سعة مغفرة الله
الحمد لله واسع المغفرة عظيم الفضل والهبه ، له الحمد في الأولى والآخرة ، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) اما بعد :
عباد الله : يقول المولى جل وعلا : ( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين ) أي بادروا وتقدموا الى فعل الطاعات .
ويقول جل وعلا : ( سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض )
وإعلانا بسعة مغفرته سبحانه تمدح ربنا جل جلاله
بأسماء ثلاثة تدل على مغفرته، فهو -سبحانه وتعالى- غافر الذنب وهو -سبحانه وتعالى- الغفور وهو سبحانه وتعالى الغفار، قال تعالى:(غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ ) ، وقال تعالى:(وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)
عباد الله : قد يغفر الله للعبد مغفرة فيمشي على وجه الأرض وما عليه من خطيئة، فقد غفر الله ذنوب خلقه، برحمتهم لخلقه.
في الصحيحين أن بغيا من بغايا بني إسرائيل، كانت على المعاصي والفجور، مرت على أنجس البهائم، مرت على كلب يلهث يأكل الثرى عطشا، ويتقلب على الأرض ظمأ، فانكسر قلبها، ورق فؤادها هذه المرأة الزانية البغي لهذا الكلب، فنزلت إلى البئر، فملأت خفها ماء، وسقت الكلب الظمآن، فشكر الله لها، وغفر ذنوبها. غفر الله ذنوب هذه الزانية البغي، بسبب رحمتها لهذا الكلب.
وفي الصحيحين أن رجلا مر على غصن شوك في طريق المسلمين، فلما رآه، تداعى قلبه شفقة على الناس وقال: والله! لأنحينه عن طريق المسلمين حتى لا يؤذيهم، فزحزحه عن طريقهم، فغفر الله له ذنوبه وأدخله الجنة .
ما أعظم فضله سبحانه .
وذنوبُ بني آدم وإن كثُرت ففضلُ الله سابِغٌ على عباده؛ إذ شرعَ لهم طاعاتٍ يُوالِيها عليهم لتُكفَّرَ عنهم سيئاتُهم.
فمن تلكم الأسباب الموصلة لمغفرة الله وهو أعظمها وأجلها توحيد الله تعالى، فمن تحقق بكلمة التوحيد قلبه أخرجت منه كل ما سوى الله محبة وتعظيما وإجلالا ومهابة وخشية ورجاء وتوكلا ، فأحرقت ذنوبه وخطاياه، روى الترمذي وصححه الألباني عن أنس بن مالك رضي عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:( يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَة )
عباد الله : ولأهمية الصلاةِ وفضلِها وعظيم شرفِها كانت إقامتُها وأفعالٌ وأقوالٌ تسبِقُ أداءَها سببَ غُفران الذنوب؛ فالأذانُ لها يحُطُّ الله به الخطايا؛ بل ويُغفَرُ للمُؤذِّن مدَّ صوته، و«إذا قال المُؤذِّنُ: أشهد أن محمدًا رسول الله، فقال من سمِعَه: وأنا أشهد، رضيتُ بالله ربًّا، ومُحمدٍ رسولاً، وبالإسلام دينًا غُفِرَ له ذنبُه»؛ رواه مسلم.
ومن أحسنَ الوضوءَ خرجَت ذنوبُه مع قطرِ الماء أو مع آخره،
فإن هو «قام فصلَّى فحمِدَ الله وأثنَى عليه ومجَّدَه بالذي هو له أهلٌ، وفرَّغَ قلبَه لله إلا انصرَفَ من خطيئتِه كهيئتِه
يوم ولدَتْه أمُّه»؛ رواه مسلم.
«ولا يتوضَّأُ رجلٌ مسلمٌ فيُحسِنُ الوضوءَ فيُصلِّي صلاةً، إلا
غفَرَ الله له ما بينَه وبينَ الصلاة التي تلِيها» .
وخُطواتُ المشي إلى الصلاة إحداهُما تحُطُّ خطيئةً والأُخرى
ترفعُ درجةً، وإسباغُ الوضوء على المكارِه، وكثرةُ الخُطا إلى المساجِد، وانتظارُ الصلاة بعد الصلاة تمحُو الخطايا وترفعُ الدرجات.
ومن أتى المسجِدَ ينتظرُ الصلاةَ تعرَّضَ لنفحاتِ الله بدُعاء الملائكة له بالمغفرةِ والرحمة، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يزالُ أحدُكم في صلاةٍ ما دام ينتظِرُها، ولا تزالُ الملائكةُ تُصلِّي على أحدِكم ما دام في المسجِد تقول: اللهم اغفِر له، اللهم ارحمه، ما لم يُحدِث) .
وإذا أمَّنَ الإمامُ بعد قراءة الفاتحة وأمَّن المأمومُ «فوافقَ تأمينُه تأمينَ الملائكةِ غُفِر له ما تقدَّم من ذنبِه ).
«وإذا قال الإمامُ: سمِع الله لمن حمِدَه، وقال المأمومُ:
اللهم ربَّنا لك الحمدُ، فإنه من وافقَ قولُه قولَ الملائكة غُفِر له ما تقدَّم من ذنبِه» .
والصلواتُ الخمسُ تحُطُّ السيئات، قال – عليه الصلاة
والسلام -: «أرأيتم لو أن نهرًا ببابِ أحدِكم يغتسِلُ منه كل يومٍ خمسَ مراتٍ هل يبقى من درَنه شيءٌ؟». قالوا: لا يبقَى من درَنه شيءٌ. قال: «فذلك مثَلُ الصلوات الخمسِ،
يمحُو الله بهنَّ الخطايا» .
وفي كل أسبوعٍ عبادةٌ تُكفِّرُ صغائرَ الذنوب،وهي في أعظم أيامه ، في هذااليوم ، يقول صلى الله عليه وسلم: «لا يغتسِلُ رجلٌ يوم الجمعة ويتطهَّر ما استطاعَ من طُهرٍ ويدَّهِنُ من دُهنه أو يمسُّ من طِيب بيته، ثم يخرجُ فلا يُفرِّقُ بين اثنين، ثم يُصلِّي ما كُتِب له، ثم يُنصِتُ إذا تكلَّم الإمامُ، إلا غُفِر له ما بينه وبين الجُمعة الأخرى» .
ومن أبواب المغفرة وأعظم أسباب محو الخطايا والموبقات، الدعاء ،ففي الحديث السابق: “يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي”
ومنها التوبة وأعظم علاماتها: ندم القلب والجنان، ثم:
استغفار اللسان، ثم: الإقلاع وصلاح حال الجوارح والعزم على عدم العود للمعصية ، فإن عاد تاب مرة أخرى بالشروط السابقة ، يقول جل وعلا : (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ )
روى الشيخان عن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :” إن رجلا أذنب ذنبا فقال : يا رب أذنبت ذنبا فاغفر لي فقال الله عبدي : عمل ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي ثم عمل ذنبا آخر فقال : يا رب أذنبت ذنبا فاغفر لي فقال الله عبدي : عمل ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنوب ويأخذ به قد غفرت له ثم أذنب ذنبا فقال : يا رب أذنبت ذنبا فاغفر لي فقال الله عبدي : أذنب ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي أشهدكم أني قد غفرت لعبدي
فليعمل ما شاء ” وهذا في حق من تاب توبة صادقة بعدم العود للمعصية ولكن سولت له نفسه والشيطان فوقع فيها.
أسأله سبحانه أن يكفر سيئاتنا ويغفر لنا ولوالدينا
إنه هو التواب الرحيم .
أقول ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم .
الخطبة الثانية :
الحمد لله ذي الفضل والكرم ، عظيم المنن ، والصلاة والسلام على المبعوث بأهدى السنن صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :
عباد الله : من فضل الله على المُؤمن: أن أقوالَه وأعمالَه الصالحة إن قصُرَت به فإنه يُكفِّر عنهم ذنوبَهم بما يُصيبُ قلوبَهم من الهموم والأحزان والغموم، قال – عليه الصلاة والسلام -: «ما يُصيبُ المُسلِمَ من همٍّ ولا حزنٍ ولا أذًى ولا غمٍّ إلا كفَّر الله بها من خطاياه»؛ متفق عليه.
والمصائب والبلايا، والأمراض والرزايا، تنزل بالمسلم، فيعلم أنها بقدر الله، فيصبر عليها، ويحتسب الأجر فيها، فتكون سببًا لمغفرة ذنوبه، وتكفير سيئاته، قال تعالى: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)، وفي الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفّر الله بها عنه، حتى الشوكة يشاكها”.
إلا أنه يجب الحذر وأخذ الحيطة بمدافعة ما يمنع وصول تلكم المغفرة لك عبد الله ، ومن ذلك :
وهو أخطرها الشرك ، فمن واقع الشرك فهو حري بمنع المغفرة له ؛ يقول جل وعلا: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ).
ومن ذلكم المجاهرة بالذنب بإظهاره أو التحدث به بعد وقوعه ، روى الإمام البخاري رحمه الله تعالى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل أمتي معافىً إلا المجاهرين ) معافى من العفو وهو مغفرة الذنب ، ( الا المجاهرين ) لأن في الجهر بالمعصية استخفاف بمن عصي وهو الله عز وجل،وهذا من أسباب قبح هذه المعصية وزيادة شناعتها لما فيها من الاستهانة وعدم المبالاة ودعوة الآخرين إليها ، مما يضعف الانكسار والذل والافتقار لله جل وعلا ، الأمر الذي يكون حاجبا له عن الاستغفار والتوبة .
قال الحافظ ابن رجـب -رَحِــمهُ الله- 🙁 وﻣﻦ اﻟﺬﻧﻮﺏ اﻟﻤﺎﻧﻌﺔ ﻣﻦ اﻟﻤﻐﻔﺮﺓ اﻟﺸﺤﻨﺎء، ﻭﻫﻲ ﺣﻘﺪ اﻟﻤﺴﻠﻢ ﻋﻠﻰ ﺃﺧﻴﻪ ﺑﻐﻀﺎ ﻟﻪ ﻟﻬﻮﻯ ﻧﻔﺴﻪ، ﻭﺫﻟﻚ ﻳﻤﻨﻊ ﺃﻳﻀﺎ ﻣﻦ اﻟﻤﻐﻔﺮﺓ ﻓﻲ ﺃﻛﺜﺮ ﺃﻭﻗﺎﺕ اﻟﻤﻐﻔﺮﺓ ﻭاﻟﺮحمة ) روى مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تُفتَحُ أبوابُ الجنَّةِ يومَ الاثنينِ ويومَ الخميسِ، فيُغفَرُ لِكُلِّ عبدٍ لا يشرِكُ باللَّهِ شيئًا، إلَّا رجلًا كانت بينَهُ وبينَ أخيهِ شحناءُ، فيُقالُ: أنظِروا هذَينِ حتَّى يصطلِحا.. أنظِروا هذَينِ حتَّى
يصطلِحا.. أنظِروا هذَينِ حتَّى يصطلِحا )
قال الشيخ ابن باز 🙁 ومن الأسباب التي تمنع المغفرة، الإصرار على الكبائر، كما قال عز وجل: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) فشرط في هذا عدم الإصرار، والإصرار: هو الإقامة على المعصية، وعدم التوبة منها، وهو من أسباب عدم المغفرة ) فإصرار القلب علامة على عدم انزعاجه من المعصية ، ولهذا ذكر الحافظ ابن رجب أن الإصرار بالقلب ولو مع التلفظ بالاستغفار مانع من المغفرة وأورد حديث ابن عمر عند أحمد وصححه الألباني : (ويل للذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون) .
وما ثبت في الشعب للبيهقي بسند حسن عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال:( المستغفر من ذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه).