خلق الحياء و أثره في النفس
الخطبة الأولى :
الحمد لله الذي من علينا بالإسلام ، و هدانا للإيمان ، و جعلنا خير أمة أخرجت للناس ، أحمده سبحانه و أشكره و أثني عليه الخير كله ، مَنَّ فأفضل ، و أعطى فأجزل ، و أنعم فتكرم ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لا معقب لحكمه و لا مبدل لكلماته و هو سريع الحساب ، و أشهد أن محمد عبده و رسوله ، خاتم أنبيائه و مبلغ أنباءه أرسله الله رحمة للعالمين و منة للمؤمنين و محجة للسالكين و حجة على المعاندين لينذر من كان حياً و يحق القول على الكافرين ، صلى الله عليه و على آله و أصحابه و من اتبع سنته و اهتدى بهداه ، أما بعد أيها الناس اتقوا الله تعالى حق التقوى ، و حافظوا على حدوده في السر و النجوى و أنيبوا إلى ربكم و أسلموا له و توجهوا إليه ، { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته و لا تموتن إلا و أنتم مسلمون } .
أيها المؤمنون بالله و لقائه ، لقد جاء الإسلام داعياًً إلى كل فضيلة ، آخذاً الناس بكل ما يوثق عرى المودة و المحبة فيما بينهم ، و من أعظم تلك الفضائل و أقواها أثراً في سلوك المسلم خلق الحياء ، هذا الخلق إذا غرس في النفس و نمت عروقه فيها ازداد رونقها صفاءً ، و نفض على ظاهر صاحبها مآثر خيراتحسان ، يعبر عنه الداعون إلى الفضيلة بصيغة الإنسانية ، و إذا انتزع الحياء من شخص فقد المروءة ، و أضاع الخلق الذي هو الجناح المبلغ لكل كمال ، الحياء أيها المسلمون خلق يبعث على ترك القبيح ، و انقباض النفس عما تذم عليه ، و ثمرته ارتداعها عما تنزع إليه الشهوة من القبائح ، فإذا تمزق ستر هذه الفضيلة بغلبة الشهوة على النفس ، اختلت هيئة الإنسانية بالضرورة ، و بقي صاحبها سائماً في مراتع البغي و الفساد و الفسوق ، { بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان } ، و الحياء خلق من مكارم الأخلاق ، يدل على طهارة النفس ، و حياة الضمير ، و يقظة الوازع الديني ، و مراقبة الله تعالى ، و هو الخلق المميز لأتباع هذا الدين كما أرشد إلى ذلك النبي صلى الله عليه و آله سلم بقوله : ( ” لكل دين خلق ، و خلق الإسلام الحياء ” ) أخرجه ابن ماجة و مالك في الموطأ .
و في الصحيح أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم مر على رجل و هو يعظ أخاه في الحياء فقال له النبي صلى الله عليه و آله و سلم : ( ” دعه فإن الحياء من الإيمان ” ) ، و معناه أن المستحي ينقطع بحيائه عن المعاصي ، فصار كل الإيمان القاطع بينه و بين المعاصي ، و لذلك عمم النبي صلى الله عليه و آله و سلم في بيان ثمرات الحياء ، فقال عليه الصلاة و السلام كما عند البخاري : ( ” الحياء لا يأتي إلا بخير ” ) ، و وصفه بأنه زينة للسلوك ، فقال عليه الصلاة و السلام : ( ” ما كان الفحش في شيء قط إلا شانه ، و لا كان الحياء في شيء قط إلا زانه ” ) أخرجه ابن ماجة بسند صحيح .
الحياء أيها المسلمون شعبة من شعب الإيمان يبعث في النفس معاني الخير ، و يضفي على الفؤاد نوراًَ يمشي به صاحبه في الناس ، فلا يسقط في عثرة و لا يقع في زلة و لا يهوي في شهوة و لا ينحرف عن الطريق السوي ؛ إيماناًَ منه بأن الله تعالى يراه و أنه منه قريب ، و تبارك الذي قال : { إن السمع و البصر و الفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً } ، و قال جل جلاله : { إن الله كان عليكم رقيباً } ، و قال تبارك اسمه : { الذي يراك حين تقوم و تقلبك في الساجدين إنه هو السميع العليم } .
و المؤمن يشعر بأن الله يراه في الدنيا على جميع أحواله فيستحي من ربه ، و الذي يستحي من ربه حري بأن يمنعه الحياء من الإقدام على المعصية .
و كيفي في فضيلة الحياء و أثره علي النفس أن الأنبياء السابقين عليهم السلام حذروا من كسر حاجز الحياء لئلا يقع المرء المعاصي ففي صحيح البخاري قال النبي صلى الله عليه و آله و سلم : ( ” إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى ، إذا لم تستح فصنع ما شئت ” ) .
أيها المؤمنون بالله و لقاءه ، إن خلق الحياء يتبوأ الذروة من مكارم الأخلاق ، إنه في النعمة شكر ، و في المحنة و البلاء تسليم و صبر ، و في القضاء إنصاف و عدل ، و مع الوالدين و الأرحام صلة و بر ، و في معاملة الضعفاء و الأرامل و الأيتام عطف و رحمة و رفق ، و في الودائع أمانة و رعاية ، و في الرجال جمال و زينة ، و في النساء عفة و طهارة و طاعة .
إن الحياء هو الحصن الحصين و السياج المنيع الذي يحمي الأمة من الانهيار ، و يصون بنيانها من التصدع ، و يحفظ أبناءها من الضياع ، و تأثيره في الأفراد و الأمم أقوى من أي تأثير في واقع الحياة ، لأنه خلق يلازم صاحبه في السر و العلن ، إذا تجرد المرء عن هذا الخلق العظيم هوى إلى الرذيلة و سقط في بحر لجي من الشرور و الآثام ، و تعرى عن كل فضيلة و مروءة ، و كان بغيضاً مبغضاً لا يثق به الناس ، و لا يأتمنونه على شيء ، و يعيش منبوذاً ممقوتاً من المجتمع الذي يوجد فيه ، لأن فاقد الحياء لا كرامة له لأنه باع دينه بعرض زائل حينما سولت له نفسه الأمارة بالسوء ارتكاب المنهيات و فعل الموبقات و اقتراف المنكرات و الوقوع في المحظورات و التردي في كل فاحشة و الانغماس في كل رذيلة بلا حياء و لا استحياء فانحدر عن قمة الكمال الإنساني إلى مهابط الرذائل ، و لا يزال يهوي من قبيح إلى أقبيح ، و من رذيلة إلى أرذل حتى يستقر في الدرك الأسفل من المهانة و الضياع ، و لله در من قال :
إذا رزق الفتى وجهاً وقاحاً تقلب في الأمور كما يشاء
و أبلغ من هذا قول النبي صلى الله عليه و على آله و سلم : ( ” إنما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى ، إذا لم تستح فاصنع ما شئت ” ) أخرجه البخاري .
أيها المؤمنون بالله و اليوم الآخر ، إذا رأيت الرجال قد فقدوا الغيرة على محارمهم ، و صار لبعضهم قلوب لا تغار ، و عقول لا تغير و لا تنكر ، فأين الحياء و أين العفة و أين الطهارة و أين القوامة و النخوة ، و إذا رأيت النساء خرجن كاسيات عاريات في الأسواق و الطرقات يعرضن أجسادهن و زينتهن ، فاعلم أنهن قد رفعن جلباب الحياء ، و أن الحياء قد فقد عندهن ، و أن الشرف و الفضيلة غاب عن واقعهن ، و سلكن مسالك الريبة و مواطن الرذيلة ، و إذا رأيت الشباب يخرج من بيته مزهواً بنفسه لا هم له إلا العلو و التعالي على غيره ، يحتقر الناس و يرميهم بأسوأ الألفاظ ، و يباشرهم بالازدراء و يتعرض لهم في الطرقات بالألفاظ البذيئة و النظرات المهينة ، و يجلس بين قرناءه و أصدقاءه ثم يتباهى بذكر ما فعله من المعاصي و الموبقات ، فاعلم أن هؤلاء شباب خلعوا ثوب الحياء أمام الله ثم أمام الناس ، و لم يراقبوا ربهم لضعف إيمانهم و قلة دينهم و سوء تربيتهم .
لقد كان أهل الجاهلية في جاهليتهم يتحرجون من بعض القبائح بدافع الحياء ، و من ذلك ما جرى مع أبي سفيان عند هرقل لما سئل عن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم ، فقال في ذلك : ” فو الله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذباً لكذبت عنه ” ، فمنعه من الحياء الافتراء على رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم لأن لا يوصف بالكذب و يشاع عنه في ذلك ، أخرجه البخاري .
فلو أن هؤلاء الشباب لبسوا رداء الحياء و اصتبغوا بصبغته لما وجدت هذه الميوعة الأخلاقية التي تجتاح الشباب اليوم و تجرف الكهول و تطلق الألسنة بالفاحش من القول ، و لو كان هناك شعور بالخوف من الله جل و عز و إحساس بالمسئولية نحو الدين و القيم لارتفعت الأخلاق عن هذا المستوى البغيض الذي هوت إليه و لوجدنا جيلاً من الشباب الصالح الذي يعمل لرفعة دينه و إعزاز أمته ، و لوجدنا شابات مسلمات يأتمرن بأمر الله و يطعن الله و رسوله في كل ما أمر الإسلام و جاء به محمد عليه الصلاة و السلام ، فما أجمل أيها المسلمون أن نتخلق بالحياء و أن يكون لنا منه الزاد الذي تواجه به الأعاصير التي تعصف بكل القيم و المبادئ التي تقع اليوم ، ما أحسن أن يكون الحياء سياجاً لنا يحجِبُ علينا نور الإيمان و يلبسنا ثوب الطهر و العفاف ، و كم يحتاج المسلمون اليوم إلى إحياء هذا الخلق بالالتزام بالكلمة و الارتداع عن الوقوع في القبائح أو الشبهات بشيء من الحياء .
نسأل الله أن يثبتنا على شيء من الإسلام و أن يرزقنا لزوم الصراط المستقيم إنه ولي ذلك و القادر عليه ، أقول هذا القول و أستغفر الله لي و لكم من كل ذنب فاستغفروه و توبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية :
الحمد الله على إحسانه ، و الشكر له على توفيقه و امتنانه ، و أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه ، أما بعد أيها الناس ، اتقوا الله تعالى حق التقوى ، و استقيموا على طاعة ربكم و استجيبوا له ، فإن صاحب الحياء يذوب خجلاً من كسر حجاب الفضيلة و ولوج أبواب الرذيلة ، صاحب الحياء يراقب ربه و يحاسب نفسه و يعمل لآخرته قبل أن يعمل لدنياه ، صاحب الحياء يطهر لسانه من الفحش و معيب الألفاظ ، فإن من سوء الأدب أن تنفلت الألفاظ البذيئة من المرء غير عابئ بمواقعها و آثارها ، صاحب الحياء يتوقى و يتحاشى أن يؤثر عنه سوء أو تتلوث سمعته بما لا يليق ، و يبتعد عن موارد الشبهة و مواطن الإشاعات السيئة و التهم .
الحياء يحجز النفس عن كثير من خوارم الدين و قوادح المروءة ، صاحب الحياء يعرف لأصحاب الحقوق منازلهم و مراتبهم فيعطي كل ذي فضل فضله فالابن يوقر أباه و التلميذ يحترم المعلم و الصغير يتأدب مع الكبير و الكبير يرحم الصغير ، و ينبغي أن نعلم أيها المسلمون أن الحياء ليس مانعاً من العلم أو طلب الحق أو الدعوة إليه فلا يتعلم العلم مُستحٍ و لا مُستكبر ، و كانت أم سُليَم رضي الله عنها تسأل عن مسائل دقيقة من أحكام النساء و تستفتح سؤالها بقولها : ” يا رسول الله إن الله لا يستحي من الحق ” أخرجه البخاري .
و قال مجاهد : ” لا يتعلم العلم مستحٍ و لا متكبر ” .
و الحياء في مثل هذا مذموم في الشرع ، أما الحياء الممدوح في الشرع فهو الذي يقع على وجه الإجلال و الاحترام و ترك القبيح ، و كذلك مظاهر الخجل الاجتماعي لا يمكن أن تكون من الحياء المحمود ، و ينبغي أن يعود الصغير على الحياء الممدوح في الشرع و يجنب الخجل في حياته و تعامله الذي هو حياء مذموم ، كما أنه لا يصح أن يكون الحياء مانعاً من قول الحق إذا ناسب ذكره في ذلك المقام ، و من المقرر عند أهل العلم أن من امتنع عن مواجهة الحق و الدعوة إليه و أخلَّ بشيء من الواجبات على زعم منه أن ذلك من الحياء فهو في عمى مبين و ضلال و بعد عن الدين ، فحقيقة الحياء ما بعث على ترك على القبيح و منع من التقصير في حق كل ذي حق ، و اتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ، ثم صلوا و سلموا على الهادي البشير و السراج المنير فقد أمركم بذلكم ربكم في كتابه المبين ، فقال عز من قائل عليماً : { إن الله و ملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه و سلموا تسليماً } .
و قال عليه الصلاة و السلام : ( ” من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً ” ).
اللهم صلى و سلم و بارك على عبدك و رسولك محمد النبي الصادق الأمين ، و على أهل بيته الطيبين و خلفائه الراشدين أبي بكر و عمر و عثمان و علي و سائر الصحابة و التابعين و عنَّا معهم بعفوك و كرمك يا أرحم الراحمين ، اللهم إنا نتوجه إليك و أنت في عليائك أن تعز الإسلام و تنصر المسلمين و أن تعلي بفضلك كلمة الحق و الدين ، اللهم أعز الإسلام و المسلمين و أذل الشرك و المشركين و دمر أعدائك أعداء الدين يا رب العالمين ، اللهم انصر عبادك المؤمنين الموحدين في كل مكان ، اللهم ثبت أقدامهم و اربط على قلوبهم ، و مدهم بعونك و توفيقك يا رب العالمين و اجعلهم ظاهرين على عدوهم ، اللهم إنَّا نسألك الثبات في الأمر و العصمة من الزيغ و الضلال و التخلق بالحياء و الصلاح ، و البصيرة في الدين و السداد في القول و العمل ، اللهم وفقنا للهدى و الرشاد و جنبنا أسباب الشر و الفساد ، و آمنا في أوطاننا ، و أصلح لنا أئمتنا و ولاة أمورنا و اجعل ولايتك فيمن خافك و اتقاك و اتبع رضاك يا رب العلمين ، أللهم وفق إمامنا بتوفيقك و أيده بتأيدك ، أللهم زده من البر و التقوى ، و جنبه أسباب الشر و البلوى ، اللهم احفظ به أمن البلاد و احرس به حدودها و أمِّن به سبلها ، اللهم وفقه و إخوانه لهداك ، و اجعل عملهم في رضاك و هيئ لهم بطانة صالحة ناصحة تدلهم على الخير و تعينهم عليه يا رب العالمين .
اللهم إنا نسألك الهدى و التقى و العفاف و الغنى ، اللهم و أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أولياؤك و يذل فيه أعداؤك ، و يؤمر فيه بالمعروف و ينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء ، اللهم اشرح صدورنا و يسر أمورنا و اغفر ذنوبنا يا رب العالمين ، اللهم يسرنا لليسرى و جنبنا العسرى و ارزقنا يا ربنا التوفيق في الدنيا و الأخرى.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة و في الآخرة حسنة و قنا عذاب النار ، و أقم الصلاة إن الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر و لذكر الله أكبر و الله يعلم ما تصنعون .