَانُ بِهَا وَاعْتِقَادُهَا:

الإِيمَانُ بِحَوْضِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- الَّذِي هُوَ مَجْمَعُ مَاءٍ عَظِيمٍ يُصَبُّ مِنَ الْكَوْثَرِ، يَرِدُهُ الْمُؤْمِنُونَ حِينَمَا يَشْتَدُّ عَلَيْهِمُ الْكَرْبُ، بَعْدَ دُنُوِّ الشَّمْسِ مِنْ رُؤُوسِهِمْ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ.

وَالْحَوْضُ لَيْسَ هُوَ الْكَوْثَرَ!

الْكَوْثَرُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ أَعْطَاهُ اللَّهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- زِيَادَةً فِي إكْرَامِهِ وَلُطْفِهِ بِهِ وَبِأُمَّتِهِ؛ قَالَ تَعَالَى:﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ﴾ [الْكَوْثَر:1] وَهَذَا الْكَوْثَرُ يَصُبُّ فِي الْحَوْضِ الَّذِي هُوَ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ؛ وَقَدْ جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ عَنْ الْكَوْثَرِ: «نَهْرٌ وَعَدَنِيهِ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ فِي الْجَنَّةِ عَلَيْهِ حَوْضٌ».

وَالْكَوْثَرُ خَاصٌّ بِالنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ – كَمَا ثَبَتَ فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: «بَيْنَمَا أَنَا أَسِيرُ فِي الجَنَّةِ -أَيْ: فِي رِحْلَةِ الْمِعْرَاجِ-  إِذَا أَنَا بِنَهَرٍ، حَافَتَاهُ قِبَابُ الدُّرِّ المُجَوَّفِ، قُلْتُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا الكَوْثَرُ، الَّذِي أَعْطَاكَ رَبُّكَ، فَإِذَا طِينُهُ -أَوْ طِيبُهُ- مِسْكٌ أَذْفَرُ» [رواه البخاري].

وَأَمَّا الْحَوْضُ فَإِنَّهُ لِرَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وَلِغَيْرِهِ مِنَ الأَنْبِيَاءِ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوضًا، وَإِنَّهُمْ يَتَبَاهَوْنَ أَيُّهُمْ أَكْثَرُ وَارِدَةً، وَإِنِّي أَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ وَارِدَةً» [رواه الترمذي، وصححه الألباني].

وَمِنْ عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: الْإِيمَانُ بِوُجُودِ الْحَوْضِ الآنَ؛ فَعَنْ عُقْبَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنِّي وَاللهِ لأَنْظُرُ إِلَى حَوْضِي الْآنَ» [ متفق عليه ]

وَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي» [رواه البخاري].

وَأَمَّا صِفَاتُ هَذَا الْحَوْضِ فَقَدْ قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ -:  «حَوْضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ، مَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ، وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ، وَكِيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ؛ مَنْ شَرِبَ مِنْهَا فَلَا يَظْمَأُ أَبَدًا» [متفق عليه].

وَفِي رِوَايَةٍ: «وَلَمْ يُسَوَّدْ وَجْهُهُ أَبَدًا» [صحيح الترغيب].

اللَّهُمَّ أَوْرِدْنَا حَوْضَ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ -، وَاجْعَلْهُ لَنَا شَفِيعًا يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرِ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

                            الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ  أَمَّةَ نَبِيِّنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هُمْ رُوَّادُ هَذَا الْحَوْضِ الَّذِينَ يُسْقَوْنَ مِنْهُ وَيَشْرَبُونَ وَهُمُ الَّذِينَ أَخْلَصُوا فِي عِبَادَةِ رَبِّهِمْ، وَلَمْ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَاتَّبَعُوا رَسُولَ رَبِّهِمْ وَلَمْ يُحْدِثُوا فِي دِينِ اللَّهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ؛ كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «تَرِدُ عَلَيَّ أُمَّتي الحَوْضَ، وَأَنَا أَذُودُ النَّاسَ عَنْهُ، كَمَا يَذُودُ الرَّجُلُ إِبِلَ الرَّجُلِ عَنْ إِبِلِهِ قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللهِ أَتَعْرِفُنَا؟ قالَ: نَعَمْ لَكُمْ سِيما ليسَتْ لأَحَدٍ غَيْرِكُمْ تَرِدُونَ عَلَيَّ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الوُضُوءِ، وَلَيُصَدَّنَّ عَنِّي طَائِفَةٌ مِنكُمْ فَلَا يَصِلُونَ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ هَؤُلَاءِ مِنْ أَصْحَابِي ، فيُجِيبُنِي مَلَكٌ، فيَقولُ: وَهَلْ تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ؟ » وَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، فَمَنْ وَرَدَهُ شَرِبَ مِنْهُ، وَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهُ أَبَدًا، لَيَرِدُ عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ، وَيَعْرِفُونِي، ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ» [متفق عليه].

هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]، وَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [رواه مسلم].

اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَأَهْلِ بَيْتِهِ الطَّاهِرِينَ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَعَنِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، وَعَنِ التَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنَّا مَعَهُمْ بِمَنِّكَ وَإِحْسَانِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَ الدِّينَ، وَاجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا، وَسَائِرَ بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ.

اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَانْصُرْ جُنُودَنَا، وَأَيِّدْ بِالْحَقِّ إِمَامَنَا وَوَلِيَّ أَمْرِنَا، اللَّهُمَّ وَفِّقْهُ وَوَلِيَّ عَهْدِهِ إِلَى مَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَوَاصِيهِمْ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَجَمِيعَ وُلاَةِ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ يَا رَبَّ الْعِالَمِينَ.

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ، وَقُرَّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ، وَلَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ الْكَرِيمِ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ؛ فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ.

وَصَلَّى اللهُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.


شارك المحتوى:
0