الحمدُ للهِ الذي أنعَمَ علينا بنعمةِ التوحيدِ، وأكَّدها بنعمةِ التوكُّلِ وإبطالِ التنديدِ، والصلاة والسلام على رسول الله سيد المتوكلين، وإمام الغُرِّ المُحَجَّلِينَ ﷺ.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
أما بعد:
فإنَّ مِن مقاصِدِ الإسلامِ مُخالفةَ كُلِّ نقصٍ، والدعوةَ إلى كُلِّ كمالٍ بشريٍّ، ومِن ذلك مُخالفةُ الشريعةِ لأهلِ الجاهليةِ، وهي الأفعالُ التي سببها الجهلُ لا العلمُ والعقلُ، قال تعالى: ﴿وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى﴾ [الأحزاب: 33].
قالَ أبو ذَرٍّ-رضي الله عنه- سابَبْتُ رجلًا فعيَّرتهُ بأمِّهِ، فقالَ ليَ النبيُّ ﷺ: «يَا أبَا ذَرٍّ، أعَيَّرتَهُ بأمِّهِ؟ إنَّكَ امرؤٌ فيكَ جاهليَّةٌ». رواهُ البخاريُّ ومسلمٌ.
ولأهلِ الجاهليةِ أفعالٌ كثيرةٌ أمَرَتْ الشريعةُ بمخالفتِهِم فيها كالفخرِ بالأحسابِ، والطعنِ في الأنسابِ، والنياحةِ عندَ المصائبِ، والاستسقاءِ بالنجومِ، والاغترارِ بالكثرةِ وجعلِهَا معيارَ صِحَّةٍ ونجاحٍ، والاحتجاجِ بالقدرِ على المعايبِ والأخطاءِ، وعدمِ اعتقادِ البيعةِ لولاةِ الأمورِ، والكبرِ … وهكذا.
وإن الفخرَ بالأحسابِ والطعنَ بالأنسابِ مشينٌ، ومن أهلِ الدينِ والمثقفينَ أشينُ وأقبحُ!.
عن أَبَي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيَّ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: « أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَتْرُكُونَهُنَّ: الْفَخْرُ فِي الْأَحْسَابِ، وَاطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ، وَالِاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ، وَالنِّيَاحَةُ » رواه مسلمٌ.
ومما هو شائعٌ عندَ أهلِ الجاهليةِ ضعفُ التوكلِ على اللهِ، لذا توهَّموا أسبابًا ضارةً فتشاءموا وتطيَّروا بها وتركوا مصالحَهُمْ لأجلِها، قال تعالى: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [المائدة: 23] وقال: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق: 3].
قالَ ابنُ القيمِ في كتابِهِ (مدارجُ السالكينَ): ” التَّوكُّلُ نِصْفُ الدِّينِ “.
فجاءَتْ الشريعةُ بذَمِّ التطيُّرِ، قالَ أنسُ بنُ مالكٍ -رضي الله عنه-: قالَ ﷺ: «لا عدوى ولا طيرةَ، ويُعجبني الفألُ». رواهُ البخاريُّ ومسلمٌ.
فلا يصِحُّ لأحدٍ أن يجعلَ السببَ الوهمِيَّ غيرَ الحقيقيِّ سببًا حقيقيًّا فيتطيرَ منهُ، كالتطيُّرِ بسماعِ صوتِ الغرابِ، أو رؤيةِ أعورَ، أو أعرجَ، أو سماعِ بعضِ الأسماءِ …وهكذا، فإنَّ هذهِ أسبابٌ وهميةٌ، ومن تطيَّرَ مِنها وقَعَ في الشركِ.
عن ابنِ مسعودٍ -رضي الله عنه- قالَ: قالَ النبيُّ ﷺ: «الطيرةُ شركٌ، الطيرةُ شركٌ، الطيرةُ شركٌ» ثلاثًا. رواهُ الترمذيُّ.
وهذا بِخلافِ الفألِ، بأن يكونَ الرجلُ عازِمًا على إجراءِ عمليةٍ جراحيةٍ وقبلَ إجرائها سَمِعَ رجلًا اسمُهُ سالمٌ، فيتفاءَلُ بهذا الاسمِ بأن يُشفى وأن يسلَمَ، فمثلُ هذا محبوبٌ إلى النبيِّ ﷺ وهو الفألُ، وفرقٌ بينَ هذا وبينَ التطيُّرِ فإنَّ الفألَ حُسنُ ظنٍّ باللهِ بخلافِ التطيُّرِ فإنهُ سوءُ ظنٍّ باللهِ.
ومن جعلِ الأسبابِ الوهميةِ حقيقةً وهو شركٌ ما يسمى (بأقفالِ الحبِ) بأن يعتقدَ بأنها سببٌ لدوامِ المحبةِ، ومن ذلك اعتقادُ لبسِ خاتمِ الخِطبة سببٌ لدوامِ الزواجِ ونجاحِهِ وأن خلعَهُ سببٌ لفشلِ الحياةِ الزوجيةِ!
اللهم احفظْ لَنَا توحيدَنَا وجَنِّبنا ما يُسخطُكَ وقوِّ توكُّلَنَا عليكَ وإنابَتِنَا إليكَ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، أمَّا بعدُ:
فإنَّ مِمَّا كانَ يتطيَّرُ بِهِ أهلُ الجاهليةِ شهرَكُمْ هذا شهرَ صفرٍ، وقد أبطَلَ هذا الإسلامُ؛ لأنَّ شهرَ صفرٍ ليسَ سببًا حقيقيًّا لحصولِ أضرارٍ أو مصائبَ، قالَ أبو هريرةَ -رضي الله عنه-: قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: «لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ، وَلَا هَامَةَ وَلَا صَفَرَ» متفقٌ عليهٍ.
قالَ البغويُّ-رحمه الله تعالى-: ” وقيلَ إنَّ أهلَ الجاهليةِ كانوا يستَشْئِمُونَ بصفرَ، فأبطلَ النبيُّ ﷺ ذلكَ “، أي أنهم كانوا يتشاءمونَ بشهرِ صفرَ كما يتشاءمونَ بالأعرَجِ وصوتِ الغرابِ والهامةِ وهيَ نوعٌ من الطيورِ.
ومِن آثارِ هذا التشاؤمِ الجاهليِّ أنَّ بعضَ الناسِ يقولُ: صفرُ الخيرِ، وهذا خطأٌ، فلا يُقالُ صفرُ الخيرِ ولا الشرِّ، وإنما هوَ كبقيةِ الشهورِ.
أيها الموحدونَ: تعاهدوا توحيدَكُمْ وتوحيدَ أولادِكُمْ، وقوُّوا توكُّلَكُم على ربِّكُمْ فما أسرعَ سريانَ أمورِ الجاهليةِ في المجتمعاتِ المسلمةِ، وسبيلُ النجاةِ من ذلكَ تعلمُ العلمِ الشرعيِّ، ومراجعتُهُ بالسماعِ للعلماءِ الموثوقينَ كالعلامةِ عبدِ العزيزِ ابنِ بازٍ والعلامةِ ابنِ عثيمينَ-رحمهُ الله- والعلامةِ صالح الفوزان- وفقه الله- لا سيِّمَا في التوحيدِ فما أكثرَهَا لمن ابتغاها وطلَبَها باليوتيوبِ وغيرِ ذلكَ.
اللهم يا مَن لا إلهَ إلا أنتَ قَوِّ إيمانَنَا وتوَكُّلَنَا وتوحيدَنَا ولا تَكِلْنَا إلى أنفُسِنا يا رَبَّ العالمينَ، اللهم احفظ لنا توحيدَنَا الذي بِهِ نَجَاتُنَا، وزِدْنَا توحِيدًا وتُقى ورِضًا لكَ يا أرحمَ الراحمين، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ وأهلِكِ الكفرَةَ يا قويُّ يا عزيزُ، اللهم وفِّق وليَّ أمرِنا ووليَّ عهدِهِ لما فيهِ رِضاكَ واجعلهُمْ رحمةً على المسلمينَ ووفِّق جميعَ حكامِ المسلمينَ لذلكَ.
وقومُوا إلى صلاتِكُم يَرْحمْكُمْ اللهُ.