يقول السائل: سمعت أن بعض المشايخ يُنكرون الاستدلال بالقياس، فما رأيك؟
الجواب:
ليس لي ولا لغيري رأي في هذه المسألة؛ لأن هذه المسألة من المسائل المبتوتة عند أهل السنة، فقد دل على حجية القياس وعلى أنه دليل يصح الاستدلال به بشروطه: الكتاب والسنة والإجماع، وأدلة الكتاب والسنة في ذلك كثيرة وقد بسطها العلماء وتكلم عليها الأصوليون وتكلم على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- كما في (مجموع الفتاوى)، وابن القيم في كتابه (أعلام الموقعين)، وذكره غيرهم من أئمة السنة.
ومن أدلتهم في ذلك قوله تعالى: ﴿ اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ ﴾ [الشورى: 17] ومن أدلتهم: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [فصلت: 39] ومن أدلتهم ما روى البخاري ومسلم من حديث ابن عباس في المرأة الجهنية التي قالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: «حُجِّي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنتي قاضيته؟ اقضُوا الله فالله أحق بالوفاء».
ومن أدلتهم ما روى الدارقطني وغيره في رسالة عمر لأبي موسى، فإنه أمره بأن يُقايس الأمور، وقوى هذه الرسالة ابن حجر في كتابه التلخيص الحبير، وصححها العلامة أحمد شاكر والعلامة الألباني وغيرهم.
ومن أدلتهم الإجماع الذي حكاه المزني وحكاه ابن عبد البر وابن قدامة وغيرهم من أهل العلم، بل قال ابن عبد البر وابن قدامة: أول من خالف في هذه المسألة النظام المعتزلي، فالقياس دليل مهم وينبغي أن يعتني به أهل السنة ولا يصح لأحد أن يُنكره، وقد قال الإمام أحمد: لا يستغني عن القياس فقيه. ذكره أبو يعلى في كتابه (العدة).
وبيَّن الإمام أحمد أن الفقيه تزل به القدم في القياس وفي الألفاظ المجملة، قال: ليجتنب المتكلم في الفقه المجمل والقياس. وهذا حق، فإنه مزلة أقدام، لكن إذا لم يوجد إلا هو فيُصار إليه، كما ذكر ذلك الشافعي في كتابه (الرسالة) وقال: القياس كالميتة لا يُصار إليه إلا عند الضرورة. وسأل الإمام أحمد الإمام الشافعي عن القياس فقال: هو كالميتة، لا يُصار إليه إلا عند الضرورة.
وبيَّن الزركشي في كتابه (البحر المحيط) أن معنى كلام الشافعي أي: أنه لا يُصار لدليل القياس إلا إذا لم يوجد إلا هو، فالمقصود أن القياس دليل صحيح لا يصح لأحد أن يُنكره.
فإن قيل: كيف نرجع للقياس وقد أمرنا الله أن نرجع إلى الكتاب والسنة؟
فيقال: إن رجوعنا إلى القياس الصحيح هو من الرجوع إلى الكتاب والسنة؛ لأن الله في الكتاب والسنة قد أمرنا بالرجوع إلى القياس فيما تقدم من الأدلة، وهناك أضعاف أضعاف هذه الأدلة، فالرجوع إلى القياس هو من طاعة الله والرجوع للكتاب والسنة لأن الله أمرنا بالرجوع إليه، ولازم هذا الاستدلال أن يُقال: إن الإجماع ليس حجة لأن الله أمرنا أن نرجع للكتاب والسنة… إلى غير ذلك من اللوازم الباطلة.
ثم ينبغي أن يُعلم أن القياس ليس واحدًا، بل القياس ينقسم إلى قياس صحيح وقياس فاسد، والقياس الصحيح يسمى الميزان، وكلام السلف في الاحتجاج بالقياس يُراد به الصحيح، وكلامهم في رد القياس يُراد به الفاسد، هذا ما بيَّنه ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كتابه (أعلام الموقعين)، وقد ذكر ابن تيمية -رحمه الله تعالى- أن القياس نوعان، قياس فاسد وقياس صحيح، ولا أريد أن أطيل في مثل هذا لكن أرجو من أهل الفضل وأهل العلم ممن يُنكر حجية القياس أن يتقي الله وأن يعيد النظر في ذلك وأن يسلك مسلك أهل السنة في هذا الباب.
أسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا، وجزاكم الله خيرًا.