الخطبةُ الأولى:
الحمدُ للهِ الَّذِي علَّمَ بالقلمِ، علَّمَ الإنسانَ مَا لَمْ يعلَمْ، والصَّلاةُ والسَّلامُ علَى مُعلِّمِ الناسِ الخيرَ نبيِّنًا محمدٍ، بعثَهُ اللهُ ﴿رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ اللهُمَّ صَلِّ وسلِّمْ وبارِكْ عليهِ تسليمًا كثيرًا.
وَأشهدُ أن لَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدهُ لَا شريكَ لهُ وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ … أمَّا بعدُ:
فإنَّهُ قبلَ بعثةِ النبيِّ ﷺ كانَ الناسُ في جاهليةٍ جهلاءَ، فأنارَ اللهُ البشريةَ بالوحيِ، قالَ تعالَى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ [الجمعة: 2] وَرَوَى الإمامُ مسلمٌ عَنْ عِيَاضِ بنِ حِمَارَ أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «وَإِنَّ اللهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ، إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ».
والوحيُ: هُوَ الكتابُ والسنةُ، وَهُوَ العِلْمُ الشَّرْعِيُّ، قَالَ تعالَى: ﴿وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنْ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 145] ولأهميةِ العلمِ فإنَّ اللهَ لم يأمر نبيهُ ﷺ أنْ يزدادَ مِنْ شيءٍ إلَّا مِنَ العلمِ، قال تعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه: 114] ولمكانتهِ جَعَلَ الذين يخشونهُ حقًّا هم العلماءُ الشرعيونَ، قالَ تعالَى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28] ولعلوِّ منزلتهِ غايَر بينَ العالِمينَ بالعلمِ الشرعيِّ والجاهلينَ كمَا غايَرَ بينَ أصحابِ النارِ وأصحابِ الجنَّةِ فقالَ: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: 9] وقالَ تعالى: ﴿لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ الْفَائِزُونَ﴾ [الحشر: 20].
وَمِنْ عظيمِ تأثيرِ العلمِ الشرعيِّ أنَّهُ جعلَ صيدَ الكلبِ المُعلَّمِ جائزًا بخلافِ غيرِ المُعلَّمِ مِنَ الكلابِ، قالَ تعالَى: ﴿وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ [المائدة: 4].
وقَدْ تكاثرَتْ فضَائلُ العلمِ الشرعيِّ في السُّنةِ النبويَّةِ، عنْ معاويةَ بنِ أبي سفيانَ -رَضِيَ اللهُ عنهُ-قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» مُتَّفقٌ عَلَيْهِ، وَعَنْ أبِي هُريرةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَرَوى مسلمٌ عن أبي هريرةَ -رضيَ اللهُ عنهُ- أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: «وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ».
فاحْرِصْ يا عبدَ اللهِ أنْ يكونَ لكَ نَصِيبٌ مِن هذهِ الفضائِلِ الأربَعِ، فيا للهِ كَمْ فيها مِن انْشِراحِ صَدْرٍ وأُنسٍ وراحةِ بالٍ.
وَرَوى الإمامُ البخاريُّ في تاريخِهِ عَنْ أبِي موسَى الأشعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّهُ قَالَ: “ لَمَجْلِسٌ أَجْلِسُهُ مِنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَوْثَقُ فِي نَفْسِى مِنْ عَمَلِ سَنَةٍ “.
يا عباد الله،
اِعْلَمُوْا أنَّ طلَبَ العِلمِ الشَّرعِيِّ مِنْ أفضَلِ العِبَادَاتِ التَّطوّعيَّةِ، فهُوَ أفضَلُ مِنْ صلاةِ النافلةِ وَقِراءةِ القرآنِ، رَوَى ابنُ عبدِ البرِّ عَنْ أَبِي هريرةَ، وأَبِي ذَرٍّ قَالَا: بابٌ مِنَ العلمِ يتعلَّمُهُ أَحَبُّ إِلينَا مِنْ أَلْفِ رَكْعَةِ تَطَوُّع. وعَنِ الزُّهْريِّ قالَ: ” مَا عُبِدَ اللهُ بمثلِ العلمِ “.
أيها المسلمون،
إنَّ الأدِلَّةَ الدَّالةَ علَى فضلِ العلمِ خاصَّةٌ بالعلمِ الشَّرعيِّ كمَا بيَّنَ ذلكَ العلماءُ، وَلَا يَدْخُلُ في ذلكَ علمُ الهندسةِ والطبِّ وعِلمُ غيرِهِمَا مِنْ علومِ الدنيَا -مَعْ أهميتهَا وحصولِ الأجرِ لِـمَنْ تَعلَّمهَا بنيَّةٍ حسنةٍ لنفعِ المسلمينَ وغيرِ ذلكَ مِنَ المقاصِدِ الحَسَنَةِ.
أَقولُ مَا قُلتُ، وأستغفِرُ اللهَ لي ولَكُمْ فاستغفروهُ إنَّهُ هوَ الغفورُ الرَّحيمُ.
الخطبةُ الثانيةُ:
الحمدُ للهِ الَّذِي أكمَلَ لنَا الدِّينَ، وأتمَّ علينَا النِّعمةَ، وجعلَ أمتنَا خيرَ أُمَّةٍ، وبعثَ فينَا رسولًا يتلوْ علينَا آياتَه ويُزكِّينَا ويُعلِّمُنَا الكتابَ والحِكمةَ … أمَّا بعدُ:
فإنَّ الحياةَ قصيرةٌ ولَمْ نُخْلَقْ فيهَا إلَّا لعِبَادةِ اللهِ، قالَ تعالَى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56] ولَا تصِحُّ العبادةُ إلَّا بالعِلمِ الشَّرعيِّ؛ لأنَّ حقيقةَ العلمِ الشَّرعيِّ: الطريقُ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ لنَا في دُنْيَانَا لنصِلَ لمِرْضَاتِهِ في الآخِرَةِ، وبعدَ هذَا، إِليْكُمْ تنبيهَاتٍ مهمَّةً:
التَّنبيهُ الأوَّلُ: العلمُ الشرعيُّ مِنْ حيثُ الجملةُ نوعانِ: فرضٌ ومُستحبٌّ، ومِنَ الفَرضِ ما هوَ فرضٌ على كلِّ أحدٍ، كمَعرِفَةِ التوحيدِ والاعتقادِ في اللهِ سبحانهُ، ومعرفةِ الوضوءِ والغُسلِ ونواقِضِهِمَا وشُروطِهِمَا، ومعرفةِ الصلاةِ وأركانِهَا وشروطِها، ومِنَ الفُرُوضِ ما يَختلِفُ باختلافِ الناسِ، فمَنْ كانَ لديهِ مالٌ فيتعلَّمُ أحكامَ الزكاةِ بخلافِ غيرهِ، ومَنْ كانَ تاجرًا ببيعٍ وشراءٍ فيتعلَّمُ أحكامَ البيعِ والشراءِ دونَ غيرهِ، وما سِوَى ذلكَ مِنَ العلومِ الشرعيةِ فهوَ مُستحبٌّ.
التَّنبيهُ الثَّاني: أنَّ الناسَ مِنْ حيثُ الجملةِ قسمانِ: إمَّا طالبُ علمٍ، فهذَا يتلقَّى العلمَ بدليلهِ بعكوفهِ عندَ العلماءِ الموثوقينَ، وإمَّا أنْ يكونَ عاميًّا -وهُمْ أكثرُ الناسِ- فهُمْ يتلقَّوْنَ باستِفتَاءِ مَنْ يثقونَ بهِ مِنْ أهلِ العلمِ، قالَ تعالَى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43] فإذَا أمكنَ معرفةُ الدليلِ فهوَ أكملُ.
التَّنبيهُ الثَّالثُ: فضلُ العلمِ ليسَ مقصُورًا على طلَّابِ العلمِ المتخصِّصينَ، بَلْ يشمَلُ كُلَّ مَنْ طلَبَهُ حتَّى مِنْ عامَّةِ الناسِ، بأَنْ يحضرُوا بعضَ الدُّروسِ أوْ أَنْ يستمعوْا إليهَا مِنَ اليوتيوبِ وَغَيْرهِ، أَو بالقراءةِ في الكتبِ النافعةِ ككتابِ التوحيدِ، و(الأصولِ الثلاثةِ) لشيخِ الإسلامِ محمدِ بنِ عبدِ الوهابِ، أو (العقيدةِ الواسطيةِ) لشيخِ الإسلامِ ابنِ تيميةَ، أَوْ (رياضِ الصالحينَ) للنَّوَويِّ.
التَّنبيهُ الرَّابعُ: اِحرِصْ علَى نَشرِ العلمِ في بيتِكَ مَعْ زوجِكَ وأولادِكَ وإخوانِكَ أو أقارِبِكَ، فإنْ كنتَ طالبَ علمٍ فبتدريسِهِم، أَوْ بأنْ تجتمعَ وإيَّاهُمْ على سماعِ شروحِ العلماءِ الموثوقينَ في التوحيدِ وأحكامِ الشريعةِ كالعلَّامةِ عبدِ العزيزِ بنِ بازٍ، والعلَّامةِ محمدِ بنِ صالحٍ العثيمينَ، والعلَّامةِ صالحٍ الفَوزَانِ، وسماحةِ المُفتي العامِّ، وغيرهِم مِنَ العلماءِ الموثوقينَ.
التَّنبيهُ الخامسُ: تعاهَدْ نفسَكَ وزوجَكَ وأولادَكَ ومَنْ تحتَ يدِكَ في تَذَكُّرِ أساسيَّاتِ العلمِ، فإنَّهُ وإِنْ سبَقَ دراستُهَا لكنَّهَا تُنْسَى مَعَ مشاغِلِ الحياةِ والانشغالِ بوسائلِ التواصلِ وغيرِ ذلكَ، فتعاهَدْ نفسكَ في حفظِ دعاءِ الاستفتاحِ والتحيَّاتِ وأذكارِ الصباحِ والمساءِ ولأذكارِ بعد الصلاةِ وغيرِ ذلكَ.
أيُّها الآباءُ، إنَّ أبناءَنَا على أبوابِ الدِّراسَةِ النِّظامِيَّةِ، فَحَرِّصوهُم على ضبطِ العلومِ والمعارِفِ النَّافِعَةِ، فهيَ قِوامُ الأفرادِ والمجتمعِ والدُّوَلِ.
أيُّها المعلمونَ، استَشْعِروا ما بينَ أيديكُمْ مِن أمانَةِ الطُّلَّابِ، فقَدْ اشْرَأَبَّتْ أعناقُهُم وشَخُصَتْ أبصارُهُم للتَّلَقِّي عنكُمْ، فكونُوا قُدْوَةَ خيرٍ و علِّموهُم ما ينفَعُهُمْ في دينِهِ ودُنياهُم، إنَّهُم بِناءُ الأُسَرِ والمُجتمعِ والدُّوَلِ في المستقبلِ، فأحسِنُوا البِنَاءَ وشَيِّدُوهُ لِتَرتقِي مجتمعاتُنَا وتتقدَّمَ في كُلِّ خيرٍ.
اللهُمَّ إنَّا نعُوذُ بِكَ مِنْ علمٍ لا ينفَعُ، ومِنْ قلبٍ لا يخشعُ، ومِنْ دعاءٍ لا يُسمعُ، ومِنْ نفسٍ لا تشبعُ.
اللهُمَّ يا مَنْ علَّمتَ أبانَا آدمَ وخليلكَ إبراهيمُ علِّمنَا وبالشريعةِ فَقِّهْنَا.
وقُومُوا إِلى صلاتِكُم يرحمْكُمُ اللهُ.
ضرورة العلم وبعض التنبيهات