خطبة مستفادة عن الأحكام الشرعية المتعلقة بالرؤى وتعبيرها


الخطبة الأولى:

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}، أما بعد:

فإن من الأمور الثابتة في القرآن والسنة ما يراه الإنسان وهو نائم، حيث ذكر الله تعالى في القرآن بعض رؤى أنبيائه، ومنها رؤيا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية: }لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ}، ورؤيا إبراهيم عليه السلام في ذبح ابنه إسماعيل، ورؤيا يوسف عليه السلام في سورة يوسف، أما في السنة فقد روى البخاري عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: “إِنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانُوا يَرَوْنَ الرُّؤْيَا عَلَى عَهْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَقُصُّونَهَا عَلَيهِ، فَيَقُولُ فِيهَا مَا شَاءَ اللَّهُ”، وفي صحيح مسلم قال عليه الصلاة والسلام: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْ مُبَشِّرَاتِ النُّبُوَّةِ إِلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ، أَوْ تُرَى لَهُ».

ولقد انقسم الناس في موضوع الرؤيا ثلاثة أقسام: قسم كذبوا الرؤيا الصادقة، وبالغوا في التحليل النفسي وأنها مجرد أساطير وخرافات، وقسم اعتمدوا الرؤيا مصدرا لهم، يستدلون بها كما يستدلون بالقرآن والسنة، ويبنون على ذلك أحكاما وأفعالا لا دليل عليها، وفي هذين القسمين ضلال وانحراف عن المنهج الشرعي في مسألة الرؤى.

أما القسم الثالث وهم أهل التوسط والاعتدال، أهل السنة والجماعة، آمنوا بقدرة الله تعالى على حدوث الرؤيا، مؤمنين بما ثبت عنها من أدلة القرآن والسنة، بعيدا عن الإفراط أو التفريط.

عباد الله: لقد ظهر من يستغل الرؤى، ويخلطها بغيرها، لذا كان من المهم بيان بعض المسائل الشرعية فيها:

المسألة الأولى: أن الرُّؤى ليست على ميزان واحد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وَالرُّؤْيَا ثَلَاثَةٌ، فَرُؤْيَا الصَّالِحَةِ بُشْرَى مِنْ اللَّهِ، وَرُؤْيَا تَحْزِينٌ مِنْ الشَّيْطَانِ، وَرُؤْيَا مِمَّا يُحَدِّثُ الْمَرْءُ نَفْسَهُ» رواه مسلم.

المسألة الثانية: الحذر من أضغاث الأحلام التي يراها الإنسان في نومه بسبب حديث النفس، أو تلاعب الشيطان، وهي أحلام مختلطة متناقضة، فهذه لا تعبر، ولا أثر لها، فقد جاء رجل إلى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: “إِنِّي حَلَمْتُ أَنَّ رَأْسِي قُطِعَ فَأَنَا أَتَّبِعُهُ”، فَزَجَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: «لَا تُخْبِرْ بِتَلَعُّبِ الشَّيْطَانِ بِكَ فِي الْمَنَامِ» رواه مسلم

المسألة الثالثة: العمل بما ثبت في السنة بشأن ما يراه النائم، وكيف يعمل معه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ مِنْ اللَّهِ، فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يُحِبُّ فَلَا يُحَدِّثْ بِهِ إِلَّا مَنْ يُحِبُّ، وَإِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ، فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّهَا، وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ، وَلْيَتْفِلْ ثَلَاثًا، وَلَا يُحَدِّثْ بِهَا أَحَدًا فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ»، رواه البخاري.

المسألة الرابعة: كلما زاد صلاح المسلم، وزاد صدقه، كان أصدق في الرؤيا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا اقْتَرَبَ الزَّمَانُ لَمْ تَكَدْ رُؤْيَا المسلِمِ تَكْذِبُ، وَأَصْدَقُكُمْ رُؤْيَا أَصْدَقُكُمْ حَدِيثًا» رواه مسلم، فعليكم بتقوى الله والصدق، واحذروا الكذب في الرؤى، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَحَلَّمَ بِحُلْمٍ لَمْ يَرَهُ، كُلِّفَ أَنْ يَعْقِدَ بَيْنَ شَعِيرَتَيْنِ وَلَنْ يَفْعَلَ» رواه البخاري.

المسألة الخامسة: أن الرؤى وإن كانت صالحة فإنه لا يحتج بها، ولا يبنى عليها أحكام، ولا يتعلق بها، قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: “الرُّؤْيَا تَسُرُّ المُؤْمِنَ وَلَا تَغُرُّهُ” سير أعلام النبلاء.

المسألة السادسة: أن من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، ووصفه وصفا صحيحا كما هو ثابت في السنة، فقد رأى حقا، وهي بشارة خير له، ولا حاجة للتفاخر بها ونشرها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: «مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ، وَلَا يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِي»، ومع هذا يجب الحذر ممن يزعمون رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه أمرهم بعبادات أو أذكار وغيرها، لإن الوحي انقطع بموت النبي صلى الله عليه وسلم، وليست الرؤى من مصادر الشرع التي يؤخذ منها الأحكام.

أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، أما بعد:

فالمسألة السابعة مما يتعلق بالرؤى: أن علم تعبير الرؤى من العلوم الشرعية، وأن تعبيرها داخل في الفتوى، لقول الله تعالى في سورة يوسف في قصة صاحبي السجن: {قُضِيَ الأمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ}، وفي رؤيا الملك قال: {أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ}، وقال الفتى ليوسف: {أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ}، فلا يجوز الإقدام على تعبير الرؤيا من غير علم، قيل للإمام مالك رحمه الله: أَيَعْبُرُ الرُّؤْيَا كُلُّ أَحَد؟ فَقَالَ: أَبِالنُّبُوَّةِ يُلْعَب؟، وقال رحمه الله: “لا يعبِّر الرؤيا إلاَّ مَنْ يُحْسِنُها، فإن رأى خَيرًا أخبرَ بهِ، وإن رأى مَكرُوهًا فلْيَقُلْ خيرًا أو لِيصْمُتْ” التمهيد، وتعبير الرؤى ليس من العلم العام الذي ينشر بين الناس لتفاوت العقول، والأحوال، وليس كل من اشتهر في الإعلام ووسائل التواصل محل الثقة في تعبير الرؤى، حيث كثر من يستغلها لترويج الأفكار، أو أكل الأموال، أو الشهرة والنفعية، وهؤلاء ما بين جاهل في تعبير الرؤى أصلاً، وما بين مخالف للمنهج الشرعي في تعبيرها، كعدم مراعاة التفاوت بين الأشخاص، وعدم التأكد من الصدق، وغير ذلك من المخالفات التي تفتح الباب للتوسع والتلاعب والاستغلال.

ولنعلم أن معبر الرؤى بشر يخطئ ويصيب، ففي الصحيحين قَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِأَبِي بِكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حِينَمَا عَبَّرَ رُؤْيَا أَمَامَهُ: «أَصَبْتَ بَعْضًا وَأَخْطَأْتَ بَعْضًا»، وغير أبي بكر من باب أولى، لذا لا يشغل المسلم نفسه بالرؤى عن العمل بالكتاب والسنة، فإن أمكنه تعبيرها عند ثقة من أهل العلم والفضل فلا حرج عليه، وإن لم يعبرها فلا يضره شيء بإذن الله.

اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، وأصلح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم عليك بأعداء الدين واهل الشر والمفسدين يا قوي ياعزيز، اللهم وفق ولي أمرنا سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده، اللهم اغفر لنا وارحمنا وعافانا وارزقنا، وأعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وأصلح نياتنا وذرياتنا وأزواجنا، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

خطبة مستفادة عن الأحكام الشرعية المتعلقة بالرؤى وتعبيرها


شارك المحتوى:
0