الحمدُ للهِ الذي هَدَانَا للإسلامِ، شريعةُ اليُسرِ والإِحْكامِ، والصَّلاةُ والسلامُ الأتمَّانِ والأكمَلَانِ على سَيِّدِ وَلَدِ عَدْنَانِ، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شريكَ لَهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ.
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ﴾ [النساء: 1].
أمَّا بعدُ:
فإنَّ معرفةَ أحكامِ البيعِ والشراءِ واجبٌ، لِئلَّا نَعصِيَ اللهَ ببيعٍ مُحرَّمٍ، وليكونَ تَمَلُّكُنَا لمِا نشتريهِ صحيحًا، فَكَمْ مِن بائعٍ ومُشْتَرٍ تملَّكَ ببيعٍ غيرِ شرعيٍّ، فأكَلَ وشَرِبَ حَرَامًا، بَلْ وأكَّلَ أولادَهُ حَرَامًا.
وإنَّ هناكَ بُيُوعًا بيَّنَتْ الشريعةُ حُرْمَتَها، مِنها:
أولًا: بيعُ النَّجْشِ، أخرَجَ البخاريُّ ومسلمٌ عَن أبي هريرةَ -رضيَ اللهُ عنهُ- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «… وَلَا تَنَاجَشُوا».
وَالنَّجْشُ: هو أنْ يُزايِدَ الرجلُ في ثَمَنِ السِّلعةِ وهو لا يُريدُ شِرَاءَهَا وإنَّمَا يرفعُ ثَمَنَها، وينبغي أنْ يُعلَمَ أنَّ هناكَ فرقًا بينَ النَّجْشِ المُحرَّمِ والمُزايَدَةِ في ثَمَنِ السِّلعَةِ في المَزَادِ لِمَن يُريدُ شِرَاءَهَا، فَهَذا جائزٌ إجماعًا، بِخلافِ النَّجْشِ المُحرَّمِ إجماعًا.
ثانيًا: بيعُ الرجلِ على بيعِ أخيهِ، أخرجَ البخاريُّ ومسلمٌ عَن أبي هريرة -رضيَ اللهُ عنهُ- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «لَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ».
وَمَعنى بيعُ الرجلِ على بيعِ أخيهِ: أنهُ إذا تبايَعَ رَجُلانِ وَلَا يَزَالانِ في المجلسِ وَوَقتِ الخيارِ، واتَّفقا على ثمنٍ معيَّنٍ، فإنهُ لا يجوزُ لأحدٍ أنْ يعرِضَ عليهِ السِّلْعَةَ بِثَمَنٍ أقلَّ؛ لأنهُ مِن بيعِ الرجلِ عَلَى بيعِ أخيهِ.
ثالثًا: تَلَقِّي الرُّكبانِ، أخرَجَ البخاريُّ ومسلمٌ عن ابنِ عباسٍ -رضيَ اللهُ عنهُ- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «لاَ تَلَقَّوُا الرُّكْبَانَ».
وَمَعنى تَلَقِّي الرُّكْبانِ: أنْ يَستقبِلَ المُشتَرونَ البائِعَ قبلَ أنْ يَصِلَ لِلسوقِ، فيشترونَ مِنهُ بَضَائِعَهُ، فهذا مُحرَّمٌ وفيهِ غِشٌّ وَضَرَرٌ على البائعِ.
رابعًا: بيعُ العينَةِ، أخرَجَ أبو داودَ عن ابنِ عُمَرَ -رضيَ اللهُ عنهُمَا- عنِ النبيِّ ﷺ أنهُ قالَ: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ، سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ»، صَحَّحَهُ الألبانِيُّ.
ومعنى بيعُ العِينَةِ: هُوَ كأنْ يَبيعَ رَجلٌ سيارَتَهُ بستينَ ألفَ ريالٍ بالتقسيطِ مُؤجَّلًا، ثُمَّ يشتري السيارةَ نفسَهَا مِن الرجلِ بخمسينَ ألفَ ريالٍ نقدًا وحالًّا، وهذا مُحرَّمٌ؛ وذلكَ أنَّ حقيقتَهُ مالٌ بِمالٍ.
خامسًا: بيعُ الكلبِ، رَوَى البخاريُّ ومسلمٌ عن أبي مسعودٍ البدريِّ -رضيَ اللهُ عنهُ- أنَّ النبيَّ ﷺ نَهَى عَن ثَمَنِ الكلبِ. فَلَا يجوزُ بيعُ الكلابِ وشِرَاؤُهَا، بَلْ إنَّ مُجرَّدَ اقتناءِ الكلابِ التي ليسَتْ للصيدِ وَلَا للرَّعي والزَّرعِ مُحرَّمٌ ويُنقِصُ مِن الأجرِ كُلَّ يومٍ بمقدارِ قيراطٍ مِن الحسناتِ.
عَن أبي هريرةَ -رضيَ اللهُ عنهُ- قالَ: قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: «مَنِ اقْتَنَى كَلْبًا، إِلَّا كَلْبَ صَيْدٍ، أَوْ مَاشِيَةٍ، نَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطَانِ» مُتَّفقٌ عليهِ.
اللهُمَّ يا مَن لا إلهَ إلَّا أنتَ، يا ذَا الجلالِ والإكرامِ، مُنَّ عَلَينا بالرِّزقِ الحلالِ، والمَطعَمِ الحلالِ، والمَشرَبِ الحلالِ.
أقولُ ما تسمعونَ، وأستغفِرُ اللهَ لي وَلَكُم فاستغفروهُ، إنهُ هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، أمَّا بعدُ:
فإنَّ مِمَّا هو شائِعٌ ومُنتَشِرٌ عِندَ البيعِ والشِّرَاءِ: الغِشَّ، وهُوَ كبيرةٌ مِن كبائِرِ الذُّنُوبِ، وَسَبَبٌ لِمَحقَةِ البرَكَةِ، عن أبي هريرةَ -رضيَ اللهُ عنهُ- عن رسولِ اللهِ ﷺ أنهُ مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طعامٍ فأدخَلَ يدَهُ فِيها فنالَتْ أصابِعَهُ بَلَلًا، فقالَ: «مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟» قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللهِ. فقَالَ: «أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ؛ كَي يَرَاهُ النَّاسُ؟ مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي». رَوَاهُ مُسلِمٌ.
فإنَّ الغِشَّ والبيعَ والشِّراءَ المُحَرَّمَ يجعَلُ المالَ حَرَامًا، وإذا كانَ المالُ حَرَامًا مَنَعَ إجابةَ الدُّعاءِ.
عَن أبي هريرةَ -رضيَ اللهُ عنهُ- أنَّ النبيَّ ﷺ ذَكَرَ الرجلَ يُطيلُ السفرَ أشَعَثَ أغَبَرَ، يَمُدُّ يديهِ إلى السماءِ، يا ربِّ، يا ربِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟! رواهُ مسلمٌ، وَمَا نَبَتَ بِهِ مِن لحمٍ فهو سُحْتٌ والنَّارُ أولَى بِهِ.
أيُّها المسلمونَ: احذَروا عاقِبَةَ المالِ الحرامِ، مِن مَحقِ البَرَكاتِ وَرَدِّ الدَّعَوَاتِ، وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ كَثْرَةُ المالِ، فإنَّ مَالًا قليلًا مَعَ البركةِ خيرٌ مِن مالٍ كثيرٍ بِلا بَرَكةٍ، بَلْ مَعَ سَخَطِ اللهِ وَغَضَبِهِ.
وَتَذكَّروا الموتَ وبَغْتَتَهُ، والقبرَ وَظُلْمَتَهُ، والحَشْرَ وَخَسْرَتَهُ، ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 281].
اللهُمَّ جَنِّبنا الحرامَ وَمَتِّعنا بالحلالِ، وأحسِنْ لَنَا الخِتَامَ، اللهُمَّ اهْدِنا فيمَنْ هَدَيتَ، وَتَوَلَّنَا فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، اللهُمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ وَوَفِّق مَلِكَنَا وَوَلِيَّ عَهْدِهِ لِمَا فيهِ رِضاكَ.
وقُومُوا إلى صَلَاتِكُمْ يَرْحَمْكُمُ اللهُ …
خطبة من البيوع المحرمة شرعًا