يقول السائل: سمعت مقطعًا لصلاح أبي عرفة، ليتك ترد عليه ولو بإشارات، ينتقض دعوة شيخ الإسلام محمد عبد الوهاب، ويرد على العلامة صالح الفوزان في دفاعه عن الدعوة.
وفي ثنايا كلامه أنكر الإجماع والتمذهب من المذاهب الأربعة، وذكر ذكر نواقض الإسلام العشرة بدعة؛ لأنه لا دليل على هذا الحصر إلى آخر كلامه؟
يُقال جوابًا عن هذا السؤال: منذ أن خرجت دعوة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى وهي دعوة تجديدية، لدعوة السلف الصالح، وللدعوة التي عليها النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام.
منذ أن خرجت هذه الدعوة المباركة فقد تصدى لها دعاة الباطل، والبدعة، والشرك، وحاولوا إسقاطها، وإلصاق التهم الباطلة بها، لكن تصدَّى لرد شبهاتهم الإمام نفسه شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، ثم بعد ذلك أنصار دعوته من أبنائه وتلاميذه.
وممن نصر دعوته من أهل نجد والحجاز والجزيرة كلها، بل من العالم الإسلامي بل ومن غير العالم الإسلامي، من علماء الهند وغيرهم ، ومِن أحسن الكتب التي كتبها الهنود في الدفاع عن هذه الدعوة، كتاب” صيانة الإنسان في كشف وساوس ابن دحلان” للعلامة محمد بشير السهسواني.
فالمقصود أن علماء السنة تواردوا في الدفاع عن هذه الدعوة، وبيان أن لا شيء عند الخصوم، ومن نظر في دفاعهم عن الدعوة علم أن ما يلصق بدعوة الشيخ ما بين كذب أو حق زيد فيه وينقص، أو حق؛ لكن أهل الباطل لا يرضون ذلك، وهذا الحق مبني على الكتاب والسنة.
فلذا لا أحتاج إلى تكرار الكلام في الدفاع عن هذه الدعوة المباركة، فقد مضى عليها ما يقرب من ثلاثة قرون، ولن يجد خصومهم شيئًا يقدحون به في أصل دعوته إلى توحيد الله سبحان الله تعالى، وما اشتهر مخالفته فيه لمن خالفه من دعاة الشرك أو البدعة أو الضلالة، ثم لو كان هناك أمر تذم به الدعوة لفاز بهذا الأمر خصومه الذين عاصروه أو من جاء بعدهم.
لكن بحمد الله بعد مضي هذه القرون لم يكن عندهم شيء ولله الحمد؛ لأن دعوة الشيخ قائمة في أصولها على كتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وما أجمع عليه العلماء، وما عليه سلف هذه الأمة.
أما إنكار الإجماع فهذا خطأ كبير، وقد بين العلماء قاطبة أن أول من أنكر الإجماع المعتزلة، وتحديدًا هو النظَّام المعتزلي، يا سبحان الله كيف يرضى رجلٌ يريد الله والدار الآخرة أن يفزع إلى طائفة وفريق المعتزلة الذي يتقدمه النظام المعتزلي، ويدع طريقة الصحابة الكرام، والتابعين لهم بإحسان، والعلماء السائرين على طريقتهم.
إن مجرد العلم بأن أول من خالف في ذلك النظام المعتزلي هو كاف في إسقاط هذا القول ورد الإجماع، وكيف وقد تكاثرت الأدلة في بيان حجية الإجماع؟!
والذين ينكرون الإجماع كلامهم يدور على أمور: من أهمها: أنه لم يتصوروا وجه كون الإجماع حجة، ولم يتصوروا الأدلة الظاهرة في ذلك.
وبعضهم يتمسك بكلمة الإمام أحمد: “من ادعى الإجماع فهو كاذب”، ويظن أن الإمام أحمد رحمه الله تعالى ممن ينكر الإجماع، وهذا كذب على أبي عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى.
فلذا لا تجد أحدًا من أصحابه، ولا من العلماء العارفين بأقواله ينسبون إليه أنه ينكر الإجماع مطلقًا، وإنما بيَّن أصحابه كأبي يعلى الحنبلي وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهم أن الإمام أحمد لا ينكر الإجماع، وخرجوا كلامه على أمور:
منها: أنه يحكي ذلك فيمن ليس أهلًا لحكاية الإجماع، ويتساهل في ذلك كما هو حال أهل البدع، لذا ذكر أن هذه دعوة أهل البدع كبشر المريسي والأصم.
ويؤكد ذلك أن الإمام أحمد نفسه حكى الإجماع في مسائل كثيرة:
فقد حكى الإجماع على أن الاعتكاف مستحب ،وعلى أن قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204] أن ذلك في الصلاة، وعلى أن من تذكر صلاة حضر في سفر فإنه يصلي صلاة الحضر، وعلى أن أولاد المسلمين في الجنة إلى غير ذلك من المسائل الكثيرة التي ذكر الإمام أحمد رحمه الله تعالى فيها الإجماع.
أما ما ذكر السائل من إنكار التمذهب بالمذاهب الأربعة، هذا أيضًا خطأ، وأعني بذلك إنكار التمذهب بالمذاهب الأربعة على الإطلاق، وذلك أن التمذهب بالمذاهب الأربعة له حالان:
الحال الأولى: أن يبين الدارس للعلم أنه درس الفقه على مذهب أبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد، فيكون هذا من باب الإخبار، كما يخبر رجل أنه من البلد الفلاني، أو أنه من القبيلة الفلانية إلى غير ذلك.
فإن مثل هذا جائز، وقد توارد عليه العلماء من قرون طويلة، بل وتوارد على ذلك العلماء المحققون كشيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن القيم وغيرهم من أئمة الإسلام رحمهم الله تعالى.
فمثل هذا ليس مذمومًا، وإنما هو إخبار بأنه تمذهب على هذا المذهب، كما يخبر الرجل أنه من البلد الفلاني أو من القبيلة الفلانية، وقد ذكر هذا الجواب أو معنى هذا الجواب شيخ الإسلام ابن تيمية كما في “مجموع الفتاوى”.
الحال الثانية: أن يتمذهب بأحد هذه المذاهب الأربعة أو غيرها، أو يتعصب لهذه المذاهب، ويردّ الأدلة تعصبًا لهذه المذاهب، كما وجد عند كثير من المتأخرين في تعصبهم لهذه المذاهب، ويردُّون أدلة شرعية؛ لأنها تخالف ما عليه هذا المذهب.
فمثل هذا محرم، لا للتمذهب، وإنما لما ترتب على ذلك من التعصب.
أما قول السائل: وأنه أنكر نواقض الإسلام العشرة، وأنكر حصرها في العشرة، فهذا جهل من جهات:
الجهة الأولى: أن الإمام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى لم يحصر نواقض الإسلام في عشرة، بل ذكر في آخر النواقض أنها أكثر ما تكون وقوعًا.
لذا ذَكر العشرة لحاجة، وهي أنها أكثر ما تكون وقوعًا وانتشارًا، ولم يرد بذلك حصرها في هذه العشرة.
أما من الجهة الأخرى، فإن العلماء يحصرون كثيرًا من أمور الشريعة في أعداد معينة من باب التقريب، ولا يريدون بالحصر إخراج غيرها، وهم في ذلك متبعون لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة في الصحيحين: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ»، والموبقات ليست سبعة، بل أكثر من ذلك، وإنما ذكر هذه السبعة من باب التقريب لتحفظ، وهكذا في أحاديث كثيرة.
فإذا حصر العلماء شيئًا من العلم في أعداد لتقريب هذا العلم، فهذا ليس بدعة، ولا مُنكَرًا، بل هي طريقة نبوية، قد فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأؤكد أن الإمام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى لم يحصر هذه النواقض في عشرة، بل بين في آخرها أن أكثر ما تكون وقوعًا وانتشارًا.
لذا ذكر هذه العشرة ليعرفها الناس، وليكونوا في حذر من الوقوع فيها، فالمقصود: أنه ينبغي لطالب العلم، وينبغي لمن يريد الله والدار الآخرة، ولمن هو ناصح لنفسه ألا يتعجل في تبني مسائل علمية، وهذه المسائل لم يسبق إليها، وألا يصاب بالغرور، فإن الغرور والعُجب مهلكة، وينبغي له أن يتأنى، وأن يرجع إلى علماء عصره من أئمة السنة، فإن الرجل ضعيف في نفسه، يحتاج إلى إخوانه ولأهل العلم أن يقوموه.
أما من تربى على نفسه في طلب العلم وغير ذلك فإنها تكثر شواذه لاسيما إذا كان معجبًا بنفسه، لا يبالي بأقوال العلماء في عصره.
لذا تعجب أن يُتقدَّم بين يدي الشيخ العلامة صالح الفوزان، وأن يرد عليه لأنه دافع عن دعوة تجديدية، والدفاع عن هذه الدعوة التجديدية قد توارد عليه العلماء والمعاصرون، كالإمام العلامة ابن باز، والإمام العلامة محمد ناصر الدين الألباني، والإمام العلامة محمد بن صالح العثيمين.
ثم هكذا من قبل ذلك من أئمة السنة، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك، وتواردوا على ذلك خلال قرون ثلاثة.
أسأل الله الذي لا إله إلا هو أن يعلِّمنا ما يَنْفَعَنَا وأن يَنْفَعَنَا بما عَلَّمنا، وأن يرد من ضل من المسلمين وأخطأ إلى الهدى، إنه الرحمن الرحيم، وجزاكم الله خيرًا.