يقول السائل: ذكرت جواز الرمي قبل الزوال في اليوم الثاني عشر، وصح عن ابن عمر النهي، وثبت أنه قال: «كنا نتحين، فإذا زالت الشمس رمينا»؟
يُقال جوابًا عن هذا السؤال: ثبت عن ابن عمر في الموطأ: أنه نهى رضي الله عنه عن الرمي قبل الزوال، وقال رضي الله عنه: «لا ترمِ الجمار في الأيام الثلاثة حتى تزول الشمس»، أخرجه مالك في “الموطأ”، وهذا صحيح عن ابن عمر رضي الله عنه، وفي “البخاري”: قال: «كنا نتحين حتى إذا زالت الشمس رمينا»، «نتحين» أي: نتحرى الوقت، أي: وقت الرمي، وهو إذا زالت الشمس رمينا.
هذا الأثر عن ابن عمر وحده يدل على منع الرمي قبل الزوال، وظاهره أنه لا يجزئ، لكن ثبت عن ابن عباس رضي الله عنه فيما روى ابن أبي شيبة عن ابن أبي مليكة قال: رمقت ابن عباس في الظهيرة رمى قبل الزوال، هذا صريح في أن ابن عباس رمى قبل الزوال.
والأصل في أقوال الصحابة أنه يوفق بينها، وألَّا تجعل عارضة، ذكر هذا ابن قدامة رحمه الله تعالى في كتاب “المغني”، وذكره شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في كتاب الصيام من “شرح العمدة”.
بهذا يمكن الجمع بين قول ابن عمر وفعل ابن عباس، بأن يحمل قول ابن عمر على الأكمل، وفعل ابن عباس رضي الله عنه على الجواز.
وقوله: « كنا نتحين»، أي: ننتظر، وهذا من المعلوم أنه فعل، والفعل أصوليًا لا يقتضي الوجوب، لذا؛ دل هذا على أنه ليس واجبًا، أي بمجرد الفعل، فإن الفعل لا يفيد الوجوب، وإنما كانوا ينتظرون مثل هذا الوقت، ثم يرمون رضي الله عنهم.
فإذًا، ما تقدم من قول ابن عمر وفعله في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه إشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم معهم، أنهم ينتظرون، ثم يرمون، هذا فعل، والفعل لا يقتضي الوجوب.
أما أمره فبمقتضى فعل ابن عباس فهو يدل على عدم الوجوب، وإلى هذا القول ذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى في رواية إسحاق بن منصور الكوسج، وذهب إلى هذا إسحاق بن راهويه، كما في رواية إسحاق بن منصور الكوسج.
واحتج إسحاق بن راهويه بأثر لابن عباس رضي الله عنه، غير اللفظ الذي في الموطأ، وقد جزم به إسحاق؛ والأصل في الأئمة إذا جزموا بشيء من حديث أو أثر، ولم نقف عليه أنه يعتبر بجزمهم لاسيما ومن هم في باب العِلم والعِلَل، رحمهم الله تعالى رحمة واسعة، الأثر الذي جزم به روى نحوًا من لفظه البيهقي بإسناد ضعيف.
لذا؛ قد يقال: إن إسحاق أراد هذا، وقد يقال: أراد الأثر من طريق آخر صحيح، وهو الأظهر – والله أعلم-.
وعلى كل يكفي أنه صح عن ابن عباس عند ابن أبي شيبة، فبهذا يتبين – والله أعلم- أن من رمى قبل الزوال صح فعله، لكن هذا مقيد بطلوع الشمس، كما نص على هذا الإمام أحمد وإسحاق.
ومما أؤكد عليه أن الخلاف في المسألة خلاف معتبر؛ لأن العلماء مختلفون في ذلك اختلافًا معتبرًا.
فقد ذهب إلى هذا أحمد في رواية، وإسحاق بن راهويه، وعطاء، وهو فعل ابن عباس رضي الله عنه، وأحد قولي أبي حنيفة، لذا؛ وقد ذكر الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى أن الخلاف في المسألة خلاف معتبر، وهذا واضح بذكر العلماء له في كتب الخلاف، فمن تبين له هذا القول فليعمل به، ومن تبين له الآخر فليعمل به، ولا يشدد بعضنا على بعض.
لكن مما يستغرب أن بعض أهل العلم يتمسك بأثر ابن عمر هذا، وفي المقابل ترك أثر ابن عمر في عدم جواز الرمي بليل، وهو قوله: كما ثبت عند البيهقي، قال: «إذا غربت الشمس فارمِ مع اليوم الذي بعده»، فنهى عن الرمي بليل، فترك أثر ابن عمر الصريح في النهي عن الرمي بليل، وليس له مخالف من الصحابة في الرمي بليل، وفي المقابل عمل بأثر ابن عمر مع أن له مخالفًا من الصحابة.
ولم يثبت في السنة النبوية أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى بليل، أو أجاز الرمي بليل، أما قوله في حديث عبد الله بن عمرو في مسلم، قول الرجل: رميت بعد ما أمسيت، هذا في جمرة العقبة، وجمرة العقبة حكمها مختلف عن الجمار الثلاث، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى: فقوله: «بعد ما أمسيت» يراد به قبل غروب الشمس، بدليل أن السؤال كان في يوم النحر، ويوم النحر ينتهي بغروب الشمس.
فلذا، قوله: «رميت بعد ما أمسيت» المراد به قبل غروب الشمس.
فعلى هذا القول تنزلًا يصح الاستدلال به، إذا قيل بالجمرات الثلاث، فإن السؤال كان في يوم لم تغرب شمسه بعد، والذي نهى عنه ابن عمر هو الرمي بعد غروب الشمس، في الجمرات الثلاث دون جمرة العقبة.
أسأل الله أن يعلِّمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما عَلَّمَنا، وجزاكم الله خيرًا.