خطورة دعوة القرآنيين


الخطبة الأولى:

الحمدُ للهِ المتفرِّدِ بالأسماءِ والصفاتِ العُلَى، خلَقَ الموتَ والحياةَ ليَبلُوَ الناسَ أيُّهم أحسنُ عملًا، وأرسلَ رُسُلَهُ وأنزلَ كتبَهُ ليفتحَ أعيُنًا عميًا، وقلوبًا غُلفًا، وآذانًا صُمًّا، فمَن اتَّبعَ هُداهُ فيا حُسنَ مثواهُ، ومن عصى فالنارُ مأواهُ.

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21-22].

أما بعد:

فمنذُ أن خلقَ اللهُ أبانا آدمَ -عليه السلام- وأسكنهُ الجنَّةَ، بدأتِ المعركةُ معَ الشيطانِ الرجيمِ، معَ إبليس عليهِ لعائنُ اللهِ، فوَسوَسَ إلى أبينا واجتهدَ وجَدَّ، حتى أخرجهُ من الجنةِ باسمِ النصيحةِ، وباسمِ الخيرِ، وقَدْ ذكرَ اللهُ عن إبليس أنهُ قالَ: ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ﴾ [ص: 82-83] اللهُمَّ اجعلنَا منهم يا ربَّ العالمينَ.

فهوَ يُجلِبُ بخيلهِ ورَجلِهِ بإضلالِ بني آدمَ وإغوائهِ، وهكذا حزبهُ وأتباعهُ من شياطينِ الإنسِ والجِن، فاستمرَّتِ العداوةُ مِن إبليسَ وحزبهِ معَ الصالحينَ والمُصلحينَ، والأنبياءِ والمُرسلينَ، وأتباعِهِم، إلى أن بعثَ اللهُ نبيَّنا محمدًا ﷺ، وإبليسُ مُجتهدٌ بكُلِّ ما أُوتيَ أن يُغويَ الناسَ عن دينِ الإسلامِ وأن يُضلَّهُمْ.

ولهُ في ذلكَ طُرقٌ، وقد أخبرَ اللهُ عن عداوتهِ، وعن عداوةِ حزبهِ وأنصارهِ لأهلِ الهدى والتُّقَى، قالَ سبحانهُ: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾ [الأنعام: 112].

تأمَّلوا إخوةَ الإيمانِ، إنهُ ليسَ شيطانًا واحدًا، وليسَ مِن الجنِّ فحسب، بل مِن الجنِّ والإنسِ، ثُمَّ يجتهدونَ بكلِّ ما أوتوا مِن زخرفِ القولِ وتحسينهِ حتى يُضلوا بني آدمَ.

ومن شياطينِ الإنسِ: أتباعهُ من الكافرينَ، من اليهودِ والنصارى وغيرهم، ولهم طرقٌ شتَّى وأفعالٌ متعدِّدةٌ في محاولةِ إضلالِ المسلمينَ عن دينهم، ومن الطرقِ: أنهم يأتونَ مباشرةً ويُشككوا المسلمينَ في وجودِ ربِّهم، فيدعونَ إلى الإلحادِ بطرقٍ سخيفةٍ وأعمالٍ هاويةٍ، لكن لها أتباعٌ، وقد وقعَ في شِراكِها مَن وقعَ.

وتارةً بالتشكيكِ في دينِ الإسلامِ، ومُحاولةِ صَدِّ المسلمينَ عن الإسلامِ، بتشكيكهم في صِحَّةِ هذا الدِّينِ، وقد حاولوا ولهُمْ في ذلكَ أتباعٌ.

وتارةً بالشهواتِ من الخمورِ والنساءِ وغيرِ ذلكَ، وحاولوا ووقعَ في شِراكهِم أتباعٌ، وتارةً وتارةً بطرقٍ متعددةٍ لا تُحصى ولا تُعد، لكنهُم مجتهدونَ في كُلِّ ما أُتوا من قوةٍ.

ومن تِلكَ الدعواتِ التي خرَجَتْ باسمِ الدِّينِ، وباسمِ الخيرِ، وباسمِ تعظيمِ القرآنِ، وهيَ دعوةُ القرآنيينَ، يا تُرَى مَن القرآنيون؟ وما دعوتُهُم؟

القرآنيونَ: أناسٌ قديمونَ ويتوارثونَ ويتكاثرونَ، تجدهُم في بلدٍ أكثرَ منهُم في بلدٍ، لكن كُلمَّا خرجَ لهُم قرنٌ سلَّطَ اللهُ عليهم أهلَ الهُدى من المسلمينَ، فقطعوا هذا القرنَ، وقد أدركَ هؤلاءِ طائفةٌ من الصحابةِ، ثُمَّ طائفةٌ من التابعينَ، وردَّ عليهم أئمةُ الإسلامِ، كما بيَّنَ هذا الآجريُّ -رحمه الله تعالى- في كتابهِ (الشريعة).

القرآنيونَ: أناسٌ يدعونَ إلى تعظيمِ القرآنِ -وهذهِ كلمةٌ عظيمةٌ يدعو إليها المسلمونَ أجمعونَ- يدعونَ إلى تعظيمِ القرآنِ وباسمِ تعظيمِ القرآنِ يُشككونَ في السنةِ، ويقولون: لا يصِحُّ الرجوعُ إلى الأحاديثِ النبويَّةِ، ولا إلى سُنَّةِ رسولِ اللهِ ﷺ، فباسمِ القرآنِ شكَّكوا الناسَ في الرجوعِ إلى سُنَّةِ رسولِ اللهِ ﷺ.

وهم مُتفاوتونَ في جُرأتهِم وفي تصحيحهم، وفي نشرِ اعتقادِهِم في سُنَّةِ النبيِّ ﷺ، منهم من يجزمُ بردِّ السنةِ كُلِّها وأننا لسنا بحاجةٍ إلى السنةِ …إلى غيرِ ذلكَ، ومنهُم من يُشكِّكُ في الأحاديثِ الصحيحةِ كالتي خرَّجَهَا الإمامُ البخاريُّ والإمام مسلمٌ في صحيحَيْهِمَا، وهكذا.

وقد صدقَ الخليفةُ الراشدُ عليِّ بنِ أبي طالبٍ -رضي الله عنه- لمَّا قالَ في قومٍ يتظاهرونَ بتعظيمِ الدِّينِ وهم يريدونَ إسقاطَ الدِّينِ في ادِّعاءِ تحكيمِ الشريعةِ، لمَّا كانَ يُخاطِبُ أولئِكَ الخوارجُ قالَ كلمةً عظيمةً سارَ الناسُ بها مثلًا، وهيَ قولهُ -رضي الله عنه-: “كلمةُ حقٍّ يُرادُ بِهَا باطلٌ”.

نعم، إنَّ تعظيمَ القرآنِ كلمةُ حقٍّ، لكنَّ ردُّ السنةِ باسمِ تعظيمِ القرآنِ، هذا مِن الحقِّ الذي يُرادُ بهِ باطلٌ، وإلَّا لو تأمَّلتُم -إخوةَ الإيمانِ- إنَّ مَن يدعوا إلى ردِّ السنةِ باسمِ تعظيمِ القرآنِ، فالردُّ عليهِ بما يلي:

الردُّ الأول: أنَّ القرآنَ نفسهُ الذي تدَّعي تعظيمهُ قد أمرَ بالرجوعِ إلى السنةِ، قالَ الإمامُ أحمدُ -رحمه الله تعالى-: قد أمرَ اللهُ بالرجوعِ إلى النبيِّ ﷺ في القرآنِ في بضعةٍ وثلاثينَ موضعًا، واللهُ يأمرُ أن نرجِعَ إلى سُنَّةِ النبيِّ ﷺ، إلى طاعةِ النبيِّ ﷺ، قالَ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [النساء: 59].

وقالَ سبحانهُ: ﴿مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ [النساء: 80] إلى غيرِ ذلِكَ مِن الآياتِ الكثيرةِ.

فمَن يدَّعي تعظيمَ القرآن ويجعَل ذلِكَ حُجَّةً في ردِّ السنةِ، فحقيقةُ أمرهِ: هوَ مُخالفٌ للقرآنِ، فالقرآنُ يدعو للرجوعِ إلى سُنَّةِ النبيِّ ﷺ، فالقِسمةُ ثُنائيَّةٌ لا ثالِثَ لها: إمَّا أن يُصرَّ وأن يثبُتَ على دعواهُ، فيرجعُ إلى الاحتجاجِ بسُنَّةِ النبيِّ ﷺ، وإمَّا أن يكونَ صريحًا وأن يُبيِّن أنهُ لا يريدُ لا القرآنَ ولا السنةَ، وإنما يتذرَّع في دعواهُ في التزيُّنِ بتعظيمِ القرآنِ، وإلَّا فهوَ لا يريدُ الدِّين، لا الكتابَ ولا السنةَ.

الردُّ الثاني: قد أمرَنَا اللهُ في القرآنِ أن نرجِعَ في فهمِ القرآنِ إلى سُنَّةِ النبيِّ ﷺ، فالذي يدَّعي تعظيمَ القرآنِ ويَرُدُّ السُّنةَ باسمِ تعظيمِ القرآنِ، فهو كاذبٌ، قالَ سبحانهُ: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل: 44] إذَنْ قوله: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ﴾ هذهِ هيَ السنةُ، وقولهُ: ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ أي القرآن.

فإذَنْ اللهُ جعلَ السُّنةَ تفسيرًا وبيانًا للقرآنِ، فمُعظِّمُ القرآنَ إن كانَ صادقًا فليُعظِّم السنةَ، ومن لم يفعَلْ ذلِكَ فهو كاذبٌ.

الردُّ الثالث: قد بيَّنَ ربُّنَا أنَّ القرآنَ وحيٌ، وأنَّ السنةَ وحيٌ، فبمُقتضى تعظيمُ القرآنِ لأنهُ وحيٌ أن تُعظَّمَ السُّنةُ، قالَ سبحانه: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: 3-4].

الردُّ الرابع: قَدْ بيَّنَ ربُّنَا في القرآنِ أنَّ السُّنةَ مُنزَّلةٌ كما أنزلَ اللهُ القرآنَ، تأمَّل الآيةَ السابقةَ: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ﴾ أي السُّنة ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾، وقالَ سبحانهُ: ﴿وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ [النساء: 113] والحكمةُ: هيَ السنةُ.

الردُّ الخامس: أنَّ اللهَ تكفَّلَ بحِفظِ القرآنِ، ومُقتضَى التكفُّلُ بحِفظِ القرآنِ أن يُحفَظَ كُلُّ ما يُفهَمُ بهِ القرآنُ، ومن ذلِكَ سُنَّةُ النبيِّ ﷺ؛ لأنها بيانٌ للقرآنِ كما تقدَّمَ ذكرهُ، قالَ سبحانهُ: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9].

فإذَنْ حِفظُ القرآنِ يقتضي حِفظَ السنةِ، بَلْ ذكرَ العلماءُ أنَّ لُغةَ العربِ محفوظةٌ؛ لأنَّ القرآنَ لا يُفهَمُ إلَّا بلُغةِ العربِ، فبمُقتضى حفظِ القرآنِ أن تُحفَظَ لُغةُ العربِ، وكذلكَ سُنَّةُ النبيِّ ﷺ من بابِ أولى.

الردُّ السادس: من ادَّعى تعظيمَ الشريعةِ باسمِ ردِّ السُّنةِ باسمِ تعظيمِ القرآنِ وردَّ السنةَ، سلوهُ: أينَ يجدُ الصلواتِ الخمسِ بأركانِها وأوقاتِها؟ إنهُ لا يجدُ ذلِكَ إلا في سُنَّةِ النبيِّ ﷺ.

سلوهُ: أينَ يجدُ أحكامَ الصيامِ؟ ابتداءً وانتهاءً، وبيانًا لمُفسداتِ الصيامِ كُلِّها ولشروطهِ؟ إنهُ لا يجدُ ذلكَ إلا في سُنَّةِ النبيَّ ﷺ.

سلوهُ: أينَ يجدُ أحكامَ الزكاةِ كاملةً، وشروطها، وغيرِ ذلكَ، لا يجدهُ إلا في سنةِ النبيِّ ﷺ.

ومثلُ ذلكَ قُل في الحجِّ، وفي غيرهِ من أحكامِ الشريعةِ، فحقيقةُ الدعوةِ إلى ردِّ السنةِ باسمِ تعظيمِ القرآنِ، دعوةُ زندقةٍ ونفاقٍ، فحقيقةُ هذه الدعوةِ أنهُ لا يريدُ قرآنًا ولا سنةً، ولا دينًا إسلاميًّا، وإنما يريدُ ردَّ الدِّينِ باسمِ تعظيمِ الدِّينِ، وقد صدقَ عليُّ بنُ أبي طالبٍ -رضي الله عنه- كما تقدَّمَ أنهُ قالَ: “كلمةُ حقٍّ أُريدَ بها باطلٌ“.

اللهُمَّ يا مَن لا إلهَ إلا أنتَ، اللهُمَّ عَظِّم شريعتكَ في نفوسِنا، اللهُمَّ أحينا على التوحيدِ والسنةِ، وأمِتنا على ذلكَ، واجعَلْنا نلقاكَ راضيًا عنَّا.

أقولُ ما قُلتُ، وأستغفرُ اللهَ لي ولكُمْ، فاستغفروهُ، إنهُ هوَ الغفورُ الرحيمُ.

 

الخطبةُ الثانية:

الحمدُ للهِ والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، أمَّا بعدُ:

إنكَ إذا تأمَّلتَ في حُجَجِ وبراهينِ وشُبَهِ وضلالاتِ مَن يدعو إلى ردِّ السنةِ باسمِ تعظيمِ القرآنِ، وجدتها حُجَجًا هاويةً لا قيمةَ لها، مِن أعظمِ حُجَجِهِم -ولا تُسمَّى حُجَّةً ولكن أذكُرُها لأنهُم يُردِّدُونها- يقولونَ: بمُقتضى العقلِ، وقد جعلوا العقلَ أساسًا في ردِّ الشريعةِ، وجعلوا العقلَ حكمًا على شريعةِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ ﷺ، فيقولنَ: بمُقتضى العقلِ، هل يُمكن أن تُحفَظَ أحاديثٌ خِلالَ هذه القرونِ مِن ألفٍ وأربعمائةِ سنةٍ إلى اليومِ؟

فيقالُ: يا مسكينُ، ألَسْتَ تدَّعي تعظيمَ القرآنِ؟ إنَّ القرآنَ أمرَكَ أن ترُدَّ العقلَ وكُلَّ شيءٍ إلى القرآنِ والسنةِ، فأينَ دعواكَ تعظيمَ القرآنِ؟ قالَ سبحانهُ: ﴿ِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [النساء: 59].

وإنهُ بمُقتضَى دعواكَ هذهِ ألَّا يُقبَلَ حتى القرآنُ، ولقائلٍ غبيٍّ مِثلكَ أن يقول: كيفَ يُحفَظُ القرآنُ خِلالَ ألفٍ وأربعمائةِ سنةٍ؟

يُقال: يا مَسكينُ، إنَّ الأمرَ دينٌ، وإنَّ للقرآنِ والشريعةِ والسنةِ إلهً سبحانهُ قد حَفِظَ كلامَهُ وهو قرآنَهُ، وحَفِظَ سُنتهُ، وهي وحيُهُ كما تقدَّمَ ذلكَ، ومِن أوضحِ البراهينُ على ذلكَ: افتَحِ القرآنَ في شرقِ الأرضِ أو غربِها، واقرأ كلامَ المُؤلفينَ سابقًا الذينَ نَقلوا مِن القرآنِ، مِن المسلمينَ أو المُستشرقينَ الذينَ عادَوْهُ، تجدُ أنَّ القرآنَ هوَ القرآنُ، ولَمْ يُغيَّر خِلَالَ هذهِ القرونُ.

يا لله! هل هناكَ آيةٌ وبرهانٌ على حِفظِ اللهِ للقرآنِ أعظمُ مِن هذا البرهانُ؟ تأمَّلوهُ وتدبَّروهُ، كيفَ يُحفَظُ القرآنُ، والآيةُ هيَ الآيةُ، برَقمِها، والآيةُ هيَ الآيةُ بسطرها مزبورةٍ في القرآنِ، هذا مِن عظيمِ حِفظِ اللهِ للقرآنِ، ومِن ذلكَ سُنَّةُ النبيِّ ﷺ؛ وذلكَ ما إن يكذبَ كاذبٌ على سُنَّةِ النبيَّ ﷺ خِلالَ هذهِ القرون، إلَّا ويُهيِّء اللهُ جهابِذَةً وعلماءَ مُحدِّثينَ ويُبيِّنوا كّذِبَ هذهِ السُّنة التي أُدخِلَتْ في سُنَّةِ النبيِّ ﷺ.

ثُمَّ تفكَّروا وتأمَّلوا، كيفَ جعلَ العقلَ حكَمًا، واللهِ إنكَ لتعجبَ غايةَ العجَبِ، مِمَّنْ أصابَهُ الغرورُ والعُجْبُ، ورجعَ إلى عقليهِ وجعلَ عقلَهُ حكمًا، كيفَ تجعلُ عقلَكَ حكمًا تجاهَ كتابِ اللهِ وسُنَّةِ النبيِّ ﷺ؟ أتدري ما معنى هذا؟ حقيقةُ هذا القولِ -وتأمَّلوهُ- أنَّكَ تقولُ: يا ربِّ، لا أقبَلُ ما دعوتَ بهِ، ويا رسولَ اللهِ لو كُنتَ بينَ أظهُرِنَا وخاطَبْتنِي لَمْ أقبلَ كلامَكَ حتَّى أُرجِعَهُ إلى عقلي.

فإذَنْ جعلتَ العقلَ أصلًا، وجعَلْتَ الكتابَ والسنةَ تبعًا لعقلِكَ.

ثُمَّ كيفَ لعاقلٍ يعرِفُ مِقدارَ عقلِهِ، يجعلُ العقلَ أصلًا، وعقولُنَا تَتَفاوتُ، عقلُ فلانٍ ليسَ كعقلِ فلانٍ، واللهُ يقولُ: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 82].

بَلْ إنَّ عقلَ الرجلِ نفسَهُ يتفاوَتُ، كم استحسنَّا أمورًا اليوم، واستقبحناها قبلُ، وكم استقبحنا أمرًا اليوم، وقد استحسناهُ قبلُ، فكيفَ نجعلُ هذهِ العقولُ المتفاوتةُ بينَ العِبادِ، بل المُتفاوتةُ في الرجلِ نفسهِ، كيفَ نجعلُ ذلكَ مَرجِعًا نرجِعُ إليهِ؟

ثُمَّ مِن العجائِبِ، يأتيكَ آتٍ ويقولُ: لماذا تُعظِّمونَ الإمامَ البخاريَّ؟ أو الإمامَ مسلمًا؟ بحيثُ إنهُ إذا روَى البخاريُّ أو مسلمٌ حديثًا قلتُمْ إنهُ حديثٌ صحيحٌ؟

اِعلَمْ -علَّمنِي اللهُ وإيَّاكَ كُلَّ خيرٍ- أنَّ الحديثَ الصحيحَ حديثٌ صحيحٌ قبلَ أن يخلُقَ اللهُ الإمامَ البخاريَّ، بَلْ لَو لَمْ يخلُقِ اللهُ الإمامَ البخاريَّ ولا الإمامَ مسلمًا، فإنَّ الصحيحَ هوَ الصحيحُ.

إذَنْ ما وظيفةُ الإمامِ البخاريِّ ومسلمٍ؟ أنهُمْ نظروا في الأحاديثِ، فقسَّموها وجمعوا الصحيحَ في كتابٍ، ليسَ معنَى إخراجِ البخاريِّ للحديثِ الصحيحِ أنهُ أصبحَ صحيحًا لأنَّ البخاريَّ أخرجهُ، كلا! بَلْ هوَ صحيحٌ قبلَ أن يخلُقَ اللهُ الإمامَ البخاريَّ، ولو لم يخلُقِ اللهُ الإمامَ البخاريَّ يبقى الصحيحُ صحيحًا، وإنما وظيفةُ الإمامِ البخاريِّ -رحمه الله تعالى- أنهُ عزَلَ الأحاديثَ الصحيحةَ وقرَّبها للأمةِ، وهذهِ الأحاديثُ الصحيحةُ التي عزلَهَا البخاريُّ في تكابهِ الصحيحِ، لَمْ ينفَرِد بذلِكَ، بل أجمعَ على ذلِكَ جميعُ المحدِّثينَ والعلماءِ، وهُمْ أهلُ التخصُّصِ، وقديمًا قيلَ: مَن تكلَّمَ في غيرِ فنِّهِ أتى بالعجائب.

ثُمَّ الإمامُ البخاريُّ إمامٌ عظيمٌ، إمامٌ جِهبِذٌ فريدٌ، من فرائدِ أئمةِ الإسلامِ، كالإمامِ مسلمٍ، فلمَّا اجتهدَ في إخراجِ الأحاديثِ الصحيحةِ وافقهُ علماءُ عصرهِ، ثُم استمرَّ العلماءُ المتخصصونَ والمُحدِّثونَ الجهابِذةِ مِن فعلِ البخاريِّ إلى اليومِ، أكثر من مائتين وألفِ سنةٍ وهم يُعظِّمونَ صحيحَ البخاريِّ، ثُمَّ يأتيكَ من لا يُحسِنُ قراءةَ القرآنِ تلاوةً، بل قد لا يكونُ اطَّلَعَ على صحيحِ البخاريِّ بعينهِ، يأتيكَ بأسهلِ ما يكونَ فيرُدُّ الأحاديثِ لأنها في صحيحِ البخاريَّ!

وهذا مِن الخطأَ العظيمِ، ولو كانَ عاقِلًا يحترمُ عقلَهُ لمَا فعلَ ذلكَ.

وأُقرِّبُ ذلكَ بمثالٍ: لو أنَّ هناكَ رجلًا مهندسًا بارِعًا بنى قصرًا جميلًا، واجتهدَ في بِنائهِ، وكانَ بناؤهُ لهُ قبلَ خمسمائةِ سنةٍ، ثُمَّ أتى المهندسونَ المعماريونَ المتخصصونَ، ثُمَّ إنَّ العلماءَ المعماريينَ المتخصصينَ في زمانهِ نظروا إلى هذا البناءِ العظيمِ وأُعجِبوا بهِ، ثُمَّ المتخصصونَ في القرنِ الذي بعدهُ، والقرنِ الذي بعدهُ، يتواردونَ خِلالَ خمسمائةِ سنةٍ على تعظيمِ هذهِ البنايةِ، وقد يختلفونَ في شيءٍ قليلٍ، يقولونَ: لو قدَّمَ هذا، أو وضعَ هذا… شيئًا قليلًا غيرَ مُؤثِّرٍ في حُسنِ وإتقانِ البنايةِ.

ثُمَّ يأتيكَ رجلٌ لا يعرفُ ساسَهُ مِن رأسهِ، ولا عِلمَ لهُ بالهندسةِ، فيكتبُ في الصحافةِ: إنَّ هذا الذي بنى ليسَ معصومًا، وإنَّ هذا البناءَ ليسَ جميلًا، بَلْ هوَ بناءٌ متهافتٌ …إلى غيرِ ذلكَ. واللهِ مَن فعلَ ذلكَ أضحَكَ عليهِ المتخصصونَ من المهندسين المعماريين.

وهذا هوَ حالُ صحيحِ البخاريِّ، يتواردُ العلماءُ أكثرَ مِن ألفِ سنةٍ على تعظيمِ صحيحِ البخاريِّ والثناءِ عليهِ، وعلى أنَّ فعلَهُ كانَ مُتقنًا، ثم يأتيكَ مَن ليسَ مُتخصِّصًا فيقدحُ فيهِ بلا بَيِّنةٍ.

بَل مِن العجائبِ أن يأتيكَ آتٍ فيقولُ: هل البخاريُّ معصومٌ حتى يُقال كُلُّ ما أخرجَهُ البخاريُّ فهوَ صحيحٌ؟

يُقال: ليسَ معنى عدمِ عِصمةِ البشرِ أنَّ كُل ما فعلوهُ فهوَ خطأٌ، فإذَنْ كُلَّمَا فعلَ الإنسانُ فعلًا حسنًا يُقال: هذا الفعلُ ليسَ حسنًا لأنهُ غيرُ معصومٍ، أيقبلُ هذا عاقلٌ؟ كلا، وإنما الإمامُ البخاريَّ والإمامُ مسلمًا أتقنوا وأبدَعوا وتميَّزوا في هذا الصنيعِ العظيمُ، وهوَ إفرادُ الحديثِ الصحيحِ دونَ غيرهِ، وتواردَ العلماءُ على ذلكَ، فثناءُ العلماءِ لهذا الصنعِ لا يدلُّ على أنَّ الإمامَ البخاريَّ معصومٌ، وكذلكَ ذاكَ المهندسُ الذي بنى تِلكَ البنايةَ.

يأتيكَ مَن لا يعرفُ شيئًا ويقولُ: إنَّ هذهِ البنايةَ بنايةٌ خطأ …إلى غيرِ ذلكَ، بحُجَّةِ أنهُ غيرُ معصومٍ، وهذا لا يصحُّ عقلًا.

فاتَّقوا اللهَ إخوةَ الإيمانِ، فإنَّ الأمرَ عظيمٌ للغايةِ، وهوَ ردُّ سنةِ النبيِّ ﷺ، ردُّ الشريعةِ، دعوةٌ إلى الزندقةِ، دعوةٌ إلى تركِ الكتابِ والسنةِ باسمِ تعظيمِ القرآنِ، وهذا يُتناقَل اليومَ في القنواتِ الفضائيةِ، وفي مقاطعِ اليوتيوبِ، وفي تويتر وغيرِ ذلكَ، وأبناؤنا عُرضةٌ للتأثُّرِ بمثلِ هذا.

واللهِ وتاللهِ وباللهِ، قبلَ زمنٍ جلستُ معَ فتاةٍ في الجامعةِ مِن بناتِنا، وأبوها رجلٌ متديِّنٌ وصالحٌ، ودعاني أهلُها للجلوسِ معَها، مقتنعةٌ برَدِّ سُنَّةِ النبيِّ ﷺ، مِن بيتٍ صالحٍ، بسببِ هذه الشبهاتِ، وتنقُّلُها في تويتر والفيسبوك واليوتيوب… إلى غيرِ ذلكَ.

فالشُّبَهُ خطَّافةٌ، وأصبحَ المجتمعُ اليومَ كالقريةِ الواحدةِ، فتفقَّدوا أنفسَكُم، وتفقَّدوا أولادَكُم، واضبِطوا واعرِفوا هذه الشبهاتِ وجوابَهَا، فإنَّ جوابَها أسهلُ ما يكونُ، فما إن يفوهُ بِها فاهئٌ في مجلسٍ، إلَّا وقابِلوهُ بالحُجَجِ النبويِّةِ، وبالرُّدودِ الشريعةِ، لإسكاتهِ وإسكاتِ غيرهِ.

نسخة للطباعة
تنزيل الكتاب
نسخة للجوال
تنزيل الكتاب

شارك المحتوى:
1