خروج الحسين وابن الزبير هل فيه دلالة على الخروج على الحاكم ؟
الحمد لله وحده ، وصلى الله وسلم على من لانبي بعده وآله وصحبه .
أما بعد ففي مقال سابق بعنوان ( فتنة ابن الأشعث والخروج المسلح ) بينت أنه لا يصح الاستدلال بها على الخروج على الحاكم كما توهمته طائفة من الناس ، وفي هذا المقال أذكر بطلان الاستدلال بخروج الحسين بن علي وعبدالله بن الزبير رضي الله عنهما ، على المسألة نفسها ؛ لكونها قرينة لها في استدلالات بعضهم .
وقد تقدم ذكر الجواب المجمل في صدر الإجابة عن فتنة ابن الأشعث من وجهين بما يغني عن إعادته .
وأما خروج الحسين بن علي رضي الله عنه وأرضاه ، فقد قال ابن كثير في ( البداية والنهاية11 / 477، وما بعدها ) : ( ولما أخذت البيعة ليزيد في حياة معاوية، كان الحسين ممن امتنع من مبايعته هو وابن الزبير وعبد الرحمن بن أبي بكر وابن عمر وابن عباس، ثم مات ابن أبي بكر وهو مصمم على ذلك، فلما مات معاوية سنة ستين وبويع ليزيد، بايع ابن عمر وابن عباس، وصمم على المخالفة الحسين وابن الزبير، وخرجا من المدينة فارين إلى مكة فأقاما بها) ( وقد كان عبد الله بن عمر بن الخطاب وجماعات أهل بيت النبوة ممن لم ينقض العهد، ولا بايع أحدا بعد بيعته ليزيد ، كما قال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل بن علية، حدثني صخر بن جويرية، عن نافع قال: لما خلع الناس يزيد بن معاوية جمع ابن عمر بنيه وأهله، ثم تشهد، ثم قال: ( أما بعد، فإنا بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الغادر ينصب له لواء يوم القيامة يقال : هذه غدرة فلان ). وإن من أعظم الغدر ـ إلا أن يكون الإشراك بالله ـ أن يبايع رجل رجلا على بيع الله ورسوله ثم ينكث بيعته، فلا يخلعن أحد منكم يزيد، ولا يشرفن أحد منكم في هذا الأمر، فيكون الفيصل بيني وبينه. وقد رواه مسلم والترمذي، من حديث صخر بن جويرية، وقال الترمذي: حسن صحيح. وقد رواه أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله بن أبي سيف المدائني، عن صخر بن جويرية، عن نافع، عن ابن عمر، فذكره مثله ) ( البداية والنهاية11 / 652) .
ثم كثر ورود الكتب على الحسين رضي الله عنه من بلاد العراق يدعونه إليهم، وذلك حين بلغهم موت معاوية وولاية يزيد، ومصير الحسين إلى مكة فرارا من بيعة يزيد ، فلما قدم العراق وخذلوه ( وبعث عبيد الله بن زياد لحربه عمر بن سعد، فقال: يا عمر ! اختر مني إحدى ثلاث، إما أن تتركني أرجع؛ أو فسيرني إلى يزيد؛ فأضع يدي في يده ؛ فإن أبيت فسيرني إلى الترك؛ فأجاهد حتى أموت) . ( سير أعلام النبلاء (3 / 311).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في (منهاج السنة 4 / 353) : ( فإنه رضي الله عنه لم يفرق الجماعة ، ولم يقتل إلا وهو طالب للرجوع إلى : بلده ؛ أو إلى الثغر ؛ أو إلى يزيد ، داخلا في الجماعة ، معرضا عن تفريق الأمة ) .
فتبين من هذا أمران ، أحدهما مخالفة ابن عباس وابن عمر وغيرهما للحسين رضي الله عنهم أجمعين ، والثاني : رجوع الحسين رضي الله عنه آخر الأمر .
وأما خروج عبدالله بن الزبير رضي الله عنه وأرضاه ، فقد تقدم أن ابن الزبير امتنع من بيعة يزيد بن معاوية هو والحسين رضي الله عنهما ، ولم يوافق على هذا ، وبعد وفاة معاوية بن يزيد عن غير عهد بويع لابن الزبير في غالب الأقطار ، قال الذهبي رحمه الله في ( السير 3 / 364) : ( وبويع بالخلافة عند موت يزيد سنة أربع وستين، وحكم على ، الحجاز، واليمن، ومصر، والعراق، وخراسان، وبعض الشام ، ولم يستوسق له الأمر، ومن ثم لم يعده بعض العلماء في أمراء المؤمنين، وعد دولته زمن فرقة ؛ فإن مروان غلب على الشام ثم مصر، وقام عند مصرعه ابنه عبدالملك بن مروان، وحارب ابن الزبير، وقتل ابن الزبير رحمه الله، فاستقل بالخلافة عبد الملك وآله، واستوسق لهم الأمر ) .
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله في ( البداية والنهاية11 / 666) : ( وعند ابن حزم وطائفة أنه أمير المؤمنين آنذاك ) .
وقال الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله ( منهاج السنة 4/308 ): ( فإن يزيد بويع بعد موت أبيه معاوية ، وصار متوليا على أهل الشام ومصر والعراق وخراسان ، وغير ذلك من بلاد المسلمين ، والحسين رضي الله عنه استشهد يوم عاشوراء سنة إحدى وستين ، وهي أول سنة ملك يزيد ، والحسين استشهد قبل أن يتولى على شيء من البلاد ، ثم إن ابن الزبير لما جرى بينه وبين يزيد ما جرى من الفتنة ، واتبعه من اتبعه من أهل مكة والحجاز وغيرهما، وكان إظهاره طلب الأمر لنفسه بعد موت يزيد، فإنه حينئذ تسمى بأمير المؤمنين وبايعه عامة أهل الأمصار إلا أهل الشام؛ ولهذا إنما تعد ولايته من بعد موت يزيد، وأما في حياة يزيد فإنه امتنع عن مبايعته أولا، ثم بذل المبايعة له ، فلم يرض يزيد إلا بأن يأتيه أسيرا ؛ فجرت بينهما فتنة ، وأرسل إليه يزيد من حاصره بمكة، فمات يزيد وهو محصور، فلما مات يزيد، بايع ابن الزبير طائفة من أهل الشام والعراق وغيرهم.
وتولى بعد يزيد ابنه معاوية بن يزيد ، ولم تطل أيامه، بل أقام أربعين يوما أو نحوها ، وكان فيه صلاح وزهد ولم يستخلف أحدا؛ فتأمر بعده مروان بن الحكم على الشام ولم تطل أيامه.
ثم تأمر بعده ابنه عبد الملك ، وسار إلى مصعب بن الزبير نائب أخيه على العراق فقتله، حتى ملك العراق ، وأرسل الحجاج إلى ابن الزبير فحاصره وقاتله ؛ حتى قتل ابن الزبير، واستوثق الأمر لعبد الملك ثم لأولاده من بعده ) .
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في (الفتح 13 / 194) على قول عبدالله بن دينار : شهدت ابن عمر حين اجتمع الناس على عبدالملك بن مروان : ( والمراد بالاجتماع : اجتماع الكلمة ، وكانت قبل ذلك مفرقة ، وكان في الأرض قبل ذلك اثنان كل منهما يدعى له بالخلافة ، وهما عبد الملك بن مروان وعبد الله بن الزبير ، فأما بن الزبير فكان أقام بمكة ، وعاذ بالبيت بعد موت معاوية ، وامتنع من المبايعة ليزيد بن معاوية ؛ فجهز إليه يزيد الجيوش مرة بعد أخرى ، فمات يزيد وجيوشه محاصرون ابن الزبير ، ولم يكن ابن الزبير ادعى الخلافة حتى مات يزيد في ربيع الأول سنة أربع وستين ؛ فبايعه الناس بالخلافة بالحجاز ، وبايع أهل الآفاق لمعاوية بن يزيد بن معاوية، فلم يعش إلا نحو أربعين يوما ومات ، فبايع معظم الآفاق لعبد الله بن الزبير ، وانتظم له ملك الحجاز واليمن ومصر والعراق والمشرق كله وجميع بلاد الشام حتى دمشق ، ولم يتخلف عن بيعته إلا جميع بني أمية ومن يهوى هواهم ، وكانوا بفلسطين ؛ فاجتمعوا على مروان بن الحكم ؛ فبايعوه بالخلافة ، وخرج بمن أطاعه إلى جهة دمشق، والضحاك بن قيس قد بايع فيها لابن الزبير ، فاقتتلوا بمرج راهط ؛ فقتل الضحاك ، وذلك في ذي الحجة منها ، وغلب مروان على الشام ، ثم لما انتظم له ملك الشام كله توجه إلى مصر ؛ فحاصر بها عبد الرحمن بن جحدر عامل بن الزبير حتى غلب عليها في ربيع الآخر سنة خمس وستين ، ثم مات في سنته ، فكانت مدة ملكه ستة أشهر وعهد إلى ابنه عبد الملك بن مروان فقام مقامه ، وكمل له ملك الشام ومصر والمغرب ، ولابن الزبير ملك الحجاز والعراق والمشرق ، إلا أن المختار بن أبي عبيد غلب على الكوفة ، وكان يدعو إلى المهدي من أهل البيت ، فأقام على ذلك نحو السنتين ، ثم سار إليه مصعب بن الزبير أمير البصرة لأخيه فحاصره حتى قتل في شهر رمضان سنة سبع وستين ، وانتظم أمر العراق كله لابن الزبير فدام ذلك إلى سنة إحدى وسبعين ،فسار عبد الملك إلى مصعب فقاتله حتى قتله في جمادى الآخرة منها ، وملك العراق كله ولم يبق مع ابن الزبير إلا الحجاز واليمن فقط ، فجهز إليه عبد الملك الحجاج فحاصره في سنة اثنتين وسبعين إلى أن قتل عبد الله بن الزبير في جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين ، وكان عبد الله بن عمر في تلك المدة امتنع أن يبايع لابن الزبير أو لعبد الملك ، كما كان امتنع أن يبايع لعلي أو معاوية ، ثم بايع لمعاوية لما اصطلح مع الحسن بن علي ، واجتمع عليه الناس ، وبايع لابنه يزيد بعد موت معاوية لاجتماع الناس عليه ، ثم امتنع من المبايعة لأحد حال الاختلاف إلى أن قتل ابن الزبير ، وانتظم الملك كله لعبد الملك فبايع له حينئذ ) .
وقال ابن قدامة رحمه الله في ( المغني 10 / 49) : (ولو خرج رجل على الإمام فقهره ، وغلب الناس بسيفه ؛ حتى أقروا له ، وأذعنوا بطاعته ، وتابعوه ، صار إماما يحرم قتاله ، والخروج عليه ؛ فإن عبد الملك بن مروان خرج على ابن الزبير فقتله ،واستولى على البلاد وأهلها ؛ حتى بايعوه طوعا وكرها ؛ فصار إماما يحرم الخروج عليه ) .
فابن الزبير رضي الله عنه إما أن تكون الخلافة له والمنازع مروان ثم عبدالملك ، وإما أن تكون هناك دولة لابن الزبير ودولة لمروان ، وإما أن تكون الخلافة لمروان ثم لعبدالملك .
فعلى الأمرين الأولين لادليل فيهما ، وعلى الثالث يقال : إن ابن الزبير رضي الله عنه لم يوافق على ذلك ؛ فروى مسلم عن أبي نوفل قال : رأيت عبد الله بن الزبير على عقبة المدينة ، فجعلت قريش تمر عليه والناس ؛ حتى مر عليه عبد الله بن عمر ؛ فوقف عليه ؛ فقال : ( السلام عليك أبا خبيب ! السلام عليك أبا خبيب! السلام عليك أبا خبيب! أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا ! أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا ! أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا ! ) .
وأما قضيته مع يزيد بن معاوية فقد تقدم الجواب عنها في قضية الحسين بن علي رضي الله عنهم أجمعين .
هذا ما يسره الله إيراده هنا ، والسنة أولى بالاتباع . أسأل الله للجميع حسن القصد والاتباع.
تنبيه : بعض من يصف أمير المؤمنين وكاتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم : معاوية ـ رضي الله عنه ورحمه وجزاه عن الإسلام خيرا ـ بالمستبد أو بأول من أسس للاستبداد والتوريث في الخلافة ، يستدل بفعل ابن الزبير والحسين رضي الله عنهم أجمعين ، والكل صحابة !! وصدق الله ( فإنها لاتعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) .
وحظوظ النفس وشهواتها إذا أخرجت في قالب الانتصار للدين هلك الإنسان وأهلك غيره ، والله المستعان . والحمد لله رب العالمين .
كتبه / عبدالعزيز بن محمد السعيد
الأستاذ المشارك بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.